جَرْدَةُ حساب بعد ثمان سنواتٍ من ” الحرب على سورية “.. بين الواقع القائم و المستقبل المنشود

“في مِثْل هذا اليوم منذ ثمان سنوات ، في : 18 ـ 3 ـ 2011 ، انطلقت شرارة الحرب الكونية الإرهابيّة على سورية ، والثورة المضادّة في سورية”

1▪ سنواتٌ ثمان تفصلنا اليومَ عن بدايةِ عصرٍ عالميّ جديد.. عصر الحرب الكونية الشّاملة على سورية. إنّه عصرٌ عالميٌّ موصوفٌ بخصوصيّةِ أنّهُ سيبقى بالنّسبةِ إلينا كما بالنّسبة لأبنائنا و أحفادنا على توالي أجيالهم ، منعطفاً عربيّاً و سوريّاً و إقليميّاً و عالميّاً و تاريخيّاً ، بالإضافة إلى أنّه شكّل و سيشكّلُ مفترقاً أنثروبولوجيّاً يُضافُ علميّاً إلى تاريخ “تطوّر” المجتمعات و الأمم ..

عصر التّحوّلات العالميّة الشّاملة التي تُحقّبُ لتشكيلةٍ سياسيّة عالميّة عابرةٍ للقارّاتِ و البحار و المحيطات .. و هي عابرة أيضاً للثّقافة و الأخلاق .. و يبدو أنّهُ عصرٌ لن تنجلي خبرتُهُ ، فهماً و إدراكاً، إلّا في فلسفة السّياسة .

2▪ و في الصّورة الشّاملة ، أيضاً، فإنّه عصر إفصاح هذا “العالَم” عن معاناته من فاقة فوقَ دماغيّة !

هي ليست فاقة عضويّة تكوينيّة ، و إنّما هي تعبيرٌ عن العَوَزِ المزمن الذي يُرافقُ الانتفاخ الإنسانيّ المبرّح جرّاء إيمانه بثقافاته الضّحلة العمياء ..

الثّقافات التي أرهقت “سَوَاءَ” الغريزةِ الطّبيعيّة الحنونة التي ضمنت للإنسانيّة كلّ تاريخها البنّاء ؛ فيما هي ( الإنسانيّة ) – مع “التّقدّم” – تَنحَرُ جميعَ إنجازات تاريخها بسبب التّسلّط العُنفيّ الوَرِمِ الذي سيقضي – ربّما – على أفضل الآفاق المحتملة أو الممكنة.

3▪ نحن ما نزالُ في “مناسبات” دماءٍ أُهرِقَتْ و تُهرقُ ، و آلامٍ سالَتْ و تسيلُ ، و فظائعَ ارتكبتْ و مازالت تُرتكبُ باسم الإنسانيّة و “حليبِ الأطفالِ”.. و الثّورة و الحرّيّة والديمقراطية  و النّزاهة و حقوق الإنسان..

إنّها طنطناتُ و قرقعاتُ الأسماء الثّقافيّة – السّياسيّة ، الكليّة ، التي تستعيد طقوسَها البربريّة في حقولِ النّار و بحار الدّم ، و في ممارسة أبشع أنواع الاستيهام و الإيهام و الجهل و التّجهيل و القتلِ و الدّمار على الشّعوبِ الطّريّة..

لتصنيع ” أفضل” أداء مُحسّنٍ للوحشيّة الاجتماعيّة و البربريّة السّياسيّة ، و العنف و التّوحّش..

4▪ اليومَ.. وصلت الحربُ القائمة علينا في سورية إلى مرحلة تسمح بتحقيب الصّراع الدّائر و عنصرته في أفعال و مراحل نوعيّة و استجابات ، تعبّر تعبيراً واضحاً عن واقع و طبيعة حجم المؤامرة العالميّة – الأعرابيّة ، على نحو يفضح جميع مكوّنات هذه الحرب النّموذجيّة غير المسبوقة على الأمم و الأوطان ، بحيث تشرح هذه الحربُ نفسها كمثالٍ على وَفرةِ الأفكارالقاتلة على الشّمول ، و خطابِها الموازي ، مقابل نَدرةِ الثّقافة الحقيقية التي تُمارَسُ في وجه هذه الآليّة التّدميريّة ، المنظّمة جدّاً ، للحرب في الأُنموذج و المثال.

5▪ لا يُلبّي حديثنا على الواقع اليوميّ الفظّ و المباشر و القريبِ ، هنا ، شيئاً من المعرفة ..

فالمنظرُ الدّامي للقتل الذي مورس على شعبنا العربيّ السّوريّ ، و الدّمار و التّخريب الممنهجَان ، و الخنق المتعمّد للحياة ، و الثّأر و الانتقام من حضارتنا العربيّة السّوريّة العريقة عراقة هذا التّراب ، و محاولات إذلالِ كراماتنا ، و العمل على تقبيح البطولة و الشّهادة و الرّجولة و الأنوثة و الجمال .. و الانتقام من البشرِ و الحجر .. و شطب الرّوحِ الأصيلة في المكان ..

أقولُ جميع هذا و ذاك ، هو ممّا استفاض الكثيرون في الحديث فيه و “وصفوهُ” بطرق متعدّدة بعضُها القليلُ – و الأحرى النّادر – الذي كان توظيفه ناجحاً للكشفِ عن ” كلمات السّرّ ” التي تُبرمج مفتاحيّات الحرب ؛ على أنّ الكثير منها ، أيضاً ، كان و ما زال مُصاباً بالوظيفيّة الانتهازيّة التي غالباً ما تزدهرُ ، ثرثرةً مقيتةً لهُواةٍ هَزْليين ، في الكوارث و الملمّات.

6▪ و مع تقدّم و تطوّر الدّيناميّات المختلفة للدّمار و سفك الدّم الشّجاع ، الذي “تكفّلتْ” به هذه الحرب ، تتطوّر أيضاً مجموعة من الإيحاءات و المعالم التّكوينيّة البنيويّة ، التي تشكّل منحًى خطّيّاً لتعاقبِ الأحداث و المراحل التي قطعتها هذه المَعْمَعَةُ ..

هذا و لو أنّ الفصل بين المراحل و الأغراض و الأدوات غير ممكنٍ ، كما أنّه ليسَ من أهداف هذه القراءة.

7▪ نحن اليوم على مسافةٍ كافية من البدايةِ التي تستمرّ في الأدوات و الأهداف ، كما أنّنا في مرحلةٍ متقدّمة و ناضجة من هذا الصّراع ، تسمح كلّ منهما بمعاصرة مضمون و مغزى هذا الحدث التّاريخيّ العاتي..

إنّ علينا أنْ نقرأ الكارثةَ الإنسانيّة التي يُمارسها علينا ثأرُ ” الآخَر ” ، قراءةً مفصّلةً و واسعةً..

و هذه دعوةٌ لكلّ متمكّنٍ و قادرٍ من المثقّفين و المفكّرين و علماء الاجتماع .. و أن نعمل على تفنيد مبادئها و مراحلها ، و ذلكَ قبل أنْ نصبح َنحن – كما هي العادة – مادّةً صمّاءَ للدّراسات الغربيّة و الاستشراقيّة التي تعبثُ بحقائقنا و تاريخنا ، من وجهات النّظر و الثّقافة ” المركزيّة “(!) الغربيّة المعروفة بمناهجها المغرضة ..

في الوقت الذي أَعتبرُ فيه هذه المقاربة الوجيزة و العَجلى إسهاماً أوّليّاً في المقدّمات الأساسيّة فحسب.

8▪ كان واضحاً منذ بداية هذه الحرب الهمجيّة أنّ أهدافها مركّبةٌ و معقّدةٌ ، بحيث أنّ شعاراتها الأوّليّة الكاذبة لم تعبّر ، البَتَةَ ، عن أهدافها الحقيقيّة..

و يوماً وراء يوم و حدثاً إثرَ حدثٍ ، راحت الجريمة الشّاملة تشرح نفسها من دون تحفّظٍ ، و لكنْ بدرايةٍ تامّة من المخطّطين و المنفّذين ، الأصلاءِ و الوكلاءِ و المرتزِقةِ و المأجورين ..

فيما ينتقلون يوماً بعد يومٍ في الفجورالذي يؤسّس لأهدافهم السّياسية ، التي باتت عاريةً حتّى بالنّسبةِ إلى أشدّ مَنْ كان و ما زال مِنْ مناصريهم و محازبيهم و زبانيتهم من المعارضات المحلّيّة ، الدّاخليّة و الخارجيّة ، تقيّةً و غباءً و حقداً و مزايدةً .. في وقتٍ واحد.

9▪ لقد استهدفتْ الحربُ على سورية كلّ شيء له إسمٌ حضاريٌّ و قوميٌّ و وطنيّ : روح العصر – الانتماء و الاندماج العربيّين – مقوّمات الوطن – الدّولة و الأرض و الشّعب – مكوّنات المجتمع – الإنسان بدمهِ و لحمه – الاقتصاد و المال العام – المؤسّسات و المرافق العامّة – الثّقافة و البنية الخدميّة – السّيكولوجيا الفرديّة و الاجتماعيّة – و الأحلام أيضاً.. إلخ.. إلخ..

غير أنّ أهدافها هذه انقسمت في توجّهين أساسيين ، يمكن التّعبير عنهما باستهدافين منظّمَين و مخطّطين هما :

○  رأس المال المادّي .. و

○  رأس المال الرّمزيّ .

إنّ أدوات الحرب و السّياسة في الغرضِ و الغاية ، لا تخرج بأيّ حالٍ عن هذين المكوّنين الرّئيسين للوطن أو للأمّة.

10▪ وصار من المفهوم ، كيف استهدفت الحربُ البنيةَ المادّيّة التّحتيّة في سورية و استباحت حقوق المواطن و الإنسان بالحياة و الوجود و لقمة العيش و سدّ الرّمق.

وقد اجتمع القاصي و الدّاني للتّخريب المدمِّرِ و الخيانة المُنظَّمة و الفجور المُمَنهج و الاعتداء على ، و اغتصاب ، جميع عناصر الحياة..

و ساعد على ذلك من هم في حكم العدوّ العالميّ و الإرهابيّ من تجّارِ الحربِ في الدّاخل و الخارج ، إضافةً إلى كيل العقوبات الغربيّة الاقتصاديّة و الماليّة غير المسبوقة في التاريخ ، على الشّعب العربيّ السّوريّ ذي العودِ الغضّ. .

هذه الصّورة هي الأوضح عند الغالبيّة ، نظراً للمعاناة المباشرة التي يرزح تحت وطأتها المواطن و الوطن .. هذا أمرٌ واضح إذاً..

و لكنّ الأمر الذي ينبغي علينا أن نُدركه هو ما ليسَ من الملحوظ عياناً .. و لو أنّه يصبح جليّاً في التّفكير الوجيز ..

و أعني بهِ الحربَ على رأس المال المعنويّ أو الرّمزيّ التي تُعدّ أهميّتها مركزيّة ، و غالبةً في الظّرفيّة ، في صلبِ جوهر الحرب و في مراميها الأكثر خطورةً و الأبعد أثراً ، لا سيّما مع فشل الحرب العسكريّة الإجراميّة المباشرة في النّيل من صمود المجتمع و الدّولة و الجيش و البنيان و الإنسان.

11▪ إنّ رأس المال الرّمزيّ ، هو كلّ ما يتعلّقُ بالقيمة على شتّى أنواع القيم المعروفة في الاقتصاد و السّياسة و الأخلاق ، بما يختلف عن الكلفة المادّيّة التي يعرفها الجميع. .

○  فهنالك القيمة التّبادليّة التي يعرّفها الاقتصاديّون ( و مثالهم ماركس ) بأنّها كميّة العمل الاجتماعيّ المبذول لإنتاج البضاعة أو السّلعة أو الخدمة. .

○  ثُمّ القيمة الاستعماليّة التي يعرّفونها بضرورة أو إلحاح الحاجةِ إلى الشيء. .

○  و هناك القيمة الأخلاقيّة التي تعتبرُ قيمة غير معياريّة من حيثُ أنّها لا تقاسُ و لا تُقدّر و لا تُثمّنُ و لا تُسعّر..

وهذه القيمة الأخيرةُ هي القيمة التي يكون معها العالمُ أكثر صِدقاً و إنسانيّة و آدميّة و طمأنينة و اطمئناناً و أماناً.

○  و فوق جميع تلك القيم ، و فيما يختزل جوهرها أيضاً ، هنالك القيمة الرّمزيّة التي يشكّل مجموع عناصرها ما يُسمّى برأس المال الرّمزيّ في الوطن أو الدّولة أو الأمّة ..

و الذي يعني العبثُ فيه ، انتهاكاً للثّقة بالتّكوين الوجدانيّ للمجتمع و اعتداءً على الثّوابتِ التي تمنح الأمّة أو الدّولة صيغتها الجوهريّة ، التي تقاوم العدوان الّلغوي الذي يترك أثره ، أوّل ما يتركهُ ، على الإيمانِ بالذّات الجمعيّة المستمدّة من أصل الحقّ الترنسندنتاليّ ( القَبليّ أو العالي أو المتعالي أو المفارق للمحسوس في التّجربة و التّبادل..).

و هذا بالضّبط ما اشتغلت عليه الحربُ على سورية منذ بدايتها أيضاً ، بالتّزامن مع تخريب جميع بنى رأس المال المادّيّ.

12▪ كان التّخطيطُ ، و ما زال ، واضحاً لتدمير القيم الوطنيّة الرّمزيّة ، التي تُعدّ الهيكلَ الأساسيّ للبنية الوطنيّة الجمعيّة ..

فعلاوة على الحربِ المادّيّة الشّاملة التي خرّبت كلّ ما أمكنهم فيها تخريبه ، كانت الحربُ الرّمزيّة أخطرَ و أعتى ، و قد عملوا على ذلك بوضوح و صراحة و شراسةٍ غير مسبوقة..

و تبدو خطورةُ هذا النّوع من الحرب في اطّرادها بالتّساوق و التّزامن مع الحرب على العناصر الوطنيّة الواقعيّة و المادّيّة..

و من الواضح أنّهم أدركوا هذه الخطورة في أهمّيّة وسائلهم و أدواتهم ، و اشتغلوا عليها بما لم يدّخروا فيه الغالي و الثّمين من الأموال و السّياسة و الدّبلوماسيّة و الدّين و الفجور الإعلاميّ أيضاً.

13▪ عندما نعود في الذّاكرة القريبة إلى تعاقبِ مراحل الحرب على سورية و أدوات هذه الحرب ، نُدرك بوضوح كيف اشتغلَ العدوان العالميّ – الوَهّابيّ ، الإخونجيّ – الوحشيّ ، على استثمار تخريب الواقع المادّيّ و الاقتصاديّ و البنية التّحتيّة في مكوّنات الدّولة ، تسهيلاً للوصول إلى تناول ما أسميناه رأس المال الرّمزيّ ، بالعبث و التّشكيك النّفسيّ الاجتماعيّ و التّاريخيّ وصولاً إلى العمل على التّدمير و الدّمار الشّامل .

14▪ نذكرُ أنّه من أوائلِ ما بدأت فيه الحربُ ، في النّصف الثاني من شهر آذار- مارس من العام 2011م ، كان هو الهجوم على الرّمزيّة الإنسانيّة و الأخلاقيّة للدّولة ، و ذلك في همروجة ” أطفال درعا ” الفانتازيّة التي صارت معروفة و مفهومة و مفضوحة أيضاً.

15▪ ثمّ جرى الانتقالُ إلى الهجوم على ” الدّستور ” من جهة ” المادّة الثّامنة ” منه و التي قصدوا من خلالِ شيطنتها ، حذفَ تلك القيمة الرّمزيّة للبعثِ ، كحاضنٍ للقيم العربيّة في الدّولة الوطنيّة السّوريّة ، و دكَّ الإسفين الأوّل في الجسد السّياسيّ السّوريّ المعاصر.

16▪ و تلا ذلكَ الهجومُ على اعتباريّة الجيش العربيّ السّوريّ ، بوصفه حامياً للدّيار في وجه الاستباحة الشّاملة للوطن ، كما بوصفه الجدارَ الصّلب الذي تتكسّرُ عليه مشاريعهم التّقسيميّة الانتقاميّة و الثّأريّة ، فقاموا بمحاولات لم تيأس بعدُ ، من أجل تصويره كقوقعةٍ غريبةٍ عن جسد الوطن.

و ها هي الأيّام تُثبتُ ، الآن تحديداً ، قيمة هذا الجيش الأسطوري البطل و دوره في الحفاظِ على كرامة الشّعب العربيّ السّوريّ و تجنيبه العبوديّة ، و الحفاظ على شخصيّة الوطن و الدّولة و حماية و صيانة هيبة الأمّة العربيّة جمعاء.

17▪ و رافق هذا و ذاك ، الحربُ على رمزيّة ” العَلَم ” الذي يختزلُ العَقَديّة السّياسيّة للشّخصيّة الوطنيّة ، إذ رفعوا في حربهم المأجورة علمَ الانتداب الفرنسيّ في وجه علم البلاد.

18▪ و انتقلوا بعد ذلك ، إلى التّركيز الكثيف في الهجوم على ” رئيس الجمهورية ” و على شخص أسد بلاد الشام الرّئيس ” بشارالأسد ” باعتباره رمزاً عميق الدّلالة للجُرأة و الصّمود والشموخ و الشّجاعة ، و لِأنّهٌ ضامنٌ سياسيٌّ و أخلاقيٌّ لوحدة المجتمع و الدّولة و المؤسّسات.

19▪ و في الأثناء تناولتِ الحربُ ” الرّمز الطّائفيّ ” الذي يُعبّر عن تنوّع المجتمع العربيّ السّوريّ و قوّته و غناه في هذا التّنوّع ؛ فجاهروا ، حِقداً و لؤماً و تفاهةً ، بالهجوم الطّائفيّ و المذهبيّ الصّريح ، عليه..

و لقد لجأتُ إلى هذه التّبسيطيّة في التّفنيد السّابق ، أملاً في أن تدخلَ هذه الفكرة في عداد الثّقافة السّهلة التي تُصاب بها المجتمعات و العالم ، يوماً إثر يوم ، مع أنّ هذا الأمر هو في عداد الأسلوبيّة الوظيفيّة المتطوّرة للعلوم النّفسيّة الاجتماعيّة الحديثة و المعاصرة.

20▪ و على أيّ حال ، فهذا ليس هو المشهد الشّامل الحقيقيّ ، على الحصر ، لهذه ” الحرب ” كواقعةٍ تاريخيّةٍ ، من المرجَّح أن يستبعدَ تكرارَها ، كلّ منطق للتّحليل و التّركيب و الجدل. و هذا هو بالضّبط شأن الحركات و الأعمال و الأحداث الفاصلة في التّاريخ.

21▪ إذاً ، فلكي يكتملَ المشهد ، لا بدّ من أن نبحث عن وجهٍ إيجابيٍّ موضوعيٍّ واضح ـ و لو على مضضٍ وجدانيّ – لهذه الحرب ؛ و شأنُها في هذا شأنُ كلّ حدث تاريخيّ أو طبيعيّ أو كونيّ ، من حيث اجتماعُ ما ننعتُه ، فيها ، في ” الثّقافة “، سلباً و إيجاباً..

و يتبدّى هذا الوجه الإيجابيّ في الأثرِ الإقليميّ و العالميّ الذي كان أحد أهم أصداء و مفاعيل هذه الحرب.

منحت الحربُ شرعيّةً نهائيّة و ثابتةً للمقاومة العربيّة ، ضدّ مختلف مشاريع الالتهام المُعَدّة تاريخيّاً لمنطقتنا ” الشّهيّة “.. في وجه المشروع العالميّ المعادي ضدّ قلب أمتنا العربيّة في هذا المكان الاستقطابيّ للجغرافيا و التّاريخ و المتمثّل في ( سورية – بلاد الشّام ).

22▪ فلقد تجلّت في ( سورية ) كلّ عراقة الثّبات و التّحدّي التّاريخيين ، و قدرة الشّعب العربيّ السّوريّ و الجيش العربيّ السّوريّ و نظامه الاجتماعيّ و السّياسيّ ، كأسطورةٍ معنويّة أبديّة من أساطير مواجهة و سحق موجات الغزو الاستعماريّ التي تعدّدت على مرّ تاريخ ( دمشق ) ، فتحطّمت – مرّة أخرى و أخرى – أوهام الغزاة و المحتلّين و مشاريعهم و أطماعهم على مختلف صنوفهم الأعرابيّة و العثمانيّة و الصّهيونيّة و الأوربيّة و الأميركيّة.

23 ▪ أثبت “حزب رجال الله” قوّته و ضرورته الاستراتيجيّة و جوهريّته التّكوينيّة في ( لبنان ) و منطقة المشرق العربيّ كلّه ، و استعاد جميع مسوّغاته النّضاليّة الإقليميّة ، فاندرج في عناصر ” القوّة الشّاملة ” السّوريّة و الإقليميّة في وجه الصّهيونيّة العالميّة و الرّجعيّة العربيّة الإسلاميّة و المخطّطات الغربيّة على مختلف جنسيّاتها و أهدافها و أوهامها في ابتلاع المنطقة أيضاً.

24▪ برزت ( إيران ) ، عمليّاً ، كقوّة إقليميّة واقعيّة و قادرة ، و كمُعادلٍ سياسيّ و عسكريّ حيّ و جِدّيّ في وجه وحشيّة محميات نواطير ” الكاز والغاز ” الرّجعيّة الوهّابيّة ، كما في وجه البدائيّة السّياسيّة “الأخونجيّة” التّركيّة و أوهامها في استعادة ما تبدّد من أحلامها الضّائعة في أمجادها الإمبراطوريّة البائدة ..

فيما دخلت ( تركيا ) في مرحلة خلخلة اجتماعيّة و سياسيّة داخليّة ، عرقيّة و ثقافيّة و طائفيّة ، سوف يكون لها أثرها المباشر في زعزعة دكتاتوريّة الطّغمة الحاكمة ” الأخونجيّة ” فيها –  وإن بدا الأمر على السطح بغير ذلك – ، بعد أن جرى نبذها ، بحذافير الفضيحة العقلانيّة التي تورّطتْ فيها، من ” مشروع ” انضمامها إلى “الاتّحاد الأوروبيّ “.

25▪ تملمَلَ ” الشّرقُ ” العالميّ الذي راح ينفض عنه غبار اليأسِ ، ثأراً من الأخطبوطيّة الغربيّة – الأميركيّة ، فوصلت أمواجُ حضوره الواثقة الجديدة في ” النّظام العالميّ ” المستحدث بفعل أثر الصّمود السّوريّ الخارق ، إلى أقاصي ( شرق آسيا ) مع ( روسيا ) و ( الصّين ) ، حتّى شواطئ المحيط الهادي.

26▪ ترسّخ و تفعيل عمل و تنشيط دور معاهدة دول ” اتّفاق شنغهاي ” للتّعاون ( SCO ) بمواجهة التفوق الأميركي ، في ظروف التّعنّت الاستحواذيّ الغربيّ الاستعماريّ المعاصر.

27▪ استعادة التّوازن إلى قرارات ” مجلس الأمن الدّوليّ ” نتيجة الدّور العالميّ القويّ الذي اضطلعت به من جديد ، كلّ من ( روسيا ) و ( الصّين ) أمام كلّ من ( أميركا ) و ( إنكلترا ) و ( فرنسا ) ، و استعادة بعض الشّرعيّة الدّوليّة إلى أعمال منظمة ” الأمم المتّحدة “، تَبعاً للدّور الجديد لكثير من دول العالم التي تتخلّص شيئاً فشيئاً من تبعيّتها إلى الوَلايات المتّحدة الأميركيّة و الغرب الإمبرياليّ بشكل عام.

28▪ وقَبْلَ ذلك وبَعْدَهُ وخلاله ، جرى تطويب قيادة تاريخية عالمية وإقليمية وعربية وسورية ، كانت بيضة القبّان وقطب الرّحى والعمود الفقري ، في جميع هذه التّحوّلات والتبدّلات والتغيّرات التي تطرأ علي الساحة الدولية ، هي : “أسد بلاد الشام : الرئيس بَشّار الأسد”

و في هذه البيئة العالميّة الجديدة ، تنمو من جديد ثقافاتٌ و أعرافٌ بديلةٌ في ” الغرب ” و ” الشّرق “، تتجذّرُ على العداء للسّياسات الصّهيونيّة – الأميركيّة – الأعرابية التي بدتْ إلى حينٍ على أنّها قدرٌ تاريخيّ عالميّ و وحيد.

29▪ في الحقيقة السّياسيّة التّاريخيّة ، و من باب الفلسفة السّياسيّة ، فإنّ المعاناة الشّاقّة التي يرزح تحت وطأتها : الوطن و الدّولة و المجتمع و الشّعبُ في سورية عَبرَ السّنوات الثمان الماضية على الحرب ، هي أكثرُ من نتاجٍ مباشر ، أصاب عناصر و معالم الحياة و مظاهرها الحيويّة و الاجتماعيّة و النّفسيّة..

هذا الأمرُ ليس قليلاً على كلّ حالٍ ، و ليس عابراً في معايير الخراب و الدّمار و الألم الوجدانيّ الذي تغلغل في الأمل الفرديّ و الجماهيريّ سواءً بسَواء.

30▪ غير أنّ ما هو مُقْلِقٌ جداً – ربّما – و مرتقبٌ و احتماليّ و واقعيّ كذلك ، هو ما يمكنُ أن يُسمّى بالحالة المعرفيّة العامّة الغالبة للعصر و التي يدخلُ فيها ما هو أصلبُ تكويناً ، في إعادة إنتاج الكينونة المكانيّة – الزّمانيّة التي ستقدّمُ ، أو التي من المتوقّع والمحتمل والممكن أن تقدّمَ ، أسباباً و مُعطياتٍ تفكيكيّة اجتماعيّة و سياسيّة ، تكريسيّةً ، تحت عنوان الإضافات الأيديولوجيّة التّاريخانيّة ، إلى حصيلة الأيديولوجيا العربيّة – الإسلاميّة الإنقساميّة و الانعزاليّة ، التي كانت في صلبِ قاعدة معطيات الحرب نفسها ، في الأسباب و الأدوات و الدّوافع و المحفّزات.

31▪ نحن هنا في مواجهة انعزاليّة أيديولوجيّة جديدة ، من الممكنِ أن تُمعنَ في التّخندق الأيديولوجيّ المناوئ للعقلانيّة و العصرنة و علمانيّة الدّولة و المجتمع ، و المعاند – من ناحيةٍ وظيفيّة موضوعيّة – لآفاق و ظروف العدالة الاجتماعيّة ، في مواقع اجتماعيّة و اقتصاديّة و فئويّة استحدثتها ، مؤخّراً ، الحرب ..

هذه حالة ثقافيّة – مادّيّة و نظريّة – تنمو في ” الإبستميّة : المعرفية” العامّة ، كسلطاتٍ أخرى جديدة تعزّز واقع السّلطات الدّاشرة التي تبدو وكأنها خارج سلطة الدّولة و النّظام السياسي ، و بمعزلٍ عن أيّة قوّة معرفيّة لمشروع الدّولة الوطنيّة.

32▪ و في مواجهة هذا الأمر تبدو مهمّات ” الدّولة ” أكثر جِدّيّةً لتنظيمٍ مضادّ و مقابلٍ ، و لاستثمارٍ أكثر درايةً معرفيّة و مسؤوليّة تاريخيّة ، في مشروعٍ شاملٍ من البحثّ و الدّراسة و الاستقصاء و التّعمّق ، في ما وراءِ الأشكال العابرة للفعل و ردّ الفعل ..

و كلّ استجابةٍ لأيّ حدثٍ أو مفعولٍ من مفاعيل الواقع ، مرهونةٌ بمدى و بالقدرة على تشخيص الوقائع التي تنحو منحى الظّواهر الموصوفة.

33▪ من هنا يبدو مستقبلُ الوطنِ و الدّولة و المجتمع ، ليسَ معقّداً أو مركّباً فحسب ، و إنّما أيضاً محفوفاً بمجموعةٍ من المخاطرِ التّاريخيّة التي ينبغي أن تُبتَرَ بتراً منظّماً و معرفيّاً ، و ذلك باستخدام فلسفة السلطة والدولة ، و علم الاقتصاد السّياسيّ ، وعلوم الإحصاء السياسي ، و مواقع و مواضع التّأثير ، للضّبط الدّقيق للنّتائج التي أفضت إليها حربُ الإرهاب العالميّ على البنية الاجتماعيّة السّوريّة ، هذه النّتائج التي تتمظهر مباشرةً في العادات و الأعراف الثّقافيّة الجديدة التي تؤسّس لواقعٍ تربويٍّ و أخلاقيّ فرديّ و اجتماعيّ جديد.

34▪ من واقع مفردات السّيكولوجيا الفرديّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة و الإداريّة و الثّقافيّة الجديدة ، التي رسّختها الحربُ الدولية ..

علينا ، منذ اليوم ، أن نتطلّعَ إلى إسهامٍ منظّمٍ بقوّة الدّولة و عنف الدّولة المسوّغِ و المشروع ، في الإعداد للإنتقال التّاريخيّ الأيديولوجيّ و الثّقافيّ ، جنباً إلى جنبٍ مع إعادة البناء و الإعمار ، في مشروعٍ هو أولويّةٌ إلى عشرات السّنين المقبلة أو يزيد.

35▪ و فقط ، في إدراكِ ” المادّيّ” و “الرّمزيّ” في آثار الحرب المعاصرة على سورية ، يمكنُ لنا أن نتصوّرَ و نطرح – في مسؤوليّة تاريخية – جميع ما يمكنُ لمؤسّسات المجتمع و الدّولة أن تقوم به ، كدورٍ منظّمٍ من الأدوار المطلوبة على الجميع ، أفراداً و مؤسساتٍ و سلطاتٍ ، في إطار سياسة الدّولة النّوعيّة في التّخطيط ، و التي تهدف – ما أمكن – إلى شقّ طريقٍ إلى المستقبل ، يكونُ معه عمر تجاوز هذه الحرب مع آثارها المدمّرة ، موضوعاً خاضعاً للتّحديد و القياس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى