تونس.. في ضرورة إصلاح النظام السياسي

احتدمت الخلافات السياسية الكبيرة بين أطراف السلطة في تونس،القائمة بين رئيس البرلمان راشد الغنوشي من جهة،ورئيس الجمهورية قيس سعيّد من جهة أخرى،لا سيما بعد المواقف التي اتخذها هذا الأخيرمن الأزمة الليبية عقب زيارته الأخيرة لفرنسا،الأمر الذي أثار غضب قيادات النهضة، ورئيسها الغنوشي.
وباتت الصراعات السياسية ،وصراع الصلاحيات بين أقطاب السلطة التونسية ،أمرًا مألوفًا،في المشهد السياسي،إذ تعكس أزمة النظام السياسي القائم،الذي تأسس في تونس بعد سقوط النظام السابق في عام 2011،وكرّسه دستور 2014،بوصفه نظامًا سياسيًا شاذًا وهجينًا،حيث تتوزع فيه السلطة التنفيذية بين طرفين،رئيسي الجمهورية والحكومة،مع صلاحيات أوسع للثاني،وهو المتسبب الرئيس في الأزمة التي تعيشها تونس في الوقت الحاضر.
فهو ليس نظامًا برلمانيًا قائمًا على الفصل بين السلطات،كما في الأنظمة البرلمانية التي تقوم على الفصل المرن بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية،ولا نظامًا رئاسيًا،مثل الأنظمة الرئاسية التي تعرّف بأنها تقوم على الفصل الصارم بين السلطتين. والحال هذه، تستمر معضلة تنازع الصلاحيات بين الرؤساء،في غياب المحكمة الدستورية،الهيكل الدستوري الوحيد الذي يفصل في قضايا الصراع حول الصلاحيات.فتونس بلد الاستثناء الديمقراطي،ولغاية الآن ،لم تتشكل فيها المحكمة الدستورية.
من الذي يقود السياسة الخارجية التونسية؟
رغم أنَّ تونس تتبنى موقفًا تقليديًا من الشرعية في ليبيا يتماهي مع اعتراف الأمم المتحدة بحكومة الوفاق التي انبثقت عن اتفاق الصخيرات عام 2015، فإنَّ الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ صدرت عنه تصريحات وصفها خصومه بالغريبة مؤخرًا،خلال زيارته الأخيرة لفرنسا ولقاء رئيسها ماكرون قال فيها بشأن الموقف من الأزمة الليبية،إنَّه “يجب على الليبيين وضع دستور مؤقت،على غرار الدستور الذي جرى وضعه في أفغانستان سنة 2020،كما اعتبرسعيَّدْ أنَّ شرعية حكومة “الوفاق” الليبية برئاسة فائز السراج،”مؤقتة”،و”قائمة على الشرعية الدولية”، بوصفها”شرعية مؤقتة” ولن تدوم، مؤكدًا أنَّ تونس من أكثر الدول تضرُرًا مما يحدث في ليبيا.
وكرَّر سعيَّد مرارًا ملف “القبائل” في ليبيا وأهمية الاعتماد عليهم في حل الأزمة الليبية،بل والتقى من قبل بأعيان وحكماء عدة قبائل ليبية في تونس.وفي الواقع الليبي،لا يمكن تجاهل أو تجاوز القبائل،فهي تشكل البنية المجتمعية المهيمنة،وهي بإمكانها لعب دور مؤسساتي في ليبيا.فإشراك القبائل في التسوية السياسية يمكن أن يكون منطلقًا مجتمعيًا لإيجاد حلٍ قانونيًّ وسياسيٍّ على قاعدة تجميع القبائل لتتحمل مسؤولية في تقرير مصيرليبيا.
ولم يتأخر ردّ رئيس حركة “النهضة الإسلامية” في تونس راشد الغنوشي،إذ أكّد في تصريحات جاءت على هامش انعقاد الدورة 40 لمجلس شورى “النهضة” (54 مقعدا بالبرلمان من إجمالي 217) بمدينة الحمامات، شرقي البلاد،أنَّ حكومة “الوفاق الوطني” هي “الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا”.
ويأتي هذا الموقف بعد أيام من تصريحات للرئيس التونسي سعيَّد، خلال زيارته لفرنسا، التي انتقد فيها رئيس البرلمان التونسي،الغنوشي،بسبب اتصاله الهاتفي،يوم الثلاثاء19مايو/آيار2020،برئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، مقدمًا له “تهانيه باستعادة قواته لقاعدة الوطية الاستراتيجية،وعبَّرله عن ارتياحه لعودة هذه القاعدة القريبة من حدود تونس إلى الشرعية”.
وأثارموقف الغنوشي آنذاك، جدلاً سياسيًا حادًا في تونس من أحزاب سياسية ومكونات المجتمع المدني وأساتذة في القانون الدستوري، حول إشكالية قيادة السياسة الخارجية التونسية ،لمن تؤول؟ ما دفع نواباً في البرلمان إلى مساءلة رئيس المجلس، بدعوى أنَّه “تجاوز صلاحياته متدخلاً في مسائل دبلوماسية ليست من مهامه، ذلك أن دستور 2014 ينص على أنَّ هذه المهام ترجع لرئيس الجمهورية وحده، علاوة على ما تم من خرق لمواقف تونس الرسمية من الأزمة الليبية، والموسومة بالحياد وعدم التدخل في الشأن الليبي”.
ارتباك سعيّد أمام مطالبة اعتذار فرنسا عن الماضي الكولونيالي
قبل سفر الرئيس التونسي إلى باريس ،تقدمت كتلة “إئتلاف الكرامة” السلفية التي تناهض معظم الحقوق المدنية وكلّ ما هو تقدمي وعصري تقريبًا في تونس،والمتحالفة مع حركة النهضة بلا ئحة في شهر حزيرام/يونيو الماضي،للتصويت عليها داخل البرلمان التونسي،تطالب فرنسا بالاعتذار عن جرائم الاحتلال الفرنسي لتونس خلال المرحلة التاريخية (1881-1956) .
لكِنَّ هذه اللائحة لم تحرزْعلى التصويت الكافي،بسبب وقوف حركة النهضة موقفا غير واضح من لائحة إدانة الاحتلال والمطالبة بالاعتذار،إذ انقسم نوابها بين متغيب (هارب) وموافق ومعارض.واتهمت النهضة حينها بمهادنة فرنسا لتسويق نفسها كشريك للاحتلال، فكان التصويت مع اللائحة فرصة لإدانتها واتهامها في صدق مواقفها،واستعادة كلام كثير عن عمالة الإخوان وتوابعهم،واستعيد شعار “الإخوان عملاء الإمبريالية”.
لكنَّ جوهر الموضوع ليس الموقف من هذه اللائحة، بل في سقوط خطاب الرئيس قيس سعيد، الذي تميَّزَ به خلال حملته الانتخابية، من كونه معادي للاحتلال ومدافع عن السيادة الوطنية، ومعتبر التطبيع خيانة عظمى. فخلال مقابلة مع قناة “فرانس 24” جاءت قضية الاستعمار الفرنسي لتزيد من توتير الأوضاع وتثير الاستغراب في تونس، وحتى لدى الصحافي مارك بليرمان الذي كان يحاوره.وردًّا على سؤال الصحافي بشأن اعتذار فرنسا للشعب التونسي بسبب احتلالها البغيض ،أجاب سعيّد مستعينا بمثل فرنسي معناه “من يعتذر يتهم نفسه” وسط استغراب بالطيفة الذي سأله قائلا “ولم لا؟” ليرد سعيّد بأنه ينظر إلى المستقبل.
وذكّر الصحافي، الرئيس التونسي بأن نظيره إيمانويل ماكرون الذي وصل للحكم في شهر أيار/مايو 2017، عُرِفَ بمواقفه الجريئة عندما صرح في حواره له مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية “إنَّ 132 عامًا من الاستعمار الفرنسي للجزائر شهدت جرائم وأفعالا بربرية التي ستصنف اليوم بوصفها جرائم ضد الإنسانية”.كما دعا ماكرون خلال زيارته للجزائر في شباط/فبراير 2017 فرنسا للاعتذار عن جرائم الماضي،فيما يتعلق بملف جرائم الاحتلال الفرنسي للجزائر،لا سيما تلك التي ارتكبت إبان حرب استقلال الجزائر التي انتهت في عام 1962.وقد أثارت تعليقات ماكرون ردود فعل غاضبة من في سباق انتخابات الرئاسة آنذاك وخاصة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن، وفيون الذي شجب هذه التصريحات ووصفها بأنها تنم عن “كراهية لتاريخنا”، ولكنَّها لاقت ترحيبًا واسعًا في الجزائر.
لاتزال صفحة الماضي المتمثلة بالحقبة الكولونيالية ، و صراع الحركة الوطنية التونسية ، تلقي بإرثها و حمولتها التاريخية الثقيلة على مستقبل العلاقات الفرنسية-التونسية، بسبب المآسي التاريخية التي حلت بالشعب التونسي.ويعلمنا التاريخ أيضا، وبالدرجة الأولى، أن النظام الكولونيالي المتناقض جذريا مع المبادىءو القيم التي نادت بها الثورة الديمقراطية الفرنسية، قد أدى إلى ارتكاب مجازر بعدة آلاف من التونسيين،واقتلعهم من أرضهم، وشردهم .
وتساءل الصحافي الفرنسي عما إذا كان الأمر متشابها في البلدين(الجزائر وتونس) وعن أحقية التونسيين باعتذار فرنسي. ولكن سعيّد اعتبر أنَّ الأمر يختلف عن الجزائر، قائلا إنَّ تونس كانت تحت نظام الحماية وليس تحت الاستعمار المباشر مثل الجزائر، وإنَّ الاعتذار يمكن أن يكون بطرق أخرى، عبر مشاريع واتفاقات. وصرح بأن اللائحة التي طرحها “ائتلاف الكرامة” في البرلمان التونسي لم تكن بريئة وتساءل “لما نطالب بعد 60 سنة بالاعتذار؟”.
في الحقيقة لم يكن موقف الرئيس سعيد موفقًا، لأنَّه وبكل بساطة لا يمتلك أي مشروع وطني ذي بعد قومي لإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية،لا سيما أنَّ سيادة الدولة الوطنية التونسية خاضعة للحقل السيادي الرأسمالي الأوروبي-الأمريكي. ومن هنا يأتي التباس معنى السيادة الوطنية كتعبير عن “الأزمة الشرعية”للدولة الوطنية التونسية كتكوين سياسي محكوم بالبحث الدائم عن إخفاء معالم شرعيته التاريخية.
والسؤال المطروح تونسيًا وعربيًا ،هل يمتلك الرئيس التونسي الجديد قيس سعيد استراتيجية وطنية وفكر سياسي راديكالي لتحويل الدولة الوطنية التونسية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية الأوروبية -الأمريكية إلى موقع متمرد على هذه السيادة،وإعادة فتح الحقل التاريخي العربي المقاوم للمشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني ،لا سيما أنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في تونس هو التحول إلى ثورة وطنية جذرية قادرة على التحرروالانعتاق كُلِّيًا من الحقل السيادي للهيمنة الغربية الأوروبية والأمريكية.
في الواقع لا يمتلك الرئيس سعيّد برنامجًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ،ما عدا كلمة “أنَّنِي لا أَبِيعُ وَهْمًا”وهي كلمة عاطفية جدًّا تَدْخُلُ في وِجْدَانِ الشَعْبِ.
حكومة الفخفاخ وتزايد شبهات الفساد حولها
تتراكم كتابات كثيرة في تونس حول مصير حكومة إلياس الفخفاخ المتهمة بشبهات الفساد حول رئيسها وبعض وزرائه (وهي بين أيدي القضاء).وهاهو الناطق الرسمي لحزب”قلب تونس” المعارض،الصادق جبنون،يلوح بتقديم لا ئحة سحب الثقة من الحكومة وتكوين لجنة برلمانية للتحقيق في ملف تضارب المصالح حول رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ.
وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد هو الذي كلَّف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة،على أساس أنَّها ستكون حكومة الشفافية والوضوح،وما أنْ مرَّبالكاد المائة يوم على تشكيلها ،حتى بات عدد من الوزراء في الحكومة يحملون “وزر” ملفات شبهات الفساد،ارتبطت بهم وعلى رأسهم رئيس الحكومة نفسه،وهي أحيانًا تتعلق بتضارب المصالح ،وسوء التصرف، وعدم احترام قرارت الحكومة.
فقد قال رئيس هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد (دستورية مستقلة)،الإثنين الماضي، شوقي الطبيب،في جلسة بالبرلمان التونسي،إنَّنا “أمام وضعية تضارب مصالح لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ”.وأضاف: “الفخفاخ قام بالتصريح بمكاسبه بعد تعيينه رئيسًا للحكومة في 27 شباط/ فبراير 2020،وصرّح بامتلاكه مساهمات في 5 شركات (لم يسمّيها)، وتصريحه لم يتضمّن أنّ الشركات كلها أو بعضها تتعامل مع الدولة تجاريا”.
وكشف الطبيب أن الهيئة وصلها “إشعارين” من نائب برلماني، وآخر طلب عدم الكشف عن هويته، تضمنا “اتهامات بشبهة الفساد لرئيس الحكومة واستغلال المعلومة الممتازة (المتيقنة) وتضارب المصالح واستغلال النفوذ وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع”.
وأوضح أنَّ “قانون تصريح المكاسب، ينص في المادة 18، بمطالبة الفخفاخ،إحالة التصرف في مساهماته بهذه الشركات لشخص آخر، في غضون شهرين من توليه لمهامه، لكنه إلى اليوم لم يقم بذلك”.وحسب الطبيب فقد “بقي الفخفاخ وكيلاً لشركتين وعضو مجلس إدارة لشركة من أصل 5، حتى تاريخ قريب (15 نيسان/ أبريل، و22 أيار/ مايو الماضيين) وهي وضعية مخالفة للقانون والدستور، وهذه المعطيات لم تُبلغ لنا إلا بتاريخ 25 حزيران/ يونيو الجاري عبر مراسلة منه”.ودعا رئيس الهيئة، الفخفاخ إلى “التخلي عن المصلحة المتسببة في وضعية “تضارب المصالح” تطبيقا لأحكام القانون الذي يحجر على رئيس الحكومة التعامل التجاري مع الدولة”.
وتعاني حكومة الفخفاخ من تشقاقات كبيرة في صفوفها،وهي عاجزة عن حل مشكلات الشعب المعيشية،ونقص الأغذية،ومديونية الدولة،واقتصاد البلد شبه القعيد،والبطالة،وتعثر التنمية، وانحطاط البنى التحتية، وتدهور قطاعات الصحة والتعليم والسياحة… وحتى حين تجنح بعض كتل البرلمان إلى مساءلة رئيس الحكومة حول احتمالات الفساد الشخصي وتضارب المصالح، فإنّ المحتوى الحقيقي لتلك المحاولات إنَّما ينهض على تصفيات الحسابات السياسية،كما هو الحال بالنسبة لحزب “قلب تونس”ورئيسه نبيل القروي،الذي سبق أن سُجِنَ بسبب ملفات فساد.
في ضوء المعركة المتفجرة بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، المستفيد الأول من ضعف الحكومة الحالية هي حركة النهضة، التي تطالب بتشكيل حكومة “وحدة وطنية”تضم جميع الأطراف السياسية ،لا سيما حزب”قلب تونس ” الذي يمثل اليمين الليبرالي،وكانت النهضة تتهمه بالفساد في السابق،وأصبح الآن على علاقة قوية مع اليمين الشعبوي الذي يمثله “ائتلاف الكرامة” السلفي،حتى إنَّ بعض المحللين بات يتحدث عن إمكانية اندماج الكتلتين البرلمانيتين في كتلة واحدة. فهذا التقارب هو ستار يتخفى وراءه حركة النهضة
المستمية من أجل إشراك “قلب تنس” في حكومة إلياس الفخفاخ، الشيء الذي يرفضه رئيس الجمهورية الذي لم يقم بأي مبادرة في هذا الاتجاه للقيام بالوحدة المزعومة ،وكذلك رئيس الحكومة، الذي أشهر الفيتو أمام “قلب تونس” و “ائتلاف الكرامة”،لتوسيع حكومته لتصبح حكومة “وحدة وطنية”.
وَلَيْسَ خَافِيًا عَلَى أحَدٍ، أَنَّ النَّهْضَةَ هِي الْمُسْتَفِيدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا التَّحَالُفِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يَضُمُّ الْيَمِينُ الدِّينِيُّ مُتَمَثِّلًا بِالْإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَ الْيَمِينُ الشَعْبَوِيُى السَّلَفِيَّ “اِئْتِلَاَفَ الْكَرَامَةِ”،وَالْيَمِينُ اللِّيبِرَالِيُّ مُتَمَثِّلًا ب” قَلْبَ تُونِسِ”، لِأَنَّهُ سَيُدَعِّمُ تَمَرْكُزُهَا فِي الْبَرْلَمَانِ، مَا سَيُمَكِّنُهَا مِنْ تَشْكِيلِ أغْلَبِيَّةٍ مُرِيحَةٍ تجْعَلُهَا مَاسِكَةً بِزِمَامِ الْمُبَادَرَةِ وَبِخُيُوطِ اللُّعْبَةِ وَالَّتِي تَتَعَدَّى هُنَا الْبَرْلَمَانِ، لِتَحْدِيدِ مَصِيرِ الْحُكُومَةِ وَعَلَاَّقَةِ السُّلْطَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ بِالسُّلْطَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ، الْأَمْرَ الَّذِي يُمَكِّنُهَا مِنْ بَسْطِ سَيْطَرَتِهَا عَلَى كَافَّةِ مَفَاصِلِ الدَّوْلَةِ، وَتَمْريرِ الْمَوَاقِفِ وَ الْقَرَارَاتِ الَّتِي تَخْدِمُ أَهْدَافَ الْمِحْوَرِ الْإِقْلِيمِيِّ التَّرْكِيِّ – الْقَطَرِيَّ الَّذِي تَنْتَمِي إِلَيْهِ.
واليوم مع تقارب وجهات النظر بين “قلب تونس”و “ائتلاف الكرامة”، بات الثلاثي البرلماني”النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة” يشكل حالة شاذة في المشهد السياسي التونسي، حيث تجتمع أحزاب الحكم و المعارضة على توجهات ومواقف،لا تعكس فلسفة الحكم ولا المعارضة، وهذه الأحزاب اللاهثة خلف الشرعية و القوة البرلمانية والنفوذ السياسي بطرق مختلفة،تريد القفزعن شعبية وشرعية رئيس الجمهورية وتعيد زمام المبادرة إلى البرلمان، لا سيما أنَّ رئيس الدولة ورغم تصريحاته المتناقضة مع الدستور الحالي، إلا أنَّه نجح في إيجاد موقع له في الخارطة السياسية الحالية رغم صلاحياته المحدودة بالدستور.
خاتمة:إصلاح النظام السياسي لتجاوز نزاع الصلاحيات
يُعَدُّ النظام السياسي الذي تأسس في ضوء دستور 2014 نِظَامًا شاذًا وهَجِينًا، لأنَّ الفكر السياسي الذي تبنته الأحزاب التي فازت في انتخابات 23 أكتوبر2011،لا سيما حزب النهضة الإسلامي الذي ارتبط بالهوية، أو في سنة 2014،حزب نداء تونس العلماني الذي نادى بالمساواة في الميراث، كان فِكْرًا تَقْلِيدِيًا،وغير متطابق مع انتظارات الثورة التونسية.
وكان الرئيس قيس سعيّدْ وصف النظام السياسي لابعد الثورة ، ووفق ما نص عليه دستور 2014، ب”صحن تونسي”، وذلك في تصريحً إعلاَميٍ لموقع “نواة” الإلكتروني بتاريخ 11فبراير2014، بصفته أستاذ قانون دستوري، وقدَّم هذا الوصف للنظام السياسي “لصعوبة تصنيفه ونظرًا لأنَهُ يأخذُ من كل شيىء بطرفٍ..”.
وبما أنَّ الحكومات المتعاقبة على تونس منذ سنة 2011 وليومنا هذا،أثبتت فشلها الذريع في حل مشكلات البلاد،فإنَّ إصلاح النظام السياسي بات ضروريًا، ولا يجوز أن يقتصر فقط على محاربة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ووزاراتها وإيقاف عملية السطو على المال العام الذي تقوم به أحزاب السلطة الفاسدة,التي توّلت إدارة البلد بعد سقوط النظام الديكتاتوري .
بَلْ إِنَّ إِصْلَاحَ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ يَجِبُ أَنْ يَشْمُلَ أَيْضًا تَغْيِيرَ الْقَانُونِ الْاِنْتِخَابِيِّ الْحَالِيِّ الْقَائِمِ عَلَى التَّمْثيلِ النِّسْبِيِّ، وَاِعْتِمَادِ أكْبَرِ الْبَقَايَا، الَّذِي أَنْتَجَ برلمانًامُتَشَّظِيًا وَمُتَشَكِّلاً مَنْ كُتَلٍ بَرْلَمَانِيَّةٍ تَضُمُّ الْأَضْدَادُ الْمُخْتَلِفَةُ إيديولوجيًا وَفِكْريًا، إِلَى جَانِبِ تَجَمُّعِ الْخُصُومِ تَحْتَ قُبَّةِ الْبَرْلَمَانِ فِي مَجْمُوعَاتٍ صَغِيرَةٍ، لَا تَمَلِكُ أَيِّ مِنْهَا أغْلَبِيَّةٍ كَافِيَةَ لِلْحُكْمِ أَوْ لِتَزَعُّمِ الْبَرْلَمَانِ، فَكُتْلَةَ النَّهْضَةِ الْكُبْرَى عَدَديًا، لَا يتجاوزعدد نُوَّابِهَا ال54 نَائِبًا، أي أَنَّهَا لَا تَصِل إِلَى رُبُعِ تَرْكِيبَةِ الْبَرْلَمَانِ الْمُكَوِّنِ مِنْ 217 نَائِبًا، وَهِي الْحَالَةُ الَّتِي لَا تُنْتِج سِوَى التَّوَتُّرَاتِ وَ الصِّرَاعَاتِ، وَتَغْيِيرَ قَوَاعِدَ اللُّعْبَةِ الْاِنْتِخَابِيَّةِ الَّتِي أَرْسَتْ قَوَاعِدُهَا أَحزاب السُّلْطَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا سِيَمَا حَرَكَتَي النَّهْضَةِ وَالنِّدَاء ) وَمُشْتَقَّاتِ أحْزَابِ تُونِسِ)، الْلَتَيْنِ سيطرتاعلى دَوْلَةِ الْفَسَادِ الْعَمِيقَةِ مِنْ خِلَالَ نِظَامِ المحاصصات الَّذِي شَكَّلِ أَساس النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الْقَائِمِ.
لقد أصبحت معركة إنهاء وجود دولة الفساد العميقة،التي تعني باختصار قلب الدولة النابض الذي يُسَيِّرُعمل مؤسسات الدولة والوزارات والهيئات المحلية .. وهم وكلاء الوزراء ورؤساء الهيئات المستقلّة والمدراء العامون في الوزارات والهيئات المحلية ،المعركة المحورية من أجل إصلاح النظام السياسي في تونس .. والحديث عن أي إصلاح سياسي أو اقتصادي لن يأخذ طريقه إلى التنفيذ ما لم يتمّ إنهاء دولة الفساد العميقة وإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب الذي كان معمولاً به في تونس،وفي بلدان العالم المتقدّم ..
فِي تُونِسَ هُنَاكَ أفكارٌوتصوراتٌ مَطْرُوحَةٌ بِشَأْنِ إِصْلَاحِ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ التّونِسِيِّ هِي للتدوال وَالْبَحْثِ وَالْحِوَارِ بَيْنَ أحْزَابٍ سِيَاسِيَّةٍ، وَأَصْحَابِ الْاِخْتِصَاصِ وَالْاِهْتِمَامِ مِنْ أَسَاتِذَةِ الْأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْقَانُونِ الدُّسْتُورِيِّ، وَمِنْ قِبَلِ رَئِيسِ الْجَهْوَرِيَّةِ نفسه.فَالنِّظَامُ السِّيَاسِيُّ شِبْهُ الْبَرْلَمَانِيِّ الَّذِي أَفَرْزَتْهُ الْعَمَلِيَّة السِّيَاسِيَّة بَعْدَ الْعَامِ 2011 وَكَرَّسَهُ دُسْتُورُ الْعَامِ 2014، مَلِيءٌ بِالثُّغْرَاتِ الْقَانُونِيَّةِ وَالْخَلَلِ النُّظُمِيِّ، وَبِمَسَارِبِ الشَّلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْفَشَلِ.وَمَا الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ التَّوَافُقِيَّةُ وَالْمُحَاصَصَةُ الْحِزْبِيَّةُ، وَ الْفَسَادُ، إِلَّا نِتَاجًا طَبِيعِيًّا لِهَذَا النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ الْمُشَوَّهِ وَالشَّاذِّ..
ويعطي الدستور الجديد،صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة،مقابل صلاحيات محدودة لرئيس الدولة،وهو ما يقود إلى تهديد العلاقة بين السلطات،ويجعل رئيس الدولة تحت مظلة رئيس الحكومة ،وهذا إعلان واضح عن نوايا مُبَيِّتَةٍ عملت حركة النهضة على تمريرها لجهة تفضيلها النظام البرلماني، حتى تبقى هي القوة السياسية المهيمنة على المشهد السياسي التونسي.
ولذلك، فإنَّ الخطوة الأولى باتجاه التغيير الحقيقي في تونس ،تتمثل في تعديل الدستور بما يحقق سدِّ جميع الثغرات، وإنشاء نظام سياسي جديد، أكثر فاعلية ونجاحاً. ويمكن اعتبارالنظام شبه الرئاسي (الرئاسي ـــ البرلماني المختلط) الذي يطبقه عدد مماثل من الدول،ونموذجه الناجح النظام السياسي الفرنسي،هوالأكثر ملائمة لواقع تونس،فهو الكفيل بالقضاء على أغلب أنماط المحاصصة السياسية والحزبية، واجتثاث أغلب جذور الفساد والفشل والخلل والشلل، وإلغاء آلية الديمقراطية التوافقية، وتطبيق آلية ديمقراطية الأغلبية السياسية.
يَسْتَنِدُ النِّظَامُ الرِّئَاسِيُّ الى قَوَاعِدِ النُظُمِ الْجُمْهُورِيَّةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ نَفْسُهَا، مِنْ نَاحِيَةِ وُجُودِ السُّلْطَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ الثلاث لِلدَّوْلَةِ: التَّنْفِيذِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّة.وَيَتَمَيَّزُ هَذَا النِّظَامُ عَنِ النِّظَامِ الْبَرْلَمَانِيِّ وَالنِّظَامِ شِبْهِ الرِّئَاسِيِّ، بِأَنَّ رَئِيسَ الْجُمْهُورِيَّةِ هُوَ الَّذِي يَتَرَأَّسُ السُّلْطَةُ التَّنْفِيذِيَّةُ وَمَجْلِسُ الْوُزَرَاءِ، وَهُوَ أَيْضًا الْقَائِدُ الْعَامُّ لِلْقُوَّاتِ الْمُسَلَّحَةِ.وَيَتِمُّ اِنْتِخَابَ رَئِيسَ الْجُمْهُورِيَّةِ فِي النُظُمِ الرِّئَاسِيَّةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ اِنْتِخَابًا مُبَاشِرًا مِنَ الشَّعْبِ لِخَمْسِ سنوَاتٍ، تُجَدِّدُ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ.
وَيَقُومُ الرَّئِيسُ الْمُنْتَخَبُ بِاِخْتِيَارِ الْحُكُومَةِ وَعَرْضِهَا عَلَى الْبَرْلَمَانِ لِمَنْحِهَا الثِّقَةَ، سَوَاءً لِكُلِّ الْحُكُومَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ لِكُلِّ وَزِيرٍ بِشَكْلِ مُسْتَقِلِّ.كَمَا يُعَيِّنُ الرَّئِيسُ نَائِبًا لَهُ، وَيَسْتَعِينُ بِعَدَدٍ مِنَ الْمُعَاوِنِينَ.
وفي تونس التي عانت طويلاً من النظام الرئاسوي، ينبغي تكثيف عملية التوعية بالفرق الشاسع بين النظام الرئاسي الديمقراطي المقترح،والنظام الرئاسي الدكتاتوري الفردي الذي حكم تونس لمدة أكثرمن خمسة عقود.كما يمكن وضع كوابح دستورية وقانونية تَحُولُ دون حصول أيَّ لونٍ من ألوان التفرُّدِ من جانب الرئيس،ولا سيما القوانين التي تفعل الرقابة والمحاسبة من السلطتين التشريعية والقضائية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى