قبل أن… يندثر العشق

في زمن ما، قد يبدو بعيدا، وهو غير بعيد، إذ ما يزال ذاك النبض، يخفق في الوجدان بين حين وحين. وفي عصر ما، وفي تاريخ ما، وفي عشق ما.. كنا. كنا أنقياء. كان الوطن يعني امتدادا ما بين الروح والروح، ما بين القلب والروح. وكانت محطات القطارات حلما يجرّنا إلى حلم أبعد، ننتظر على مقاعد فارغة تحطّ عليها عصافير تبحث عن الحُبّ والحَبّ لتلقم بعضها بعضا. كنا أنقياء قبل أن تلوّثنا السياسة والجغرافية وواقع قذر وانحرافات في المفاهيم والأخلاق وتشتت العائلات والجيران وانجراف الناس خلف تكنولوجيا اعتقدوا لوهلة أنها عالمهم الحقيقي، فزاد اغترابهم وانكمشوا في عزلتهم.. ضاع الجميع، وتشتتنا، وتلاشى الدفء، ونسينا قيمة الحب الإنساني في حياتنا.

” ههنا، بين شظايا الشيء

واللا شيء، نحيا

في ضواحي الأبديةْ

نلعب الشطرنج أحياناً، ولا

نأبهُ بالأقدارِ خلف الباب

ما زلنا هنا

نبني من الأنقاض

أبراجَ حمام قمريةْ”(محمود درويش)

في عام 1969، دعا اتحاد نساء العراق الشاعر نزار قباني لإلقاء قصيدة في مهرجان شعري، ويكتب نزار عام 1979 ما يلي:

“.. بعد قراءة قصيدتي، التقيت بقصيدة ثانية اسمها بلقيس.. وتزوجتها.. وأقمنا، قبل عشر سنوات، أول مؤسسة وحدوية بين قلبين.. وبين وطنين.. مؤسستنا الصغيرة هذه، كانت رائدة، وطليعية، وشجاعة. وكنا، بلقيس وأنا، نطمح إلى أن نكون مثالا ونموذجا لوحدات أخرى قادمة تجعل أسماء الوطن أكثر اتساعا.. ونجومه أكثر عددا.. وبحاره أكثر زرقة.. وأطفاله يتكاثرون بالملايين كما تتكاثر شقائق النعمان في أول الربيع بين الرطبة وأبي الشامات..

عشر سنوات ونحن ننتظر أن ينضم إلى نادينا الصغير عشاق جدد يؤمنون مثلنا أن الحب هو الحجر الأساسي في تكوين الإنسان.. وفي تكوين الأوطان.

نادينا نحن مفتوح الذراعين لكل الرجال والنساء والأطفال والعصافير. شرط الانتساب لنادينا بسيط جدا، وهو أن يكون طالب الانتساب عربيا منذ ولادته.. وعاشقا منذ ولادته.. وأن يترك على باب النادي لدى دخوله كل عقدة الإقليمية والفئوية، والأنانية، وكل ميراثه القبلي، وأن يكون مستعدا أن يتزوج الوطن في أي لحظة.

الزواج من امرأة.. والزواج من وطن.. مشروع قومي واحد، ولا تصدقوا من يقول لكم أن المرأة شيء.. والوطن شيء آخر…”.

ذاك زمان جميل مشبع بالعطاء، قبل أن تلوثنا الرأسمالية بكل أحقادها، فامتلأت نفوسنا بالجشع، والكراهية. زمان كان رغيف الخبز يكفي الجميع، والهواء يتنفسه الجميع دون رقيب أوحسيب. قبل أن يقرر نفر من الفلاسفة ولسدّ أفواه المديونية أن” على قد بساطك مد رجليك”، وفي حديث آخر ” على قد لحافك مد رجليك “، واحترنا بينهما، فالبساط قد اهترأت جوانبه، وتناسلت خيوطه، حتى بان سروال من ينام عليه. أما اللحاف، فحدث ولا حرج، إذ لم تدرك الفلاسفة إياها أن اللحاف يكشّ (يقصر) مع مرور الزمن ليصل إلى الرقبة، وعلى كلا الوجهين أو التفسيرين، فإن اللحاف والبساط يتلاشيان حتى يستحيل (البني آدم) إلى.. كما خلقتني يا رب. هذا كله يحدث في زمن القحط والشحط والسخط والقهر ونزيف الروح، والغلاء الفاحش المتوحش، وتقلص القروش في الجيب.

ويكمل نزار عن ذاك الزمن المغبش بالفرح..

“كان نادينا صغيرا وجميلا، تلتصق جدرانه ببعضها من فرط الحنان، وفيه بُسط حمراء من شمال العراق، وستائر من حرير الشام، وبلح من بساتين أبي الخصيب، ومشمش ودراق من غوطة دمشق، واستكانات شاي تضيء كأنها شموس من العقيق.. ومنّ وسلوى لا أدري حتى الآن إذا كانت حلاوتها تأتي من عند الله.. أم من شفتي حبيبتي”.

وفي قصيدة لمحمود درويش عن بيت نزار :

بيتٌ من الشعر- بيت الدمشقيّ

من جرس الباب حتى غطاء السرير،(اللحاف)

كأنّ القصيدةَ سُكنى وهندسةٌ للغمام.

بلا مكتبٍ كان يكتب.. يكتب فوق الوسادة

ليلاً، وتُكملُ أحلامُهُ ذكريات اليمام.

ويصحو على نَفَس امرأةٍ من نخيل العراق،

تعدّ له الفُلّ في المزهرية..”

ها قد فرط الحنان يا محمود وتهشمت المزهرية، واهترأت البسط الحمراء، وتمزقت ستائر الحرير، وذبل البلح والمشمش والدراق، وانطفأت استكانات الشاي، وما عاد الله يرسل منّا وسلوى.. يا نزار..

فمن يعيد لنا أو يعيدنا لذات زمان قديم!!

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى