فلاحو فلسطين والسياسة

 

الفلسطينيون من أكثر شعوب العالم اهتماما بالسياسة العربيّة والدوليّة؛ هذا الاهتمام بالسياسية وفنونها ومناوراتها وتقلّباتها ليس مستغربا لأنه مرتبط ارتباطا مباشرا في التطوّرات التي أدّت إلى احتلال وطنهم وتشريد ما يزيد عن نصف شعبهم في شتّى بقاع العالم ؛ لقد نشطوا سياسيا منذ قيام الحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين وصدور وعد بلفور، واستمر اهتمامهم بالسياسة خلال الانتداب البريطاني على فلسطين بعد الحرب الكونيّة الأولى، وبعد إقامة إسرائيل على أرضهم المغتصبة، ونتيجة للهزائم التي مني بها العالم العربي، وبصورة خاصة هزائم حروب 1948 ، 1956 ، 1967 وما تبع ذلك من تعزيز وتجذير  للانقسامات القطرية، وتراجع للحركة القومية العربية بعد وفاة الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر.

في بداية الخمسينيات من الفرن العشرين كانت جلسات الفلاحين الصباحيّة والمسائيّة في مراكز تجمعاتهم في قرى فلسطين لا تخلوا من الحديث عن معارك حرب 1948 التي خسرتها الجيوش العربية وانتهت بإقامة الدولة الصهيونية على التراب الفلسطيني، ومما زاد تلك الأحاديث والقصص متعة ومصداقية هو أن معظمها كانت تجارب شخصية لمتطوعين انضموا إلى جيش الإنقاذ وشاركوا في المعارك واستشهد وجرح بعضهم.

في قريتي عقربا كانوا يتكلمون عن مشاركة ومشاهدات سرية عقربا التي تشكّلت من متطوّعين من أبناء القرية بقيادة المرحومين عبد الحميد أبو ناصر ونائبه أحمد الحلو، وعن الخيانات وأوامر الانسحاب المشبوهة والفوضى القيادية التي مورست خلال المعارك، والأسلحة الفاسدة، وبطولات المقاتلين الفلسطينيين وجبن المقاتلين الصهاينة. كان والدي وعمي رحمهما الله يملكان بقالة حامولتنا، وكنت أمضي الكثير من الوقت فيها  وأستمع إلى أحاديث قائد السرية ونائبه وبعض الذين الذي شاركوا فيها، ومن تلك الأحاديث على سبيل المثال لا الحصر ما رواه أحدهم عن إحدى تجاربهم بقوله لقد قمنا بالهجوم على مستعمرة ( لا أذكر اسمها ) وتمكّنا من اقتحامها وبدأنا بتوزيع قوتنا فيها لإحكام السيطرة عليها؛ وبعد أن فعلنا ذلك وصلتنا أوامر من القيادة  تطلب منا الانسحاب. لقد أدهشنا ذلك لأن الانسحاب كان لا مبرّر له بعد أن تمكّنا من السيطرة على المستوطنة والمترسة فيها.

وروى آخر أنه بينما كنّا متمركزين نحاول استعادة قرية احتلها الصهاينة ظهر في منطقتنا شاب وشقيقته من أبناء القرية الذين ألزموا على الخروج من بيتهم الذي لا يبعد إلا قليلا عن مكان تواجدنا، ويريدان العودة اليه لجلب أشياء ثمينة ومهمّة؛ قرّر الشقيق العودة إلى البيت بنفسه وطلب من شقيقته أن تبقى مع المقاتلين وتنتظره حتى يعود، وبعد ذلك  بدأ في الجري للوصل إلى بيته ، وفجأة أطلق الصهاينة عليه النار وأصيب وسقط أرضا وبدأت شقيقته تصرخ، ثم قمنا بإطلاق كثيف للنار لتغطية اثنان من رفاقنا ذهبا لإحضار الشاب المصاب ومحاولة إنقاذه، وتمكنا من ذلك، لكنه كان قد استشهد.

وغالبا ما تحدّثوا عن مشاركتهم في العديد من المعارك التي خاضوها مع جيش الإنقاذ، وقالوا لقد حدث مرات عديدة أننا واجهنا الصهاينة في قرى ومواقع هامة وتمكّنا من قتل وجرح العديد منهم وطردهم منها، لكن الأوامر كانت تصدر لنا بالانسحاب الغير مبرّر الذي مكن الصهاينة من احتلالها، أضف إلى ذلك أن نوعية معظم الأسلحة الخفيفة والثقيلة التي كنا نستخدمها كانت قديمة مقارنة بتلك التي كانت بحوزة العصابات الصهيونية؛ وكان رواة التجارب من المناضلين يجمعون على أن خيانات القيادات العليا وتآمرها مع العصابات الصهيونية كانت من الأسباب الرئيسيّة التي أدّت إلى هزيمتنا في حرب 1948 وضياع فلسطين.

ومن الروايات عن الاستشهاد والشهداء من ابناء القرية وكيف استقبل أهل القرية أخبار استشهادهم أنه عندما استشهد محمود السليم وأحضروه إلى عقربا، كان الذين حملوا جثمانه من مركز القرية إلى مضافة حامولتة  الواقعة في النصف الغربي منها يغنّون ” إم الوحيد تبكي عليه وإم لثنين ما يهمّها ” وكانوا بذلك يرجعون إلى أن الشهيد لم يكن له سوى شقيق واحد؛ وبقيت ذكراه هو وشهداء عقربا الآخرين خالدة ويعتز بها وبهم أبناء القرية جميعا.

في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين وبعد تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله لقناة السويس وفشل الاعتداء الثلاثي على مصر الذي شاركت فيه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، أصبح عبد الناصر بطلا قوميا، ومحطتا إذاعة القاهرة وصوت العرب المحطتان اللتان يستمع اليهما العرب في كل مكان، وكانت معظم أحاديث الفلاحين في قرى فلسطين تتركّز على مصر وبطولاتها وقيادتها للأمة العربية، وعن الوحدة العربية وتحرير فلسطين، وعن وحدة مصر وسوريا في دولة واحدة هي ” الجمهورية العربية المتحدة.” لقد استطاع عبد الناصر أن يوحّد مشاعر الأمة ويعيد لها الأمل بإمكانية تحقيق الوحدة العربية الشاملة.

كان في بقالة والدي جهاز راديو وعلى الرغم من أن معظم الأنظمة العربية في ذلك الوقت كانت رجعيّة ورائيّة رافضة للتغيير تعاقب من ينتقدها، ومرتبطة بدول استعمارية ومعارضة للمد القومي ولعبد الناصر، إلا أن الفلاحين في قريتي وفلسطين والعالم العربي من محيطه إلى خليجه كانوا يستمعون لإذاعات مصر وتعليقات أحمد سعيد الهجومية اللاذعة التي تخوّن القادة العرب الذين عارضوا سياسات مصر وطموحات عبد الناصر القومية.

لم يظهر في  التاريخ العربي الحديث وتحديدا منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا زعيما عربيا له مصداقية وتأييدا شعبيا كاسحا شمل العرب جميعا كالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر؛ كان الرجل عملاقا صادقا في نواياه وأهدافه وأهمها تحرير فلسطين وتوحيد الوطن العربي؛ ولهذا كانت عواطف الشعب العربي من محيطه الى خليجه معه، وعندما كان يلقي خطابا يستمع اليه العرب في كل مكان؛ لقد اسر الرجل قلوب أبناء الأمة واصبح رمزها وبطلها الذي كانت تأمل بأنّه سيحرّر فلسطين، ويوحد وطنها ، ويعيد لها مجدها وكرامتها.

في قريتنا كانت وطنية الفرد تقاس بحبه لعبد الناصر وتأييده له؛ وعندما يلتقي الفلاحون غالبا ما يتحدثون عن عظمة مصر وجيش مصر، وإخلاص عبدالناصر للأمة العربية وخيانات الاخرين لها؛ ولأن الأغلبية الساحقة منهم كانوا أميون ولا علاقة لهم بالصحف والصحافة، فإن معظم معلوماتهم كانت مرتبطة بما سمعوه من محطات الإذاعة أو ما صوّره لهم خيالهم؛ ما زلت أذكر انهم كانوا يتكلمون في إحدى الجلسات في بقالة والدي عن أسلحة جيش مصر والطائرات والدبابات الروسية التي زوّده بها ” الاتحاد السوفيتي. ” قال أحدهم إن البابات الروسية ” بتطلع ع الجبال العالية “؛ كان أولئك الناس البسطاء الطيبين يصدقون ما يسمعونه عن مصر وجيش مصر لأنهم كانوا يشعرون فعلا أنه جيشهم وسيدافع عنهم ويحميهم من أعدائهم.

أثارت انتصارات وسياسات عبد الناصر القومية مخاوف إسرائيل والغرب ومعظم الحكام العرب الذين كانت تربطهم معاهدات وتحالفات مع الدول الغربية؛ فتوحّد الجميع في التآمر عليه وعلى وحدة سوريا ومصر والمشروع القومي الوحدوي، ونجحوا في تدمير الحلم الكبير بشن حرب عام 1967 التي كانت نتائجها كارثية وأدت إلى احتلال ما تبقى من فلسطين، وسيناء المصرية، والجولان السورية وما زلنا ندفع استحقاقاتها السيّئة حتى الآن. لم يصدق أبناء الشعب العربي ما حدث؛ وكانت الهزيمة بالنسبة لهم بمثابة الصاعقة الكبرى التي دمّرت احلامهم وطموحاتهم بتحقيق الوحدة وبناء وطن قوي يعيشون فيه بأمن وأمان وعزّة وكرامة.

ومن الاحداث الهامة الأخرى التي كانوا يناقشونها بعاطفة واضحة إنفصال سوريا عن مصر، وثورة واستقلال الجزائر واعجابهم بالرئيس الراحل أحمد بن بلا ورفاقه الثوار؛ والحرب المصرية السعودية في اليمن، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وتكليف الأستاذ أحمد الشقيري برئاستها، والانقلابات العسكرية التي كانت تحدث في الأقطار العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وظهور الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، ومعركة الكرامة وما تبع ذلك من أحداث مأساوية.

لا عجب في أن يكون الشعب الفلسطيني شعبا مسيّسا لأن تطوّرات السياسة ومؤامراتها وتقلّباتها كانت، وما زالت، وستظل جزءا من قضيته وتأثر تأثيرا مباشرا على حاضره ومستقبله؛ في الأربعينيّات والخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي كان الشعور القومي العربي قويا، وكان الفلاحون الفلسطينيين ببساطتهم ورغم عزلتهم وشح مصادر الثقافة في بيئتهم الاجتماعية يهتمون كثيرا بالسياسة وأوفياء في تصرفاتهم وأحاسيسهم لإخوانهم العرب الآخرين.

كانوا يحلمون بأمّة عربيّة واحدة وبتحرير فلسطين، فتشرذمت الأمة واصبحت أمما متحاربة يدمي ويدمّر بعضها بعضا، واستأسد أعداؤها عليها، وحلّ مكان قادتها الكبار من أمثال جمال عبد الناصر، وشكري القوتلي، وأحمد بن بلا، وعبد السلام عارف، والحبيب بورقيبة .. طراطير سياسة .. لا قيمة ولا مصداقية لهم، ولا هم لهم سوى البقاء في الحكم ونهب ثروات شعوبهم.

لقد أضاعوا فلسطين، وداسوا على كرامة الإنسان في كل قطر عربي، ومزّقوا الوطن العربي ودمّروه بأيديهم وغبائهم، فضاعت بوصلة السياسة العربية وأصبح  أبناء القرى والمدن الفلسطينية والعربية لا يعرفون ماذا يخبئ لهم القدر من مآسي، والأمة كلها الآن في مهب الريح يتحكم بها حثالة عرب يحكمونها بالمؤامرات والدسائس والبطش والانبطاح لأعدائها، وكما يقول المثل الفلسطيني” جاجة حفرت على راسها عفرت”، وسباتي اليوم الذي تحاكمهم فيه شعوبهم وينالوا جزاءهم، وليس لنا كشعب عربي سوى الصبر والصمود والتمرّد على واقعنا، والأمل بالله والأجيال القادمة !

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى