الكثافة السّياسيّة المعاصرة.. اضمحلال الدّولة في العالم ، واضمحلال المجتمع 

 

الجزء الأوّل ( 2/1 )

 

لعلّ الّلغة المتبدّلة و المتحوّلة هي الوحيدة التي تستطيع اليوم وصف العالَم ، في إطار الفكرة المتماسكة الخاضعة لهويّة متّصلة اتّصال الفكرة بالواقع ، و لكنْ من دون الشّطط في التّفكير ؛ ذلك لأنّه ليس كلّ تفكير يتمّ في إطار الفكرة التّاريخيّة الموحية ، كما أنّ الفكرة بوصفها وجوداً لا تخضع إلى ذلك الاختزال الذي يبغيه البعض ..

هذا كما أنّها في بعدها التّأصيليّ الأوّليّ و الحقيقيّ ، إنّما هي ، الفكرة ، مشروع لا تحتويه الأفكار ، و لو أنّ هذه الأفكار ، بإيحاءاتها المختلفة ، تشكّل الإقناعات و القناعات البشريّة بمغريات الادّعاءات الكامنة وراء الاجتهادات الكثيرة في الرّغبة بالتّفسير.

1▪ نحن نشهد اليومَ واقعاً عالميّاً يخرج عن المألوف في التّفكير ، ربّما بسبب عودة عصر “الفكرة” الأوّليّة الخارقة ببساطتها و تجريدها ، لمواجهة سيل التّفكير السّياسيّ التّاريخيّ ، من جهة أنّه عملٌ أكثر تركيباً ممّا توحيه الفكرة ، و أكثر غموضاً ممّا يحتاجه الواقع الإنسانيّ ، و أقلّ ضرورة من المؤلّفات التّاريخيّة التي لا تُعدّ ، و أعقد من تعقيدات “الواقع السّياسيّ” في الممارسة العالميّة ، و أكثر تجاوزاً لجميع ما انطوت عليه حاجة الإنسان القصوى في تقدّمه بالمفاهيم .

و إذا كانت “المفاهيم”، عادة، لا تدّخر ذاتها، عند الحاجة إليها ، فتظهر بوصفها ممارسة من ممارسات “المطابقة” العمليّة ؛ فلقد أثبت عصرنا الذي نعيشه أنّ كثيراً من “المفاهيم” كانت فارغة من مضامينها السّياسيّة العمليّة المعلنة ، و كأنّها كانت تنصرف من بدايتها إلى شيء آخر ، هو غير ما توحي به أو تتطلّع إليه عن سابق صدقٍ و رغبة و قصد و إتقان ؛ و ذلك منذ “عصر الأنوار” الأوربّيّ ، على الأقلّ .

2▪ و إذا تجاوزنا الكثير من المصطلحات السّياسيّة “الحداثيّة” التي لا تُحصى و لا تُعدّ ، و التي يعرفها الكثيرون إن لم تكن قد صارت من مقتنيات الجميع ؛ فلعلّنا نقف اليوم ، هنا ، على مفهومين سياسيين تاريخيين “أوغلَ” قِدَمَاً من ذلك ، و لو أنّهما لم يُعرفا في المجتمعات الأوّليّة و القديمة ، و هما “الدّولة” و “المجتمع” ..

و ذلك في معرض “تطوّرهما” الثقافيين ، كما في إطار الممارسة السّياسيّة لهما ؛ هذا إن كانا ، هما ، في الأصل ، من الطّبيعة التي قلنا عليها إنّها تلك التي تمارَس في مناسبات “المطابقات” العمليّة ، و ذلك سواءٌ في النّشأة أو في الممارسة و التّطوّر و التّطوير .

3▪ نشير ، إذن ، بوضوح ، إلى تشابهات الإشكاليّة التي تحيط بالدّولة و بالمجتمع ، و ذلك في إطار ما يُثير العقلانيّة الواقعيّة ، اليوم ، من جهة تضعضعها أمام ذاتها و هي تبحث عن تسويغات لها في قائمة “الحقائق” السّياسيّة – التّاريخيّة المتّصلة اتّصالاً تصاعديّاً و تطوّريّاً ؛ فيما ، هي ، نراها متردّدة و كأنّها تستجدينا لنقوم بمغامرة إنقاذها من عبث وهم الحكم الثّابت و اليقينيّ ، عليها ..

و من ثمّ ممارسة أقصى ما يمكننا نحوها من الاجتهادات التّأليفيّة المعاصرة التي تعيدها إلى طبيعتها في “الفكرة” ، التي تنقذها من التطوّريّة الإيجابيّة للأفكار ، و تعود بها إلى حقيقةِ “موضوعيّةِ” الحدّ المفهوميّ الممكن و الأخير ، و الذي هو ذلك المستوى القياسيّ و النّهائيّ لمقدرة البشر على التّعامل مع الفكرة ذاتها في ورودها مورد الحقيقة ، و ذلك عندما تكون الحقيقة نفسها قد حزمت وضوحها لتمكّننا من رؤيتها كجزء من “الفكرة” و ليس العكس .

4▪ لا تُقِرُّ لنا “الفكرة” بواقعنا السّياسيّ المعاصر العالميّ على ما هو عليه من تناقضات مع مفهومنا البريء و البسيط على التّطوّر ، ما لم نأخذ بحسباننا ” إشكاليّة العقل ” و ” إشكاليّة الجنون ” البشريّ و الانفصالات التي أحدثها الانتقال السّياسيّ التّاريخيّ من المجتمعات ” ذاتيّة التّنظيم ” إلى المجتمعات التّالية ، و ظهور ” الدّولة ” إثر ذلك الانفصال .

لقد أحدثت هذه الانتقالة السّياسيّة التّاريخيّة دولة و مجتمعاً ، كلاهما ، بدآ اغتراباً سياسيّاً و أخلاقيّاً نابعاً من التّنازع الذّاتيّ الذي رافق ذلك الانفصال التّاريخيّ للدّولة عن المجتمع ، وفق ما يُقرّ به تاريخ الأدب السّياسيّ ، برمّته – و قد كان لنا ، سابقاً ، هنا ، أن خضنا هذه التّفصيليّة في نشوء الدّولة – مع ما شكّل حالة من حالات العلاقة المبهمة بين العقل و الجنون ، إذ بدأ “الجنون” العضويّ ، نفسه ، في التّاريخ ، يظهر على نحو واضح و منظور و موصوف ، مع ما رافق ذلك من ظهور مؤسّسات الضّبط و العقاب و من ثمّ السّجون ( وفق” فوكو ” ) ؛ و هو ما عزّز ” الجنون ” كمفهوم مباشر و عضويّ يتّصل بنتائج الانفصال الأوّليّ نفسه بين الدّولة و المجتمع ، إذ بدأت ، هنا ، ” السّياسة ” ، بمعناها الذي نعرفه اليوم ، بالتّوطّد و الإمعان في هذا ” الانفصال ” .

” لقد اتّخذت حواريّة العاقل – المجنون منحى جامحاً و مضطرباً مع ازدهار المجتمعات التّاريخيّة التي حطّمت المجتمعات القديمة ذاتيّة التّنظيم . و إنّ ما تحيّن في تاريخ البشريّة هو الإفراط الذي تجسّد في الضّوضاء و الهيجان و الغزو و المذابح و التّدمير و الطّموحات الّلامحدودة و التّعطّش للسّلطة ، و تدفّق الحبّ و الكراهيّة بين الأفراد ، و الاشمئزاز و الّلعنة و العداء بين الأديان و الأمم و هو أيضاً الدّور الذي لعبه العقل في الفلسفة و العلوم ، ممّا تسبب في ظهور جانب التّيه و عدم الاستقرار و الجانب الجنونيّ لتاريخ البشريّة ” .

[ انظر .. إدغار موران – النّهج . إنسانيّة البشريّة . الهويّة البشريّة ] .

و مع أنّه صحيح ما يقوله (موران) – من أنّه لم يؤدّ ” الجنون ” بالنّوع البشريّ إلى الانقراض .. ، و أنّه ، على رغم كلّ التّحطيم للحكمة و الثّقافات في مجرى التّطوّر ، إلّا أنّ ” الحضارة ” بالمفهوم الفلسفيّ و السّياسيّ و التّقنيّ قد دفعت بالبشريّة إلى السّيطرة ، أخيراً ، على الأرض .

و فيما يعود ( موران ) ليُصرّ – و هذا صحيح – على أنّه ، و على النّقيض من ذلك ، جرى ، و بسبب التّطوّر التّقنيّ المذهل ، أن أضحى الجنون البشريّ أكثر تدميراً و إمكانيّة على التّدمير ، بل و حتّى إمكانيّة تدميريّة و إبادة للبشريّة لم يُعرفْ لها مثيل حتّى القرن العشرين ؛ و يا لها – كما يقول ( موران ) – من مفارقة ، إلى الفَناء ؛ و بخاصّة عندما نرى أنّ الجنون ، بذاته ، هو مشكلة رئيسيّة للإنسان ، و ليست من مخلّفاته أو أمراضه و حسب .

5▪ إنّ مفهوم ” الجنون ” الذي نثيره في هذا الحديث ، إنّما نراه ، أبعد من ذلك ، و هو ما يتجنّب ( موران ) الخوض فيه ، و هو الذي شمل ، في رأينا ، كلّاً من الدّول و المجتمعات الحديثة و الكلاسيّة (الكلاسيكيّة) و المعاصرة ، إلى الدّرجة التي صارت معها العودة إلى نقد كلّ من مفهوميّ الدّولة و المجتمع ، ضرورة معاصرة ، و على غير ما دخلته ” فلسفة التّفكيك ” من ” مقدّمات ” ، و لو كنّا نتّفق معها على أحقّيّتها في ” نقد الأصول ” التي أوحت للعقل البشريّ باليقين الجماعيّ غير المفهوم ..

هذا مع أنّنا لا نتحدّث ، هنا ، في سياق ” النّقد الحداثويّ ” للحداثة ، بقدر ما نعمل على تأطير الأفكار المنتشرة و المتلاشية ، و العودة بحملها على تسوية أوضاعها مع ” الفكرة ” ، و نقد الظّاهرة المعاصرة للدّولة و المجتمع انطلاقاً من مصيرهما المعاصر ، و تطبيقاته على الحروب و الكوارث التي تُحيط بالعالم اليوم و تهدّد مستقبل أفكاره ، بالذّات ؛ و هو ما يجعلنا نستخدم ، في سبيل ذلك ، مخيالنا على التّاريخ ، انطلاقاً من شموليّة “فكرته” التي تمّ التّضحية بها من أجل جانب واحد منها ، و هو ” التّسلّط ” التّاريخيّ للقوّة ( أو للعنف ) على البشريّة باطّراد .

6▪ إنّ ما يجعل العقل البشريّ مُلزماً بالتّعقيد السّياسيّ المعاصر هو هذه الكثافة الهائلة للسّياسة ، سواءٌ بأدواتها أو بأهدافها المُعلَنة منها و المُضمَرة ، أو بأساليبها أو بغاياتها المُقلِقة ، أو أيضاً بإبهاماتها و غموضها المركّب في ذاتيّته و موضوعيّته ، و في ما تختاره و في ما ينفرض عليها إزاء ذلك ، حتّى يكاد الأمر يتجاوز السّياسة و السّاسة إلى أقدار و فروض تبدو خارجة على رغبة الجميع .

لا يمكن لنا أن نتجاوز النّقد العقلانيّ النّثريّ إذا أردنا تسويغ التّحمّل البشريّ لضروب نتائج الحضارة المعاصرة في السّياسة ، كما أنّنا لا يمكن لنا تجاوز “الشّعريّة” المخبّأة في أعماق السّلوك السّياسيّ المنفّذ بالعنف .

فالميل إلى فهم العالم لا يمكن أن يكون واقعيّاً ما لم نأخذ في السّياق باعتبارات هي أقرب إلى الاحتمال و التّوقّع للاقتراب من الضّجيج البدائيّ للإنسان ، مع كلّ ما يحمله هذا الموقف من افتراضيّات تمارس ذاتها على أسس ليست مجهولة ، بقدر ما هي موحية بما في ذلك من إيحاءات خاطئة و مدمّرة .

هنا ، نستطيع أن نفهم كم تحتاج منّا السّياسة إلى أن نمارس وعينا الحضاريّ في أسطورة التّاريخ الذي لا يمارسها الوعي بذاتها أو لأجلها ، و لكن بما يخالفها أحياناً ، أو بما هو يُضفي عليها المبالغة و الإسراف في المغامرة التي تنعكس من جديد في قوالب الوحشيّة ، النّمطيّة ، التي تُركَنُ ، موضوعيّاً ، في الجانب الخفيّ من الوعي ، إذ لا تظهر إلّا بوصفها نتوءات أو اجتياحات شاملة للبدائيّة في العبوديّة المعاصرة و الاستعباد .

بالضّبط أريد القول إنّ الإنسان المعاصر يعود من جديد إلى استلاباته الأولى في موقعه المستعبد في عبوديّة جديدة لا يُدركها مباشرة ، بقدر ما تصدمه في نتائج أفعاله فيما بعد .

  • أوّلاً – جديدُ ظاهرة الدّولة ( اضمحلال الدّولة ) :

7▪ إنّ الحركة الدّائريّة للحضارة التي تصطدم نهاياتها ، دوماً ، في البدايات ، جعل من عودة مفهوم “البدايات” الخرافيّة في سيكولوجيا الإنسان ، أمراً يتجدّد في قلب السّياسة الممارسة واقعيّاً ، بحيث أنّه توجّه أوّلاً إلى الاستجابة للفوضى العميقة للبشر في صيغة من صيغ التّنظيم الذّاتيّ للدّولة ، بما في ذلك مغامرة العنف التي تطوّرت أدواتها المعاصرة إلى درجة أصبحت فيه قادرة على أن تُمارَسَ بكثير من الذّاتيّة و القليل القليل من العقلانيّة التي تُسخّر نتائجها للتّحطيم .

8▪ و في هذا السّياق تبدو الدّولة كظاهرة تاريخيّة ، اليوم ، أنّها تعود لتنتمي إلى أصولها ذات التّركيز العالي الدّاخليّ ، بما في ذلك انضغاطها في كثافات خياليّة معاصرة تحتفظ بأثر “الفكرة” من الثّبات النّشوئيّ الأصليّ بما تُمعن في اعتناقه من الخصوصيّة المضغوطة في حيّز الرّؤية الخاصّة و الشّخصيّة ، ضارباً “تطوّرها” الأخير ، بعرض الأشياء ، جميع تاريخها التّالي على الذّاتيّة المنغلقة الأولى ، إلى فنيّة ذاتيّة قديمة و شبه أصليّة ، و لو بتَقنيّات مذهلة معاصرة لا يعوزها سبب من أسباب التّضحية بالآخرين ، و ذلك في أيّة مناسبة و أيّ منعطف تُضطرّ – أو ترغب – إلى أن تنفرد بخصوصيّتها التي باتت ، اليومَ ، ممكنة مع تطوّر وسائل الخصوصيّة و الانفراد .

و إذا كان ذلك ممكناً ، و هو ممكنٌ ، فإنّه بفضل ما وصلت إليه الدّولة من كثافة الاستبداد المعاصر نحو الآخر و نحو المجتمعات نفسها التي تديرها الدّول ، مهملة ما علق بها من ثقافات سياسيّة تطوّريّة كلاسيكيّة و حديثة و حداثويّة و معاصرة ، متّجهة بذلك من جديد إلى استبداداتها الأصوليّة ( الأصليّة ) بما هي أقرب إلى الفكرة المجرّدة و غير الملموسة في الممارسات ، إلّا بوصفها ذلك الجهاز من القمع الشّديد التّاريخيّ ، و هو كلّ ما يبدو على الدّولة العالميّة المعاصرة أنّها احتفظت به من ذكريات جرّاء تطوّرها الارتكاسيّ التّاريخيّ .

9▪ يمكننا تصوّر هذا الخطّ البيانيّ الذي انتهى بالدّولة إلى مجرّد جهاز للقمع المتطوّر الشّديد المعاصر ، بالإضافة إلى تطوير الأدوات و الأداء ، و الشّموليّة و التّركيز ، بواسطة ما انضمّ إلى مؤسّسات الدّولة العالميّة المعاصرة من خبرات و اختيارات و كنايات و استعارات ..

و هو الأمر الذي جعل الدّولة تغذّ نجاحاتها باتّجاه السّيطرة المُثلى على مادّتها السّياسيّة من الأفكار الاعتباطيّة و الخرافات القديمة و الأساطير المملوءة بخبرات التّحوّلات العالميّة عبر آلاف السّنين ، حيث لا يبدو أنّ الفلسفة السّياسيّة متّفقة على نقطة بدايات ظاهرة الدّولة الأولى تلك التي ظهرت في ما قبل الكتابة ، و التي لم يكن للكتابة نفسها أن تظهر إلّا في وسط من القوّة و الفائض القيميّ الذي توفّره الدّولة في المنطلقات .

10▪ في هذا الإطار فإنّ الدّولة المعاصرة الحداثويّة الأخيرة تظهر كانقلاب على مبادئ دولة الحداثة نفسها ، إذ لا يُعيبها ظهورها بمظاهر الاستئثار الذّاتيّ النّشوئيّ القديم ، ضدّ جميع منطلقات الحداثة و التّنوير و ذلك من قبيل فصل السّلطة ( فصل السّلطات ) و العقلانيّة و العدالة و المساواة ، و الدّيموقراطيّة و الشّعبيّة و الجماهيريّة و التّمثيل ..

حيث تراجع في مضمونها الشّأن العامّ كما ارتكس في هيئتها جميع ما سطّرته الحداثة على الوضوح و الشّفافيّة و اليقين ، بما في ذلك وصف الدّولة نفسها بأنّها جهاز لإدارة و تسويات الشّأن العامّ ، لتتحوّل الدّولة إلى مجرّد مشروع غامض في خدمة قوى معيّنة نادراً ما تظهر على الملأ ..

فيما هي تكلّف تكليفاً توظيفيّاً آمراً جملة من الأدوات و المؤسّسات الاحتكاريّة الشّخصيّة و الخاصّة ، و الأفراد الذين يخضعون بتمثيلهم للدّولة ، إلى حفنة من أساطين القوّة الذين يحملون على عاتقهم مهمّة إخضاع العالم بالعنف الصّريح .

11▪ لا يقتصر ، بطبيعة الحال أمر هذا الحديث على دول دون غيرها ، إذ لسنا في صدد الحديث ، هنا ، على سياسات قوميّة أو وطنيّة دون أخرى ، أو على صيغة من الحديث تتعلّق بتقاليد الحديث على الاستعمار و الإمبرياليّة العالميّة ، و الذي هو حديث أشهر من أن يُعاد تكراره أو البحث فيه .

بل و لعلّ المقصود بحديثنا هذا هو الواقع الذي نشير إليه و المتمثّل بانطباق حديثنا على الدّول العالمية الكبرى الأكثر نفوذاً و تأثيراً في العالم ، إلى الدّرجة التي تصبح فيه هي نموذجاً مثاليّاً للتّعبير الحيّ و المباشر على ما نرمي إليه ، و ذلك من حيث هي دول أكثر تقدّماً و سعياً إلى تجسيد المقاصد و الدّلالات التي هي محور هذا الحديث .

إنّ تكاثف الدّولة و تركّزها على النّحو الذي يُفضي بها إلى كونها أعمق ذاتيّاً و أبلغ انحساراً عن وظيفتها الاجتماعيّة و الاقتصاديّة العامّة ، إنّما هو يصبّ أوّلاً في مضمون الدّول الأكبر في هذا العالم ، و التي من شأنها أن تمثّل الظّاهرة المعاصرة لانكفاء الدّولة أو الدّول الأكثر حضوراً بقوّتها في عالم اليوم ، تحقيقاً لذلك النّموذج العابر للدّولة نفسها و لجميع مظاهر الدّولة المعروفة مع التّطوّر الأخير ، الذي تشهده صيغة الدّولة السّياسيّة التي بدأت بوضوح منذ بداية الألفيّة الثّالثة ، مع توطّد و توطين ما يُسمّى بالنّظام العولميّ المعاصر .

و من المفهوم كيف أنّ ما ينطبق على الدّولة العالميّة أو الدّول العالميّة الأبرز على هذا الصّعيد ، إنّما ينطبق على الدّول الضّعيفة أو الهامشيّة ، بدافعين أوّلهما الاستلاب النّموذجيّ لأنماط الدّول غير الفاعلة جوهريّاً في السّياسات العالميّة ، و ثانيهما ارتباط أقدار هذه الدّول بدول المركز و المثال على الصّيغة العالميّة المعاصرة للدّولة ، ارتباطاً موضوعيّاً أو ارتباطاً ذاتيّاً و مقصوداً و ذيليّاً بتفاوت بين دولة و أخرى و نظام سياسيّ و آخر .

و ليس من النّافل أن نقول إنّ ما تعمل عليه الدّولة أو الدّول الكبرى العالميّة من تركيز الأهداف و اختزال الممارسة العموميّة و تكثيف الأغراض الذّاتيّة ، إنّما هو البعد الأكثر وضوحاً و فاعليّة في سطوتها العالميّة ، و ذلك عن طريق الشّدّة في ممارسة “الفكرة” االقائمة على الإخضاع المباشر و غير المباشر للآخرين ، و ليس على أساس أيّ تصوّر أو وهم آخر من تخلّيها عن سطوتها العالميّة ، و لكنْ بأدوات أكثر إرهاباً و أقلّ كلفة و أبعد احتقاراً لمفهوم الإنسانيّة و مشاكلها القائمة .

فالدّولة الذّاتيّة في هذا المقام لا تعني أنها دولة منشغلة بذاتها و وظيفتها الوطنيّة أو القوميّة أو المحلّيّة ، بقدر ما تعني أنّها تلك الدّولة التي تتركّز هويّتها على الاستثمار المطلق و الاستنزاف الكامل الممكن لصيغة البشريّة في الاجتماع ، و في ما يتجاوز ذلك إلى الآخر ، بوصفها دولة غريبة التّكوين عن جميع مظاهر الحاجات و الدّلالات الإنسانيّة الأخرى ..

و ذلك سِيّانَ ما كانت وقائع الاجتماع و الاقتصاد و القيم و الأخلاق ، محلّيّة أو في أقصى أصقاع العالم المعروفة أو المفترضة كساحات ، لتحقيق الغايات التي قد أصابها التّحوير في ضوء فهم القوى الحاكمة و المتحكّمة بمصائر جميع شعوب الأرض و من غير تمييز ، لغاية وجودها الذّاتيّ و الذي هو في كلّ يوم في كثافة و تكاثف و تكثيف و ذاتيّة ، و انحسار و انكفاء اكتراثيّيَن من شأنهما أن يشكّلا أعلى درجة من درجات الاحتكار .

12▪ يعيش العالم المعاصر ، إذاً ، في طور ما سنسمّيه “اضمحلال الدّولة” بوصف الدّولة نظاماً سياسيّاً كان يقوم على الاهتمام و الاكتراث الموجّهين إلى الحماية و الرّعاية الوطنيّة و العالميّة و تبادل التّطوّر الإنسانيّ نحو أهداف و غايات “عامّة” ، بشريّة و إنسانيّة ..

مع أنّ ذلك لم يكن ليؤثّر على الأهداف الخاصّة بكلّ دولة على حدة ، لولا أنّ التّطوّر الحادّ في الأدوات و التّراكم الأقصى للقوّة و المال و السّطوة و السْيطرة و أسباب العنف ، قد جعل من الدّولة القادرة على التّفرّد نموذجاً جديداً من الأنظمة السّياسيّة العالميّة ، القادر على التّضحية بالثّقافة نفسها التي قام عليها و تطوّر بفضلها ، إلى درجة أصبح خطّ التّطوّر ذو الإيقاع المتوقّع و المألوف عبئاً على مشروع الدّولة المعاصر ، الذي انعطف في منحناه البيانيّ خارج المعطيات الدّلاليّة الإسقاطيّة ، ليشكّل مفترقاً نهائيّاً مع تقاليد الاحتماليّات التي كانت تخضع لقوانين “العقلانيّة” ، لتكون قد أخلَت مضامينها من مختلف حساسيّات (جماليّات) مُتع “النّظريّات” المعروفة في مطابقاتها مع العالم اليوميّ ، و غير ذلك ممّا هو وثيق الصّلة مع الأهداف الإنسانيّة وثيقة الصّلة بالطّبيعة البشريّة ..

كما قد أكّدت ذلك – على الأقلّ – آلاف الأعوام التي قطعتها البشريّة في تسوية القيم الإنسانيّة و ثقافاتها و أعرافها و بِناها ، التي أغدق عليها التّفاؤلُ الإرادة الفاعلة ؛ لتدخل في المحصّلة في غربة و اغتراب عضويين على رغم ما كان قد تم استبعاده في النّظريّة العقلانيّة من إمكانيّة مثل هذا الانحراف الإنسانيّ ( الّلاإنسانيّ ) في تطوّر البشريّة .

13▪ و فيما تظهر آثار ذلك الاضمحلال في كثافة عالية للذّاتيّة القائمة على التّسويات السّلبيّة و الإحجام عن المشاركة الإنسانيّة بالمصائر الجماعيّة للإنسانيّة ، بما هي هذه الإنسانيّة جملة من الاعتبارات المشتركة و بخاصّة بالمصير ، و بالتالي الانفراد بأدوات و نتائج و احتمالات المصير ، فإنّه بالقدر نفسه تعيش الدّولة العالميّة الجديدة الأقوى حالة من حالات التّكاثر المذهل في الأدوات و الهيمنة التي تسمح لها ، سواءٌ بالتّدخّل المباشر أو بحضورها حضور الظّلّ الطّاغي ، بالمشاركة الواسعة في صناعة مصير خاصّ و جديد للبشريّة خارج كلّ اعتبارات الإنسانيّة ، التي عرفتها ثقافات هذه الحضارة على مرّ تاريخها المعروف الطّويل .

و في سياق ذلك يمكن لنا تكهّن الهويّة البشريّة منخفضة الإنسانيّة إلى الحدّ الأدنى ، و التي ستظهر لنا أكثر فأكثر في الشّكل الآخر لجدة العالم المعاصر ، في اضمحلال المجتمعات .

  • ثانياً – جديد ظاهرة المجتمع ( اضمحلال المجتمع ) :

14▪ كان من الطّبيعيّ أن تلحق المجتمعات بالدّول في انتكاساتها “التّطوّريّة” ، بحيث يسري عليها ما كان على دولها من انحطاط تطوّريّ كنتيجة من نتائج انحطاط الدّول في استحالتها إلى عناصرها الجوهريّة الأولى و البدائيّة ، و لو في شكل حداثويّ معاصر هو أكثر تعقيداً من سالفتها دول البدايات الاجتماعيّة و السّياسيّة في التّاريخ .

و مثلما رافقت “البربريّة” تطوّرات الحضارة البشريّة المعروفة هذه ، بعد آلاف من السّنين التي كانت فيها البشريّة مكتفية ذاتيّاً في حدود تجمّعاتها الصّغيرة المنفردة ، كلّ جماعة منها على حدة ؛ و مثلما كان ظهور المجتمعات الكبيرة مرتبطاً بازدياد عدد السّكّان المحلّيين منضافاً إليهم أسرى و سبايا “المجتمعات” الصّغيرة الأخرى ، كنتيجة لأعمال الغزو و النّهب و القتل و السّبي البربريّة ..

فإنّ هذه الظّاهرة تعود اليوم إلى الثّقافة الاجتماعيّة – السّياسيّة بوصفها عمليات بربريّة متطوّرة و متقدّمة تديرها الدّول في إطار الحماس الثّقافيّ الاجتماعيّ و الرّفد الفكريّ و العلميّ للقوى البربريّة الغازية ، بحيث أنّ المجتمعات نفسها قد دخلت لعبة دولها في العنف و البربريّة و الاستئثار الذّاتيّ ، و لكنْ بوصفها وسيلة شعبيّة لتوليد رأي عام و مساندات مباشرة اجتماعيّة و مجتمعيّة للدّول الغازية ، أيضاً ، فإذا بنا ، من جديد ، أمام مفهوم للغزو البربريّ المعاصر و إن كان بصيغة “متطوّرة” و أدوات معاصرة ، عسكريّة و اقتصاديّة و سياسيّة و “مدنيّة” ..

و هو ما أدّى إلى تقويض مفهوم المجتمع المعاصر في إطار الدّول المتفوّقة التي تمارس الإرهاب الشّامل على الدّول الضّعيفة ، كما في الجغرافيا العالميّة التي تضمّ أطر الدّولة العالميّة كَكُلّ .

15▪ و أمّا بالنّسبة إلى الدّول الضّعيفة و المنكوبة ، فقد كان دورها في إذلال مجتمعاتها ، أقوى و أشرس ممّا هو عليه الأمر في الدّول الكبرى ، و ذلك في عمليّة من عمليّات التحاق الدّول الخاضعة بتبعيّة مباشرة للدّول الكبرى ، و بالتّالي تقسيم المنافع النّاتجة عن خراب و تخريب الدّول الصّغيرة ، ما بين الطّرفين ، و لو أنّ الدّول الهزيلة متمثّلة بسماسرة و عملاء و مرتبطين بالدّول المركزيّة ، كانت تكتفي بالفتات القليل قياساً بما تحصده دول البرابرة المعاصرين .

16▪ يطرح اضمحلال المجتمع أو المجتمعات مسألة جديدة أمام الحساسيّة ( الجماليّة ) العالميّة المعاصرة ، في شكل إشكاليّة في “الهويّة” الإنسانيّة نفسها ، بعد أن كان مفهوم “الهويّة” التّاريخيّ مطروحاً على مستوى البشريّة على صعيد الوطنيّة و الأمّة و القوميّة و الثّقافات المتمايزة .

و عندما تغيبُ أو تتغيّب الهويّة فإنّ إصابة بليغة تطرأ على قيمة إنسانيّة جوهريّة في الوجود البشريّ التّاريخيّ لتصفعه في أكثر من وجوديّته ، و أعني في انغلاقه في علاقته الدّلاليّة مع المغزى و مع المصير .

و عند ذلك يجب ألّا نتفاجأ ، بعد ، جرّاء التّشوّه البنيويّ للإنسان المعاصر ، هذا التّشوّه الذي يبدو اليومَ صارماً و لا رجعة عنه ، و ذلك في أعمق قاعدة المشروع الإنسانيّ الذي عرفناه يوماً في الدّلالات الواعية و غير الواعية للدّافع الوجوديّ الشّامل ، الذي ينهل من حوافزه و آماله في إغراءات الجدوى التي ترافق الطّريق إلى قيمته الفطريّة منها و الصّنعيّة ، بحيث يغدو ما كان في الأمس اندفاعاً إلى هدف ، شيئاً من مخلّفات الأسف الذي ضرب في أسبابه الوهم و السّخرية و الكفر بالماضي ، بحيث يشمل ذلك كلّ صيغة على المستقبل الطّليق .

هذا و لا يُمكن أن نعثر هنا على أيّ بديل للهويّة الوجوديّة الأصليّة أو الثّقافيّة التي راكمها البشر حول إنسانيّتهم ، و ذلك مهما كانت الإحداثات السّياسيّة المزيّفة للهويّة ، و مهما كانت الإغراءات المعاصرة في بدائل الهويّة التي تمتح من جذور التّحريف ، الذي يعمل على إعادة توضيب النّزعات البشريّة في فضاء الإنسانيّة المزيّف الجديد .

17▪ تقدّم لنا قراءة المجتمع العالميّ المعاصر قراءة على أساس ما تقدّم ، مفردات للقراءة تقيّد فينا الخيال الشّعريّ و المنظومة الدّلاليّة النّثريّة للممارسة الإبداعيّة الإنسانيّة ، التي كانت تتقدّم في منحنى بيانيّ صاعد منذ اكتشاف الكتابة و حتّى قبل هذه الّلحظة بقليل .

و يشمل الأمر ، على هذا النّحو ، مختلف العلوم و عناصر الحساسيّة الأخرى ، بما في ذلك التّفسير و التّأويل و الصّورة و المشهديّة الفنّيّة و مجمل ضروب الإنتاج الاجتماعيّ في نتائجه الإنسانيّة ، بحيث تبدو البشريّة المعاصرة مجرّد ظلّ باهت لمنتجات العنف الاقتصاديّ ، المفرّغ من أيّ بعد من أبعاد الطّراوة الأسطوريّة و الخرافيّة و الخياليّة التي تمّت مصادرتها مصادرة رقميّة ، لا يمكن أن تسمح بأيّة ممارسة أخرى لعناصر الإنسانيّة ، التي خنقتها مشاريع الرّيعيّة المادّيّة المباشرة التي تتنافى مع إدراك الإنسان لذاته في حظيرة الوفرة الرّوحيّة ، التي قامت عليها بنيانات الحضارة الطّويلة .

لقد امتصّت البشريّة الأخيرة في صيغتها الماحية للأمل الإنسانيّ ، كلّ طاقات العزم و الإرادة التي ازدهرت في الرّحلة البشريّة الطّويلة ، و التي ما كان لها أن تنتظر هذه النّهايات المأساويّة لمسيرة الجهد الإنسانيّ البريء .

18▪ إنّ هذه العدوانيّة المباشرة الموجّهة إلى الإنسانيّة ، لم تكن لتظهر في عنفها المنظّم لولا أن دخلت المجتمعات البشريّة في خلل إنسانيّ قيميّ عام ، جعل من المجتمع النّموذجيّ المعروف في تاريخ المشروع الإنسانيّ ، نمطاً جافّاً لانتظار الإنسان لمفاجآته المتواليّة في عيشه المشرّع على المجهول .

و في غمار ذلك ، جرى زحزحة و إزاحة المنظومات المفهوميّة الكبرى للبنى التّاريخيّة التي قامت عليها التّشكيلات الاجتماعيّة التّاريخيّة للبشريّة ، فتجلّى ذلك بتغيير مواقع و مواضع التّناضدات التّقليديّة للمحدّدات التّطوّريّة ، حيث تحوّل ما كان في الأهداف ليصبح في الأسباب و العكس بالعكس .

و على هذا جرت خلخلة التّراتبيّة التّقليديّة لما يُسمّى بالبنى التّحتيّة و البنى الفوقيّة ، فأصبح ما كان في الأسباب هدفاً و نتيجة ، بينما مورس العنف المنظّم على النّتائج لتتحوّل إلى أسباب مولّدة للصّراعات الجديدة .

فالأهداف الاقتصاديّة ، على سبيل المثال ، لم تعد كذلك كما قد دخل في المحفوظات السّياسيّة التّقليديّة ، بل و على العكس من ذلك دخل الاقتصادات السّياسيّة و الماليّة في سلّم الدّوافع الخلفيّة ، لتسقط من علوّها في الأغراض و النّتائج ، لكي يبدو العالم مقلوباً ، فصارت في التّفاصيل العمليّة التي ما يزال وضعها الثّقافيّ يجتاح الأفق المعرفيّ البشريّ على أنّها غايات نهائيّة ، فيما جرى عليها تحوّيلات مطّردة من الأهداف و النّتائج السّياسيّة ، إلى جعلها من مفردات الأسباب التي تصنع أهدافاً جديدة تتناول عمق الوجود البشريّ ، الذي جُرفَ إلى غايات لم تكن معروفة سابقاً بالنّسبة إلى الثّقافة الاجتماعيّة العالميّة .

و قد حان موعدها لتتصدّر الأهداف التي تشتغل عليها قوّة الدّول أو قوى الدّول الخفيّة لتحقيق النّتائج الكفيلة ، من جديد ، بمحو معالم المجتمعات المعاصرة بإدخالها في غموض اليقين .

هكذا تقدّمت “الفكرة” السّياسيّة الكثيفة و المختزلة ، من جديد ، إلى صدارة الصّورة التي عبّرت عليها القوّة بأدوات عنفيّة ، و تحطّمت أفكار شكّلت بالنّسبة إلى الإنسان التّاريخيّ جوهر الاجتماع و العمل و الأخلاق .

19▪ لم يكن اضمحلال الاجتماع العالميّ نتيجة نهائيّة للسّياسة العالميّة المعاصرة ، بقدر ما كان الهدف وراءه مسح الأثر الثّقافيّ للاجتماع من أهداف في التّعاضد و التّواشج الإنسانيّ العالميّ ، من أجل إحياء النّزعة البشريّة المنتشرة اليوم و التي تتجلّى في وجود إنسانيّ منعزل ذاتيّاً داخل في أوهام الموضوعيّة المنجزة بقصد مباشر ، يبدو معه التّيئيس السّياسيّ أمراً من أمور القدر الاجتماعيّ ، الذي أدخل المجتمع العالميّ في انحسار نهائيّ .

و لا تبدو هذه الصّورة واضحة إلّا بواسطة الإضاءة عليها بواسطة الممارسة السّياسيّة العالميّة الكثيفة ، التي تقف وراءها أفراد و تشكيلات فرديّة جاءت بديلاً للمنظومة الاجتماعيّة ، للمنظومات الاجتماعيّة ، التي صنعت ، بمفهومها ، حضارتنا حتّى اليوم ؛ بحيث شكّلت السّياسة أعلى درجات عدم المطابقة بين الأفكار و الممارسات ، و كان لا بدّ في سبيل ذلك من تشويهات عنفيّة مباشرة لجميع قيم الاجتماع المعرفيّة ، التي تلاقت مع نتائج ذلك في الاضمحلال الاجتماعيّ الذّاتيّ الذي تضرب ، اليومَ ، آثاره في جذور الوجود البشريّ .

20▪ و في سياق ذلك تبدّى للبشريّة ، في السّياسة و في الاجتماع و الحساسيّة و الأخلاق ، أنّ القدر المعاصر بات ناجزاً إنسانيّاً في بوتقة العجز و اليأس البشريين ، فتعمّمت ثقافة التّيه الواسع و الشّكّ الصّارم و الكفر النّهائيّ بجميع القيم التّاريخيّة ، التي انبنت عليها حضارتنا حتّى الآن ، فكان أن وقفت الإنسانيّة على مفترق طريق يبدو عنده الاختيار ، هو الآخر ، شيئاً مأساويّاً ، بقدر ما هو أمر في عداد أكبر زيف و تزييف واجه الإنسان حتّى اليوم .

فمن اضمحلال الدّولة العالميّة إلى اضمحلال المجتمع العالميّ ، قطعت البشريّة لغزاً إنسانيّاً صعباً كما قد أوحت التّحوّلات ، حتّى بدا للإنسان أنّه قد اختُرقَ تاريخيّاً بمنظومة من الوهم و الإيهام جعلت منه دمية في وجه قدر نهائيّ و أخير .

21▪ من طبيعة الوجود البشريّ أنّه مُفاعلٌ دائمٌ لاحتراقات طاقيّة تتموّج في اجترارت مديدة ، لا يمكن التّنبّؤ معها بالّلحظة التي ينجم عنها انتقال نوعيّ أو استحالات مفارقة للمخادعة التّاريخيّة ، التي ترسم لها مشاريعها باستمرار .

و إذ ذاك فإنّ ما يمكن أن ينتظر العالم المعاصر ، إنّما هو ، و بقدر ما يبدو أنّه يأس و تيئيس مدبّران و ناجحان ، فإنّه ، أيضاً ، رهنٌ لمفاجآت منها ما هو قدريّ و كونيّ و منها ما هو من عداد النّتائج الإنسانيّة التي لا تدخل في تخطيط المستقبل تخطيطاً أبديّاً ، و ذلك أقلّه من جهة أنّ الإنسان ، و مهما بدا عليه غير ذلك ، إنّما هو جزء من مصير لا يُخطئ الظّنّ به إلّا بقدر ما يدفعه إلى ذلك وهمه و جشعه الذي يُعاقَبُ عليه ، أيضاً ، و باستمرار .

لقد قضت “الموضوعيّة” التّاريخيّة للفكرة الوجوديّة ، حتّى الآن ، على جميع المشاريع البشريّة التي أخذت منحى محاولات الاستئثار الاحتكاريّ المحدود بِرِهَانات الإنسانيّة و مُستَقْبَلَاتها التّالية ..

و لقد يترتّب علينا ، رغم كلّ هذا اليأس الوجوديّ المعاصر ، أن نتعلّم من جديد ما لم نتعلّمه حتّى الآن من العمل على اختراق الجدران التي أقامتها في وجه الإنسانيّة قوى كتيمة و صادّة ، و هو الأمر الذي لا يمكن إنجازه إلّا بواسطة المزيد من إعادة فحص الصّورة المبهمة للعالم اليوم ، التي تعمل فيها قوى الهيمنة على طلائها المتكرّر بضجيج العنف و هدير الأسرار .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى