مصر قبل ثورة يوليو.. هل هو الزمن الجميل ؟!

يعبّر كثيرون في ايامنا عن مشاعر يملؤها الحنين الى زمن حكم اسرة محمد علي في مصر التي قضت عليها ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر والضباط الاحرار. وهم يطلقون على تلك الفترة “الزمن الجميل” ويصورونها في كتاباتهم وكأنها حقبة الفخامة والرقيّ والتسامح الديني والمجتمع المتحضر , والتعددية السياسية والاحزاب والديمقراطية, وينشرون صورا من تلك الفترة لشوارع هادئة ومواطنين يرتدون ملابس انيقة وبيوت جميلة في احياء نظيفة . وبعض الذين يروجون لتلك الافكار أناسٌ عاديون جعلتهم قساوة الحياة وسوء الاوضاع في بلادهم يحنّون الى ماضٍ وهميّ متخيّل يهربون اليه من واقعهم الرديء. والبعض الاخر يعملون ضمن حملات منظمة و مموّلة جيداً من أطراف خليجية لها أجندات ولها ثأر مع جمال عبد الناصر.
فالمرحوم جمال عبد الناصر حين قاد بنجاح ثورة الضباط الاحرار في مصر سنة 1952 كان في الواقع يطلق موجة تغيير في العالم العربي هددت جميع الأنظمة الملكية المرتبطة بالاستعمار والتابعة له. شنّ عبد الناصر حربا لا هوادة فيها على تلك الانظمة وعائلاتها الحاكمة وكانت النتيجة النهائية للمد الثوري التغييري الذي قاده عبد الناصر في العالم العربي نجاحه في القضاء على الملكيات العربية في مصر والعراق واليمن و ليبيا , بينما فشل في اسقاط الانظمة الملكية في السعودية والاردن والمغرب.
وجميع الذين “يحنون” الى عصر المك فاروق يستندون في كلامهم ودعايتهم الى ما شهدته مصر من حروب في العهد الجمهوري وخصوصا هزيمتها الكبيرة سنة 1967 وعن تغوّل جهاز مخابرات صلاح نصر وممارساته وعن انعدام التعددية السياسية وغياب مظاهر الديمقراطية. وطبعا لا يمكن انكار هذه السلبيات ولا التقليل من شأنها, وهي قد غدت من حقائق التاريخ. ولكن حقائق التاريخ تقول لنا ايضا ان نظام عبد الناصر كان له ايجابيات كثيرة ومهمة جدا , منها مثلاً نشر التعليم في صفوف المجتمع عن طريق المدارس والجامعات الحكومية بعد ان كانت الأمية تسود, وإتاحة العلاج والمستشفيات للناس بعد أن كانت حكراً على عِلية القوم, ومشروع السد العالي الذي وفر الكهرباء لكل البلد, والبنية التحتية الكبرى للصناعات الثقيلة كالحديد والصلب والاسمنت والغزل والنسيج , عدا عن التخلص من بقايا الاستعمار والهيمنة الاجنبية على القرار الوطني.
فهل كانت الاوضاع في مصر فعلا بديعة ورائعة كما يحاول اهل الحنين الى العهد الملكي تصويرها ؟
كانت مصر تحت حكم اسرة محمد علي باشا منذ 150 سنة, وفاروق كان آخر ملوكها. وقد كان استقلال مصر شكلياً الى حد كبير حيث السيطرة الفعلية للقوات البريطانية الموجودة في قواعدها داخل البلد, وخصوصا في منطقة قناة السويس. والملك فاروق كان يخشى السفير البريطاني ويحسب له الف حساب (هناك تسجيل للرئيس السابق انور السادات يتحدث فيه ويقول ان الملك فاروق كان “بياخُد بالصّرَمْ”على يد سكرتير صغير في السفارة البريطانية). وفسادُ الملك قاروق , وأسرته , شاع و ذاع والحديث عنه يطول . وقد وصف مندوبٌ بريطاني في تقرير له الى لندن فاروق بأنه “غير متعلم، كسول، متقلب المزاج وكاذب، غير مسؤول , عبثي ولا جدوى منه, لكنه يتمتع بذكاء سطحي وله تصرفات فاتنة”. الاحزاب السياسية كانت في زمن فاروق حكرا على طبقة الباشاوات والاقطاعيين الذين يمتلكون الثروة والنفوذ. وقد وصف جمال عبد الناصر مرة ايام فاروق بأنها “ديمقراطية النُصّ في الميّة” حيث لادور للفلاحين والحرفيين واهل البلد الا “انتخاب” سعادة الباشا ! وكان “جلالة مولانا ” مَلولاً ويحب ان يسلّي نفسه عن طريق تغيير الحكومات باستمرار (بلغ عدد الحكومات في عهد فاروق الذي دام 15 عاماً 24 حكومة!) والتنقل ما بين النحاس باشا والنقراشي باشا وحسين سري باشا والذين لا فرق بينهم الا كما يختلف الغراب عن الغراب ! ولا يوجد أبلغ من وصف جمال عبد الناصر لتلك الطبقة في احد خطاباته بأنهم اصدقاء الاستعمار الذين “كانوا يملكون الوطن, ولا يعيشون فيه ولا يعيشون له”. عامة المصريين كانوا يعيشون في جهل مدقع حيث لا مدارس ولا تعليم, تنتشر بينهم الاوبئة والامراض , يتنقلون على الحمير والدواب , ويعمل الفلاحون في اوضاع تشبه العبودية والسخرة في الاراضي التي يمتلكها الاقطاعيون. لا توجد صناعات ثقيلة ولا بنية تحتية ولا خدمات. فقط النخبة, النصف بالمائة, لهم المدارس الاجنبية و جامعة “فؤاد الاول” ونادي السيارات وسامية جمال. تلك كانت حقيقية الاوضاع في مصر ايام فاروق. وأما الجيش الذي يقوده الباشاوات فقد ظهر فساده وسوء حاله في حرب فلسطين 1948 والهزيمة المريرة التي تعرض لها هناك.

والخلاصة انه لم يكن زمن جميل. والصور الكاذبة التي ينشرها جماعة الحنين الى العصر الملكي هي في الحقيقة لقصور الملك والامراء والباشاوات ومن الاحياء التي كان يعيش فيها الاجانب والخواجات , ولا تعبر ابداً عن حياة الناس واحوال البلاد.

*كاتب و باحث من الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى