دعوة مخلصة لتشكيل “قوة تفاهم وطني” قبل فوات الاوان

من موقع المتقاعد من العمل العام، والمتباعد عن وقائع الحالة الاردنية الراهنة، الحظ بعين التوجس والقلق ان ما يشبه الانقلاب السياسي والاعلامي والاجتماعي والسيكولوجي قد وقع في بلادنا، واصاب المعظم من قطاعاتنا الرسمية والشعبية والنخبوية، واطاح الكثير من عاداتنا وقناعاتنا وشعاراتنا وتطلعاتنا واصطفافاتنا المعتادة منذ عشرات السنين.

لقد تفرقت بنا السبل، وتسعّرت بيننا الخلافات الطولية والعرضية، وخيمت فوق رؤوسنا سحابة داكنة من زفير الكراهية، وتضاربت في ساحاتنا غالبية المواقف والمصالح والاجتهادات، حتى بتنا نخشى على البيت الاردني مما لا يسر الخاطر، ولا تُحمد عقباه.

لم يعد لدينا رأي عام جامع – او جماعي – يحدد خط السير ويضبط بوصلة الاتجاه، ولم تعد تنتظمنا قواسم سياسية مشتركة، وتوافقات وطنية شمولية تحول دون التفرد والتعنت والعناد الارعن والرؤية الضيقة والاحادية الجانب.. بل لم يعد ما بيننا حالياً ضرباً من التعددية الفكرية والحزبية والنقابية المحمودة، او لوناً من التنوع المشروع والمتعارف عليه في وجهات النظر، وانما بات نوعاً من فوضى الاتجاهات، وتناقضاً حاداً في الرؤى والاراء، وتمزيقاً للحقائق والثوابت، وتجزئتها الى كسور عشرية يتوزعها سائر الفرقاء.

ربما اسهم اعصار “الربيع العربي” العنيف، واستفحال الضائقة الاقتصادية والمعاشية الخانقة، وانتشار المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، في هذه الفوضى المخيفة، والشد العصبي المتشنج، والحراك الشعبي الجريء والمرتفع السقوف.. غير ان السبب المركزي والاساس لكل ما نحن فيه، هو استمرار النهج القديم والعقيم في الحكم، وتجاهل المستجدات المحلية والعربية والدولية الهائلة والمتواترة منذ مطالع هذا القرن، وتقهقر اداء مؤسسات الدولة الى ادنى الحدود، وتصاعد منسوب الفساد الى مستويات شاهقة، وضعف آليات التحاور والتشاور والتفاعل بين القمة الرسمية والقاعدة الشعبية.

بات واضحاً ان الحركة الوطنية بمفهومها التقليدي المعهود، قد انزوت في السنوات القليلة الماضية لصالح الحراك الشعبي والشبابي المندفع والموزع في سائر المحافظات.. كما بات واضحاً حجم التحولات والمتغيرات التي طرأت على بُنى وتراكيب ومفاهيم معسكري الولاء والمعارضة في البلاد، ففيما كان نظام الحكم يستقطب الكثير من رموز المعارضة في العقود السابقة، ويوسع قاعدة الموالين له على حساب ساحة المعارضين، انعكست الاحوال والمعادلات هذا الاوان، وباتت قطاعات واسعة من اعوان واركان واتباع النظام المحسوبين من “عظام الرقبة” تنحاز الى صفوف المعارضة، وتتصدر فعاليات الحراك الشعبي، وتطلق البيانات والشعارات غير المسبوقة.

كيف ولماذا وصلنا الى هنا؟؟

سؤال بالغ الاهمية يثير شهية الاجابة، ولكنها اجابة تحتاج الى اطروحة كاملة لا مجال لها في هذا المقال المختصر، خصوصاً وان الاهم من الجواب هو العلاج.. علاج هذه الحالة التناحرية الخطيرة، التي من شأن استمرارها اضاعة الموجود بدل تحصيل المنشود، ودفع الدولة للوقوف على قدم واحدة وليس الاثنتين.

وعليه، واذا كان لا يزال فينا من يسمع النصح ويقنع بالمنطق، فاننا نقترح على عقلاء البلاد من كل التوجهات السياسية، ومن مختلف المراتب الشعبية والسلطات الدستورية، التنادي لتشكيل “قوة تفاهم” مركزية جامعة تتولى النهوض بمهمة التواصل والحوار بين سائر الاطراف الحاكمة والمحكومة، بقصد الخروج من معمعان هذا الحوار بوثيقة توافق وتفاهم مشتركة جدير بها ان تشكل هادياً ودليلاً وخارطة طريق للمرحلة المقبلة.. ذلك لان البلاد والعباد في امس الحاجة هذا الاوان الى نقلة دستورية نوعية تروي عطش الحاضر، وتلبي نداء المستقبل.

هل هناك من يسمع ؟؟ هل فينا من يأخذ زمام المبادرة ؟؟ وهل بقي للعقل مجال وللحكمة مكان ؟؟

ذلك هو السؤال الذي يطرحه كاتب – متقاعد متباعد – على اهل الحكم، واركان الحراك في آن واحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى