في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي

                                         بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب محفوظ)
 
في مثل هذا اليوم (٢٨/ ٩) من عام ١٩٧٠، زلزلت الأرض زلزالها، وألقت الأقدار أهوالها، وعزفت الفجيعة موالها، وردمت الأهرام أطلالها، وناحت مصر بأعلى الصوت من حُرقة ما جرى لها.. فقد غافلها ملاك الموت واختطف – من وراء ظهرها – خيرة رجالها، ومعقِل آمالها، ومناط رجائها، وراعي ثورتها ومسيرتها، الرئيس جمال عبد الناصر، الذي قضى واقفاً في حومة الوغى، وصامداً في معترك النضال، ومزمجراً متأهباً للأخذ بالثأر من أوباش اليهود.

يومذاك كانت المفاجأة صاعقة وغير قابلة للتصديق، فهي أكبر من قدرة العقل على تفهّمها، وطاقة الحواس على تقبّلها، وقوة الأعصاب على تحمّلها.. فقد طرأت دون سابق إنذار، وجاءت من خارج كل الحسابات والتوقعات، وداهمت الأمة العربية على حين غِرة، وباغتت العالم سريعاً ومن حيث لا يحتسب، وأتاحت للذهول ان يسيطر على الأعداء والأصدقاء على حد سواء.. فالرئيس الراحل عملاق سياسي يتربع على قمة الكاريزما، ويتبوأ مكانة مرموقة شديدة الحضور والتأثير في العلائق والمعادلات الإقليمية والدولية، ولسوف يترتب على غيابه الكثير من العواقب والمتغيرات، نظراً لتفرده وتميزه واستحالة ان يخلفه رئيس على مثل عَظَمته وشموخه.

بعدها نعى الناعي فقيد القومية العربية الكبير، وسيطر على مصر وشعوب العالم العربي شعور قاتل بالفقدان والخسران، ورأيتَ الناس يدخلون في متاهات الحزن أفواجاً، ورأيتَ رايات الحداد والسواد تعلو لتغطي وجه السماء، ورأيتَ جنازةً أسطوريةً في القاهرة وأخريات رمزيات تملأ خطوط الطول والعرض في ديار العرب وهي تُشيع جثمان الفقيد الكبير الى مثواه الأخير، ورأيتَ ملايين العيون الملتاعة تفيض سخية بدموع غزيرة وعزيزة.. ويا إلهي ما أغلى الدموع حين نذرفها على الأبطال، وما أكرم الدماء حين نبذلها لتحرير الأوطان، وما أشرف الحروف حين نكتبها في رثاء العظماء، والترحم على القادة الطاعنين في النضال، والمدججين بالحمية والكبرياء.

كان الكرب الشعبي العربي الجسيم على رحيل “أبي خالد” مساوياً لموسوعة شعبيته، ومساحة الولاء له والثقة به والإعتماد عليه، كما كان تعبيراً مُبكّراً عن طائفة المخاوف من المبني للمجهول الذي يتربص بمستقبل الأمة العربية في غيابه.. فقد كان الراحل الجليل مصدر أمان واطمئنان لكل عربي، وصاحب هِمةٍ إتسعت لمجمل آمال وآلام الأمة، وباعث روح معنوية وإرادة كفاحية ومطامح نهضوية في سائر أرجاء مصر والوطن العربي.. وهيهات ان يملأ مكانه اي خَلفٍ من بعده، ذلك لان أمثاله من فلتات الزمان وأساطينه لا يتكررون كل يوم، او حتى كل قرن.

للجماهير الشعبية حدسها الشفاف، وفطرتها الوطنية، وبصيرتها العفوية، وبوصلتها التلقائية، التي تهتدي بها جميعاً للتمييز بين الحكام الصادقين والمنافقين، والنفاذ بموجبها الى أعماقهم وسرائرهم ودخائلهم، والتعرّف على كُنه حقيقتهم ومدى مصداقيتهم، فتراهن على البعض الأمين الصادق، رغم ما قد يتعرض له من حملات التشويه والتشكيك الشرسة، فيما تدير الظهر للبعض المزيف والمنافق، رغم كل ما يحيطه من ألوان التجميل والتبجيل، وآيات الثناء والإطراء.. المدفوعة الثمن في غالب الأحيان.

ربما لهذا السبب بقيت جماهير الشعب العربي على قيد الولاء والتأييد لعبد الناصر “الجريح”، وأدامت الثقة به والتمسك بقيادته، بعد نكسة حزيران المروعة عام ١٩٦٧.. حيث خرجت بالملايين في مصر وسواها ترفض تنحيه عن سدة الرئاسة، ثم شكّلت أروع استفتاء على شعبيته وأهليته القيادية، من خلال استقباله الشعبي السوداني الخارق، لدى حضوره – بعد شهرين فقط من النكسة – مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، الذي خرج باللاءات الثلاثة المعروفة: لا صلح ولا إعتراف ولا مفاوضات مع العدو الصهيوني.

كانت الثقة مطلقة لدى الجماهير العربية بحسيبها وحبيبها عبد الناصر، وكانت على كامل اليقين ان هذا القائد “الصعيدي” الحر العنيد لا يقبل الضيم، ولا يرتضي المذلة، ولا يطيق الانهزام ورفع الراية البيضاء، بل سيسارع الى إعداد العدة الحرببة والجاهزية العسكرية لملاقاة العدو الصهيوني في أقرب وقت، وانتزاع النصر والأخذ بالثأر مهما بلغت التضحيات، وبما يحول نكسة حزيران الى واقعة ظرفية عابرة لا محل لها في ذاكرة التاريخ.. ولكن يد القدر – وربما الغدر – اختطفته في لحظة حاسمة، وهو يخوض حرب الإستنزاف التي كانت فاتحة التمهيد لمعركة العبور الفاصلة.

هذا الشغف الإستثنائي الذي طالما جسّد وأكّد “العروة الوثقى” بين “أبي خالد” وجماهيره العربية – وحتى العالمثالثية في أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية – لم ينبع من متاهات الفراغ، او يطلع من مرابع العشوائية والمصادفات، بل انبثق من دوافع ذهنية وفكرية واعية، وحوافز وجدانية وعاطفية جياشة على حد سواء.. فقد اقترن الولاء الشعبي المُسيّس لهذا القائد المقدام بالإعجاب الرومانسي حد الانبهار بشخصيته الكاريزمية الطاغية، وأخلاقه الشخصية السامية ومناقبه وسجاياه الرفيعة والمترفعة، الى درجة تعليق صوره في ملايين المنازل العربية، وإطلاق إسمه على آلاف المواليد العرب والمسلمين.. تيمّناً وإستبشاراً وإقتداءً.

للبطولة، في الخاطر والمعيار والاعتبار العربي، سحرها وعطرها وألقها الساطع.. فالعربي، بحكم نشأته الصحراوية وعزته القَبَلية، دائم التشوق للبطولة، والتبجيل للزعامة، والتمجيد للفروسية، والتغني بالبأس والبسالة ورباطة الجأش، وقد وجدت الطبقات الشعبية العربية المكلومة بالنكبة الفلسطينية، والمتعطشة لظهور بطل صنديد من بين صفوفها، ضالتها المنشودة في فارسها المصري المقدام جمال عبد الناصر، الذي فجّر ثورة وطنية مزلزلة، وأطلق حركة قومية عارمة، واستنفر أجمل وأنبل ما في الشخصية العربية، وقاد مسيرة نضالية مُظفّرة قلبت موازين القوى في عموم الشرق الأوسط، وطردت الاستعمار الكولونيالي الاوروبي من الحيّزين العربي والإفريقي.

وبالمقابل، كان “أبو خالد” مُفعماً بروح المسؤولية القومية، ومسكوناً بالإعزاز والإخلاص لكل لشعوب العربية، وحريصاً على إحترام إرادتها وتبني أهدافها وتطلعاتها، وملتزماً بصون مصالحها وحقوقها في الحرية والكفاية والعدل، ومُتبسطاً في مخاطبتها بمفردات المودة ولغة الجمع بين الدعابة والمهابة، ومؤمناً بقدراتها على صناعة المعجزات وتحقيق المستحيلات.. فهو الذي أكد غير مرة “ان الشعب هو القائد والمعلم”، وهو الذي طالما تسلح بشجاعة الشعوب في خوض معاركه الوطنية والتحررية الكبرى، والإستقواء بها في مواجهة خصومه من حكامها العملاء الأوغاد، الذين لا يرون صورهم الا في المرايا الأمريكية والصهيونية.

كم كان جمال عبد الناصر شفافاً ومُعبّراً بكل الصدق عن حقيقته ودخيلة نفسه، حين قال ذات خطاب شهير في تحية الجماهير العربية: “لقد أعطيت هذه الثورة العربية عمري وسيبقى لهذه الثورة العربية عمري، ولسوف ابقى هنا، ما أراد الله لي البقاء، اقاتل بجهدي كله من اجل مطالب الامة العربية، واعطي حياتي كلها لحق الجماهير في الحياة. لم تكن عندي أحلام في مجد شخصي فلقد اعطتني أمّتي هذه من المحبة والتقدير والتأييد ما لم يكن يخطر ببالي في وقت من الأوقات، وليس عندي ما اعطيها غير كل قطرة من دمي”.

وعليه.. وفي مثل هذا الوقت قبل ثلاثة وخمسين عاماً حُمّ القضاء، وفقدت مصر وامتها العربية رجلاً بحجم قارة من العزم والحزم والعنفوان.. صعدت روحه الطاهرة الى بارئها، وانطفأت شعلة الحياة في الجسد المُسجى على سرير الغياب.. غير ان منارات “العروة الوثقى” بينه وبين جماهيره العريضة لم تنطفئ او يخبو ضياؤها، فالراحل الغالي لم يغادر أفئدة جموع المحبين، ولم يبرح الذاكرة القومية العربية حتى يومنا هذا.. وليس من المبالغة او المزايدة القول ان رحيله لم ينتقص من حضوره وافتقاده والترحم عليه، وإستذكار مواقفه والحنين الى أيامه، كلما نزلت بهذه الأمة نازلة، او أصابتها مصيبة، او ذلّ حكامها وأسلموا زمام أمورهم لليانكي الأمريكي الشرير.

هل هناك في مصر مَن لم يفتقد عبد الناصر ويتحسر على عهده ومجده، بينها هو يشاهد، من خلف إمارات الغضب وعلامات التعجب، كيف يسكت حكامه الجبناء عن الحبشة وهي تعتقل نهر النيل في جوف سدودها وسجونها، وكيف يبيعون جزيرتي تيران وصنافير بسعر الجواري في سوق المتعة السعودية، وكيف يتركون لطوابير الغلابى والطبقات المصرية الكادحة ان تلهث، ليل نهار ، لمطاردة الحد الأدنى من ضروريات الغذاء والكساء والدواء ؟؟ وهل هناك في الوطن العربي مَن لم يقارن، بمنتهى الأسى والأسف، بين منازلات “أبي خالد” الجسورة، وتنازلات حكام الفساد والخيانة والتطبيع من المحيط الى الخليج ؟؟

أغلب اليقين ان الشعر أرحب وأعذب من السياسة، وان الشعراء أرق وأصدق من الساسة.. فالشعر باقات من الروعة والإبداع، بينما السياسة طبقات من التعمية والتدليس.. الشعر عزفٌ بأجنحة العاطفة على أوتار الخيال، بينما السياسة قصفٌ بمدفعية الواقع وفقاً للمطامع والروادع.. وفيما اختلف مع عبد الناصر رهط من دهاقنة السياسة وأنجاسها الذين في قلوبهم مرض، فقد تغنى الشعراء بشهامته وكبريائه وإنجازاته الهائلة – حضورياً – في حياته، ثم أنصفوه وبكوه ونعوه ورثوه بأبلغ المفردات والصياغات – غيابياً – بعد وفاته، وأبوا ان يخاطبوه “بضمير الغائب”، بل أصرّوا وتصوروا انه ما زال حياً قوي الحضور والتأثير، وسيبقى مارداً خالداً على مدى الأعوام والدهور.

هل أتاكم قول نابغة القوافي العربية، الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في رثاء “أبي خالد”..

أكبرتُ يومَـكَ أن يكون رثـــــاءَ      الخالدون عهدتُهم أحيـــــاءَ
أَوَ يرزقون ؟ أجلْ وهذا رزقهم      صنو الخلود وجاهــــةً وثراءَ
قد كنتَ شاخصَ أمّةٍ، نسماتِها     وهجيرَها والصبحَ والإِمساءَ
ألقتْ عليك غياضَها، ومروجَها     واستودعتْكَ الرملَ والصحراءَ

او قول مايسترو الرومانسية الشعرية العربية، ومهندس لغة الياسمين الدمشقية نزار قباني ..

زمانك بستانٌ وعصركَ أخضرُ     وذكراكَ عصفورٌ من القلب ينقرُ
دخلتَ على تاريخنا ذات ليلةٍ     فرائحةُ التاريخ مســـكٌ وعنبرُ
لمسْتَ أمانينا فصارتْ جداولاً    وأمطرتنا حُبّــاً ، ولا زلتَ تمطرُ
تضيق قبور الميتين بمن بها     وفى كل يوم أنت فى القبر تكبرُ

او قول ابن الناصرة، الشاعر الفلسطيني الموجوع، والرازح تحت سقف الإحتلال الصهيوني، محمود دسوقي ..

يا مصر هل صدق النّعاة؟ ألا اخبري
                             هل مات؟ لا ما مات عبدُ الناصرِ
هذي مبادئهُ وهــذا دربــهُ
                            نمشي عليهِ على امتدادِ الأعصرِ

وقبل الختام، بقي في بالي وخاطر قلمي التأشير الى “شهادة” في أمانة “ابي خالد” ونزاهته ونقاء سيرته وسريرته، قدمها واحدٌ من ألدّ أعدائه، وهو المسؤول الكبير السابق في المخابرات المركزية الأمريكية، يوجين جوستين في كتابه “التقدم نحو القوة”، حيث قال حرفياً: (مشكلتنا مع ناصر أنه بلا رذيلة، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه.. نحن نكرهه ككل، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئاً، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد).

هذه “الشهادة” من هذا العدو الأمريكي المبين واللعين، أيقظت في ذهني وذاكرتي بيت شعر قديم أنشده الشاعر، في العصر العباسي، السري الرفاء ضمن قصيدة مُعتّقة بعنوان “سواء” ..

أحـوالُ مجـدِكَ في العُلُّوِّ سَـــواءُ     يـومٌ أَغَرُّ وشـيمَةٌ غَــرَّاءُ
أصبحتَ أعلى الناس قِمَّةَ سُؤدُدٍ    والناسُ بعدَكَ كلُّهم أكفَاءُ
نَسَبٌ أضاءَ عَمودُه في رِفعــــــةٍ    كالصُّبحِ فيه ترفُّعٌ وضِـياءُ
وشــمائلٌ شَــهِدَ العـدوُّ بفَضْلِها     والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى