الموقف الروسي وقضايانا

 

هل يمكن لـ روسيا الأتحادية ورئيسها فلاديمر بوتين الإنقلاب على موقفها الداعم  لسورية وتحالفها مع أيران .. والإنفلات أيضاً من جوهر سياساتها المتناقضة أو المتباينة على الأقل مع الولايات  المتحدة الأمريكية.

ابتداءً لا بد من التذكير بأن الدول ليست جمعياتٍ خيرية ، ولا معاهد لتعليم الأخلاق والمثل العليا للآخرين ، وإن كانت واشنطن والغرب بعامة يتخذان من قضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وغيرها ذرائع للتدخل في شؤون الدول الأخرى وفرض الحصارات العسكرية والإقتصادية عليها وشن الحروب ومصادرة أرصدتها المالية وتجنيد المرتزقة والإرهابيين والعملاء ضدها .

وفيما يتعلق بروسيا الإتحادية فهي ليست معنية بفرض أجندة دينية أو أيديولوجيا معينة أو أي نوع من العقائد أو الأفكار المميزة أو الزائفة التي يتذرع بها الغرب لفرض ارادته وتدخلاته وعدواناته .. لكن لروسيا بالضرورة مصالح أمنية وعسكرية وإقتصادية وسياحية وثقافية ، وهي مصالح مترابطة في جوهرها ؛ أي تقدم في واحد منها يخدم المصالح الأخرى .

ولا بد أن روسيا تسعى إلى تحقيق هذه المصالح ، وهذا حقها طالما يتم بطلب أو بالإتفاق مع الدول الحليفة أو الصديقة ، ودون فرض بالقوة ، ومن ذلك الدعم العسكري وما يترتب عليه من دعم أمني لهذه الدول ، وما ينبغي ملاحظته هنا أن تحقيق ذلك يتم على حساب قوت شعبها ودماء أبنائها ، فهي لا تموّل من بعض دول الخليج لشن الحروب كما الولايات المتحدة والغرب الأوروبي وفي كل الحالات دون اشتراطات مسبقة كما يعمد الغرب وأمريكا، وكثيرا ما شطبت روسيا ديونها عن الدول المدينة كـ سورية والجزائر والعراق واليمن ( وربما غيرها أيضاً ) .

ولم تمنع هذه الإستراتيجيا روسيا الإتحادية من أن تكون لها مصالح أو مواقف مناقضة لمواقفها مع بعض حلفائها ، بغض النظر عن حجم هذا الاختلاف .. ولعل حادثة جثمان الجندي اليهودي ، واحدة من شواهد هذا الاختلاف .

وهو الأمر الذي يستثمره البعض للتنديد بروسيا والتشكيك بمواقفها الصديقة لسورية ولإيران وغيرهما .. وهؤلاء في أغلبهم كانوا ينتقدون دعم روسيا لسورية مصنفينه على أنه تدخلاً عدوانياً في الشأن الداخلي السوري فيما لم يكونوا يعتبرون المواقف الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية المعادية لسورية تدخلاً ، ولإصباغ موقفهم المراوغ بالمشروعية ساووا بين الموقف الأمريكي والروسي ، وهو موقف مخاتل يستهدف حقيقة الموقف الروسي حصرا ومنح الموقف الأمريكي مشروعية التدخل باعتباره من وجهة نظرهم مماثل للموقف الروسي.

واستهجن وعتب أصدقاء عرب على روسيا ، وهم على (عتب دائم ) تجاهها ، عند أي انعطافة ؛ كما تبدى ذلك عندما تقاربت مع تركيا وظن البعض أنها تقامر أو تتخلى عن حليفتها الرئيسة سورية ، ولكن تبين لاحقاً أن موقف روسيا كان صائباً وفي محله ، حيث دفعت باتجاه ما أطلق عليه الدول الضامنة لمناطق خفض التوتر ، وفي ظل هذا الإتفاق الروسي الإيراني التركي ، تحققت فائدة معنوية بدخول تركيا السنية في اتفاق مع إيران الشيعية فلم يعد لموقف إيران بعداً أو مطمعاً مذهبياً تجاه سورية.

وفي البعد العسكري الأمني تم في ظل هذا الاتفاق ( تحييد تركيا ) فأنجز تنظيف شرق حلب من الجماعات الإرهابية وتدمر وباديتها وشمال حمص والغوطة الشرقية ومحافظات جنوب سورية (السويداء وحوران والقنيطرة )  ..

وفي الحقيقة أن روسيا وضعت ملحا على الجرح بقبولها المصالحة مع تركيا التي أسقطت الطائرة الروسيية واغتالت السفير الروسي على ارضها ( وبينهما ما صنع الحداد تاريخيا ) والتي دعمت الجماعات الإرهبية على أرض سورية الصديقة لروسيا واحتلت اراض عراقية ،وتفلتت من التزاماتها وناورت مرارا.

ولكي نكون أكثر دقة لا بد من الإشارة الى وجود مصالح روسية كبيرة لدى تركيا وبالعكس .. وهي مصالح تتعدى التبادلات التجارية إلى الغاز والسياحة والأمن ، فتحييد تركيا الأردوغانية المراوغة يخدم إستقرار روسيا بالحد من تسلل الجماعات الإسلاموية وإلتحاقهم بمناطق الصراع في سورية والعراق وتحولهم إلى روسيا وتهديد أمنها وإستقرارها .

أما العلاقات الروسية الإسرائيلية فتبدوا في عوامل عديدة ، يأتي في مقدمتها وجود أكثر من مليون روسي يهودي في الكيان الصهيوني ، ووجود إمتدادات ديمغرافية لهؤلاء في روسيا ، وهم عنصر مهم في معادلة الإنتخابات والأمن الروسي ، هذا على الأقل .

أكرر أن الدول ليست جمعيات خيرية .. فمقابل مصالح روسيا مع تركيا و( إسرائيل ) بل ومع واشنطن والغرب والمستجدة مع السعودية ، كانت روسيا مصدر أسلحة الدول العربية القومية ، وأسلحة  الردع الوحيدة أو تكاد بمواجهة الإرهاب والكيان الصهيوني لبلدٍ كسورية وغيرها في مراحل تاريخية طويلة ،  رغم أن بعض الدول تصرفت مع روسيا بمنتهى العقوق كنظام السادات مثلاً ، عندما تباهى بطرد الخبراء الروس .

لا يمكن المقارنة بين تسليم جثمان جندي صهيوني ، لـ ( إسرائيل ) بأسلحة الردع التي تقدمها روسيا لسورية ولا بدماء شهدائها على الأرض السورية ولا بما تنفق من أموال هي ليست مستلبة أو مسروقة من أحد وإنما من قوت شعبها ورفاهه ، ولا بحيلولتها دون تطبيق البند السابع على الدولة الوطنية السورية . في حين هي تواجه تهديدات الغرب ومؤسسات راس المال العالمية وحصاره ، فضلاً عن التحشيدات العسكرية الإمبريالية ضدها في شرق أوروبا وجنوب روسياً ، وفي حين تغازل أنظمة عربية ( إسرائيل ) وتتعامل مع أمريكا والغرب كأنظمة تابعة لهما .

وبالتأكيد ليس مطلوبا ولا يجوز مطالبة روسيا بالقتال نيابة عنا ، في حين تتآمر أنظمة عربية ضدها وضد دول وطنية وقومية ، ولا تعمل لصالح القضية الفلسطينية بل وتتآمر عليها ، ولا تقيم الحد الأدنى من المؤسسات التمثيلية الشعبية في بلدانها ، وتمارس كل اشكال التمييز والفساد والإضطهاد.. وتحظى بكل الدعم من الإمبريالية العالمية.

بكلمات ، لا ينبغي مطالبة روسيا بأكثر مما صنعت وتصنع لأمتنا ، وأكثر مما يصنع العديد منا ، ولا يجوز العتب عليها في حين هي توفر كل المناخات المناسبة لحماية أمنها واستقرارها ، اللذين باتا موضوعياً أمننا واستقرارنا بل وبات توازن الأمن العالمي مبنياً إلى حد بعيد عليها وعلى تحالفاتها التي هي ليست تحالفات صهيونية ولا إمبريالية ، وإن تبدى أنها مهادنة لها ، وحرياً بنا أن نفهم أن حركتها الديبلوماسية وغير الديبلوماسية هي في صالح أمننا واستقرارنا ، بل وفي صالح تقدمنا وإلى حين ليس قريب .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى