“المجــد”.. ٢٩ عاماً من الرِباط في رحاب القومية العربية ومُقتضيات المشروع الوحدوي النهضوي

 

اليوم – ١٤ نيسان – تفتحت أزاهير فصل الربيع عن الذكرى التاسعة والعشرين لإنطلاقة جريدة “المجد” الورقية، التي أبصرت النور، وباشرت الصدور والحضور في مثل هذا اليوم من عام ١٩٩٤م، وما زالت تُبحر في أوقيانوس الزمان حتى الآن.

في صبيحة ذلك اليوم زفت “المجد” نفسها الى جمهورها العربي الكريم، وباحت بشوقها وتوقها لمصافحة كل يد عربية شريفة ونظيفة، وأدارت مع جمع قرائها حواراً قومياً واسعاً وموصولاً على مدى ٢٩ عاماً، حيث أفادت بقدر ما إستفادت من هذه المحاورات والمداخلات الثرية.

في ذلك اليوم السعيد تحققت لنا أمنية غالية، وحلم عزيز، وطموح طال إنتظاره.. ذلك لانه إبتدأ من اليوم الاول لتخرجنا من قسم الصحافة بكلية الآداب في جامعة القاهرة عام ١٩٦٥م، وبقي يراودنا ويُلحّ علينا لما يُقارب ثلاثين عاماً، ولم يتحقق الا بعد زوال “الظروف القاهرة” التي كانت تحول دون خروجه الى حيز الوجود.

يعود الفضل في ميلاد “المجد” الى إنتفاضة نيسان الشعبية المباركة عام ١٩٨٩م، التي رسمت خط النهاية للحقبة العُرفية الطويلة بالأردن، حيث أسفرت عن حالة تصالحية شبه ديموقراطية (لم تدم طويلاً) بين الحاكمين والمحكومين، ووفّرت الفرصة لتعديل قانون المطبوعات التعسفي القديم، بما بات يسمح بإصدارات صحفية جديدة.

من هنا ولدت “المجد”، وأطلقت صرخة الحياة الأولى، ورفعت رايتها وبدأت روايتها، وسارعت الى تقديم أوراق إعتمادها لقارئها العروبي، بوصفها منبراً للوعي القومي والحلم الوحدوي العربي، يهتدي برؤى الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، ويقتدي بمبادئه ومواقفه وأخلاقياته، ويتخذ من سيف خالد بن الوليد (المسلول)، وشمس الحضارة العربية (التليدة) شارةً وشعاراً.

لم تكن مسيرة “المجد” سهلة او سلسة، بل كانت شديدة العُسر والعناء والشقاء، ومثخنة بسهام الخصوم من الجانبين الرسميين الأردني والفلسطيني.. ذلك لأن المقادير والمصادفات العجيبة قد شاءت ان يقع صدور هذه المطبوعة ما بين خطيئتين سياسيتين فادحتين، حيث سبق صدورها إبرام اتفاقية أوسلو الخيانية في شهر أيلول عام ١٩٩٣م، فيما تبع صدورها توقيع معاهدة وادي عربة المشؤومة في شهر تشرين الأول عام ١٩٩٤م.. ويا لعذاب “المجد” وكل من كان يرفض يومذاك مسالمة العدو الصهيوني، ويتمسّك بمقولة عبد الناصر “ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة”.

لا ضرورة لسرد مسلسل العذابات والعقوبات التي إنهالت على هذه المطبوعة الكادحة والمكافحة على مدى عمرها، فقد أتينا في مقالات سابقة على ذكر بعضها.. من مثل سحب ترخيصها مرتين، ومنع طباعتها مراراً، ومصادرة أعدادها من مراكز التوزيع، وحظر تصديرها الى خارج الأردن، واعتقال رئيس تحريرها وحبسه غير مرة، وجرجرته في المحاكم طوال ست سنوات، لينال البراءة في معظم القضايا التي رفعتها عليه الجهات الرسمية.

وما ان نزعت “المجد” ثوبها الورقي، وإنخرطت عام ٢٠١٧ في حومة الصحافة الألكترونية، حتى انتقلت – بخصوص العقوبات – من الرمضاء للنار، فقد تعرض موقعها بادئ الأمر للحجب في غير دولة عربية بدءاً من السعودية، ثم تعرض لما يشبه “مطاردة الساحرات” المعروفة، حيث تسلطت علية افواج من الروبوتات الشريرة التي كثيراً ما تهجم عليه دفعة واحدة حتى تقوض دروع حمايته، وتنجح في كسره والإطاحة به، وتترك لنا ان نجهد في إعادة ترميمه مرة تلو أخرى.

عموماً، مصاعب ومتاعب مسيرة “المجد” وعراقيلها وعقباتها ليست غريبة على الصحافة المناضلة، او النضال بالوسيلة الصحفية.. ذلك لأن الصحافة الملتزمة وطنياً وعروبياً، والمحكومة بوهج الضمير الناقد والمعارض، والمسؤولة أمام الله والناس، هي “مغامرة” مُثيرة وخطيرة ومدججة بما يُقارب الروح الفدائية التي من شأنها إثراء العمل العام والحياة السياسية، وإشعال أنوار الحق في ليل الباطل، وإنتزاع استحقاقات الحرية من براثن الإستبداد والدكتاتورية، وتتويج الكلمة النظيفة والشفافة ملكة على عرش الكتابة والنشر.

ليست الصحافة – في رؤية “المجد”- مسحاً لجوخ الحاكمين، او إستسلاماً للواقع البائس ومسايرة للتيار السائد، او لغواً ولهواً وثرثرة على الورق والكمبيوتر.. بل الصحافة الحقة إيمان بسحر الكلمة الصادقة، وإدمان على مزاولة الكتابة الملتزمة بأسمى المبادئ والمواقف والتطلعات الشعبية، مهما غلا الثمن وبلغت التضحيات.. وبغير ذلك تكون الصحافة قد خانت رسالتها، وأخرجت نفسها من صُلب دورها وأقدس مهماتها.

على ان الكتابة، بوجه عام، معزوفة إبداعية ممتعة، ولعبة كلمات متقاطعة، وحروف متعانقة، وتراكيب متشابكة، وأفكار متداخلة، ومقتطفات وردية من ألوان قوس قزح، وجولات رومانسية في آفاق الخيال، وتعبيرات وجدانية عن أشواق القلم الى الحبر، والحبر الى السطر، والكلمة الى القارئ، والفعل الى الفاعل، والصفة الى الموصوف، والمبتدأ الى الخبر، والمعاني الرفيعة الى الصياغات البليغة والبديعة.

وعليه.. كل عام و”المجد” بألف خير، فهي جديرة بالتهنئة والثناء، بعدما صمدت لتسعة وعشرين عاماً، وأبلت خلالها بلاءً مُميزاً في خدمة الرسالة العربية الخالدة، وفي رفع شعار الوحدة والحرية والإشتراكية والتحرير، وفي مداومة التأكيد على أهمية ووجوبية إنفاذ المشروع الوحدوي او الأتحادي العربي، باعتباره إستعادة تاريخية، وفريضة قومية، وضرورة مستقبلية لنهضة هذه الأمة العريقة ونمائها وكبريائها، وإنعتاقها من أغلال الفقر والتخلّف والتخاذل والتبعية للمراكز الأجنبية.

على مدى عمرها ومسافة مشوارها، راهنت “المجد” على يقظة العرب، وترقبت على الدوام بزوغ فجرهم وشروق نهضتهم، وتواصت بالحق وأعتصمت بالرجاء والصبر.. فما فقدت الأمل، ولا أضاعت البوصلة، ولا إستسلمت لنوازع القنوط والاحباط، ولا تراجعت او تخاذلت او بدّلت تبديلاً.. وعلى الرغم مما بلغته هذه الأمة من معايب ومخازي الفُرقة والتمزق والهوان والإذعان، فقد ظلت “المجد” على كامل اليقين بحتمية الصحوة العربية، وكامل الثقة بقدرة الشعب العربي الواحد على التغيير وتقرير المصير، وكامل الإصرار على ان دوام هذا الحال من المُحال.. “إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً”، صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى