طوبى لغزة ”جمل المحامل” ومرحى لحماس ”ام الفصائل”

يا لامجاد غزة واخواتها..

يا لروعة تكبيراتها الشجية، وتهليلاتها الندية، وتسبيحاتها العطرية العابرة للسماوات العلى..

يا لدعاء مآذنها، ونداء مساجدها، وحداء بنادقها، وصهيل صواريخها، وصليل البأس والبطولة في قلوب شجعانها وفرسان مقاومتها.

هي غزة التي يحق لها، بعد خمسين يوماً من الثبات والصمود والتضحيات، ان تنزع ”نقطة الغين” عن مطلعها ليصبح اسمها ”عزة” بعدما فاضت على العرب جميعاً بشآبيب العز والفخر، ورفعت رؤوسهم عالياً بين الامم، وارغمت الطاووس المهزوم المدعو نتنياهو على تنفيس غروره، وتنكيس راياته، وتلحيس تبجحاته وعنترياته التي دلقها في مسامع العالم اجمع.

غزة لا تحتاج لمن يطريها او يزكيها، فهي معجزة بحق، وهي اسطورة في حد ذاتها، وهي ”بنت الشاطئ” الملوحة بوهج الشمس، وهي قدوة في الصبر والبذل والتجلد والتحمل لكل المدن العربية الجريحة والرازحة هذا الاوان تحت وطأة التفجير والتدمير في سوريا وليبيا واليمن والعراق.. ذلك لان غزة وعد بالاعمار والانتصار لا يلبث ان يتحقق، وطائر فينيق لا يلبث ان ينبعث من اكوام الرماد.

غزة لا تنتصر او تنكسر الا على طريقتها الخاصة، فهي خارج القياسات العادية والارقام الحسابية والكسور العشرية، وكثيراً ما تمنح الانتصار صيغة الاستشهاد، وتصنع من شظايا الدمار منصة للانتصار، وتحول العثرات والثغرات ونقاط الضعف الى عناصر قوة ومنعة واقتدار، وتترك لاعدائها ان يخدعوا انفسهم ويتوهموا انهم قد نالوا منهاوانتصروا عليها، بينما العكس هو الصحيح.

لا جدال ولا سجال حول انتصار غزة ومقاومتها البطلة في المنازلة الاخيرة.. فهو انتصار ميداني ومعنوي مؤزر ومبين بدلالات كثيرة لا لزوم لتعدادها، غير ان انتصارات غزة لا تتجلى للناظرين الا وفق مواقفهم وعواطفهم المسبقة، فان كانوا من المخلصين والغيارى والمحبين تبدت لهم هذه الانتصارات بكل جلاء ووضوح، اما ان كانوا من الكارهين والحاقدين والمزايدين فلن يبحثوا الا عن السلبيات، ولن ينظروا الا من وراء نظاراتهم السوداء، ولن يتورعوا عن ذم وشتم الورد لانه ”احمر الخدين”.

لا مباعدة او انفصاماً بين غزة والمقاومة، الا بقدر انفصام القلب عن نبضه، والجسد عن روحه، والنهر عن مجراه، والقمر عن مسراه.. فالمقاومة اتاحت لقطاع غزة المحدود ان يصبح بحجم قارة، وان يتصدى لجيش موشيه دايان قبل موشيه يعلون، وان يحظى باهتمام واحترام العالم من بوليفيا حتى اندونيسيا، وان يعيد توجيه البوصلة العربية والاسلامية صوب فلسطين بعدما انحرفت بها عصابات الدواعش والعراعير ومجاهدي المناكحة نحو الحروب الاهلية والفتن الطائفية والمذهبية.

ومع كل التقدير والاحترام لسائر القوى والفصائل الفلسطينية المقاتلة، فليس لهذه القوى من عنوان غير حركة حماس، لا لانها الاصلب عوداً والاكثر عدداً والاغزر عدة وعتاداً فحسب، بل لانها الاكثر عطاءً وفداءً وتضحيات، ولانها الارجح عقلاً والارحب افقاً والاقدر على القيادة والريادة وتجشم الصعاب وقراءة المتغيرات ومجابهة التحديات.. فهي ”ام الفصائل” التي لم تتورع مؤخراً عن نبذ الحكم والحكومات، واستعادة برنامجها الكفاحي وخيارها المسلح، وخوض منازلة باسلة دامت خمسين يوماً، وفرض اختبار بالنار على الجيش الاسرائيلي الذي رسب في الامتحان وثبت انه لم يعد اسبرطياً ولا حتى مالطياً.

حماس لم تهزم اسرائيل، ولكنها لم تنهزم امامها، بل دحرت عدوانها وكسرت شوكتها وكشفت عورات جيشها وتركت لها ان تهزم نفسها عبر تأجيج صراعاتها السياسية وتفجير جبهتها الداخلية (اسرائيل بدورها ستحاول تفجير الساحة الفلسطينية).

حماس لم تنتصر على اسرائيل، ولكنها انتصرت على حلفائها الجدد من الموتورين المستترين خلف جلودهم العربية، والمراهنين على الجبروت الصهيوني لسحق عظام المقاومة، وتجريدها من السلاح، والحاقها بسلطة عباس، واحتجازها في بيت الطاعة.

حماس لم تنتصر كثيراً هذه الجولة، ولكنها حجزت منذ الآن منصة الانتصار في الجولة المقبلة التي ستخوضها، ليس من قطاع غزة فحسب بل من عموم فلسطين، وليس عبر الصواريخ والكمائن والانفاق فقط بل عبر اسلحة وتقنيات وتكتيكات نوعية جديدة وشديدة، بعدما برهنت السنوات القليلة الماضية ان الفصائل والجماعات المسلحة يمكن ان تدوخ اقوى الجيوش المحترفة، وان صناعة الذبح والتوحش يمكن ان تنتقل بالعدوى لتلامس اعناق الجنود الصهاينة، ولو من قبيل الرد على صيحات وزير الاقتصاد الاسرائيلي نفتالي بينت الاخيرة التي اعلن فيها بكل وقاحة وصراحة ”ان قتل الفلسطينيين يجلب الحياة لليهود”.

اين كنا واين اصبحنا – يا سادة – فاسرائيل التي كانت تهدد المشرق العربي بأسره اصبحت تتنادد مع حركة حماس، وتعجز عن حماية مطار بن غوريون، وتخشى ان تتقدم كيلومتراً واحداً في قطاع غزة، وهي التي دأبت طوال حروبها في السابق على نقل المعركة سريعاً الى الاراضي العربية واحتلالها واستيطانها والاقامة فيها ما اقام عسيب.

اين كنا واين اصبحنا – يا سادة – فاليمين الاسرائيلي الليكودي والتلمودي الذي طالما ارغى وازبد.. هدد وتوعد، وصل بعد منازلة غزة الى مأزقه الوجودي والتاريخي، ولم يعد امامه سوى احد خيارين : فاما التمادي في العناد وعب الماء المالح ومفاقمة الازمات الداخلية، واما التنحي عن السلطة وافساح المجال امام طواقم اخرى من مدرسة شمعون بيرس ودهاقنة الالاعيب السياسية، والمناورات الدبلوماسية، والمفاوضات الحلزونية، والضحك على الذقون العربية.

سلطة عباس المقزمة وصلت هي الاخرى الى مأزقها الوجودي، ولولا تشبثها بقوة الاستمرار والتحاقها القسري بركب المقاومة في غزة لما بقي اي مبرر وطني لجلوسها الراهن على صدور الفلسطينيين.. فقد اثبتت منازلة غزة ان الحياة ليست مفاوضات كما توهم المدعو صائب عريقات.. اثبتت ان هناك وسائل اخرى لمحاورة الاعداء وانتزاع الحقوق.. اثبتت ان صواريخ المقاومة ليست كرتونية ولا محض العاب نارية، وفق ما زعم عباس ذات يوم قريب، بل هي جوارح صالت وجالت كثيراً في فضاء اسرائيل، واستطاعت شل الحياة في عقر تل ابيب، وحشو الملاجئ بآلاف الصهاينة المذعورين، وتكبيد اقتصاد العدو مليارات الشواقل والدولارات.

اما حماس التي خرجت من هذا المعمعان ظافرة وفائزة سياسياً وعسكرياً وعلى غير صعيد فلسطيني وعربي واسلامي، فقد اصبحت فجأة في بؤرة الاضواء، وباتت محط انظار ومتابعات – وربما مؤامرات – الكثير من دول العالم، وامست كل خطوة تخطوها مرصودة بدقة ومحسوبة لها او عليها.. فالخطأ في هذه الحالة سرعان ما يغدو خطيئة، والغلطة سرعان ما تتحول الى ورطة.. الامر الذي يحتم على القيادة الحمساوية ان تدقق في حساباتها، وتتلمس مواقع اقدامها، وتحذر كل الحذر من عواقب التمحور وشرور الغرور.

ليس في صالح حماس ومشروعها الوطني والتحرري، ان تدخل لعبة المحاور والاصطفافات العربية والاقليمية.. السياسية والاعلامية، وان تجير ذاتها وانتصاراتها لحساب معسكر دون آخر، وان تعيد انتاج استزلاميات ياسر عرفات اياها لعاصمة عربية في مواجهة الاخرى، وهو ما ادى – كما نعلم – الى استنزاف طاقات حركة فتح ومعظم فصائل منظمة التحرير في معارك جانبية، واقحامها في اتون صراعات المحاور والمعسكرات العربية المتناحرة، واشغالها عن التفرغ للنهوض بمبرر وجودها واقدس مهماتها في مقارعة العدو وتحرير التراب الوطني المحتل.

فاصل ونواصل.. ننحني بين يدي كبرياء غزة، دوحة هاشم وديدبان البحر وجمل المحامل وقارئة القرآن وليس الفنجان، وننادي في حضرتها على ابناء امتنا العربية كافة، كي يهبوا الى نجدتها ومساندتها ومد يد العون السخي لها، لعل في ذلك ما يخفف احزان الثكالى، ويبلسم جراح الجرحى، ويرفع معنويات المرابطين، ويسهم في تعمير ما طاله التدمير.. وكان الله في عون العبد، ما دام في عون اخيه !!

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحية الى الخال المناضل القومي فهد الريماوي حفظه الله

    عرفناك دائما وبقيت انت كما انت حاملا للمباديء العربية المقاومه خيارك دائما الى جانب العروبة بروحها الاسلام هي بوصلتكم ان كلماتك وموقفك نعتز به دائما وما يخص المقاومه في غزه قلت الحق الحق في جل مقالك (لا جدال ولا سجال حول انتصار غزة ومقاومتها البطلة في المنازلة الاخيرة.. فهو انتصار ميداني ومعنوي مؤزر ومبين بدلالات كثيرة لا لزوم لتعدادها، غير ان انتصارات غزة لا تتجلى للناظرين الا وفق مواقفهم وعواطفهم المسبقة، فان كانوا من المخلصين والغيارى والمحبين تبدت لهم هذه الانتصارات بكل جلاء ووضوح، اما ان كانوا من الكارهين والحاقدين والمزايدين فلن يبحثوا الا عن السلبيات، ولن ينظروا الا من وراء نظاراتهم السوداء، ولن يتورعوا عن ذم وشتم الورد لانه ”احمر الخدين”.)

زر الذهاب إلى الأعلى