ما كان اسعد الكاتب لو استطاع اختيار قرائه

ليت الكاتب قادر على اختيار قرائه ومتابعي حروفه، بمثل ما ان القارئ قادر على اختيار كُتّابه المفضّلين.. فالقارئ يمتلك حق الانتقاء، وحرية الغربلة والمفاضلة بين كاتب يروق له ويوافق هواه، وكاتب آخر يختلف معه ويُعرض عن خطابه، او يتابعه من موقع التربص والارتياب.

اما الكاتب فلا يمتلك مثل هذا الحق، ولا يحوز مثل هذه الحرية، ولا يحظى بفرصة استقطاب انصاره واصدقائه دون غيرهم، ولا يقوى على منع خصومه واعدائه وشانئيه من ترصد ادبياته، وملاحقة افكاره وطروحاته، وتقصي ما تحت الكلمات وفوق الحروف وبين السطور.

لو امكن للكاتب اختيار قرائه واصطفاء جمهوره، لهانت غالبية همومه ومشكلاته، وتوارت اكثرية هواجسه وظنونه وتحفظاته، وباتت الكتابة محض رابطة عنقودية تجمع الكل في واحد، وتحولت المقالات الصحفية والخطابات الادبية الى رسائل خاصة وحميمة بين قلم شفاف يبوح بما عنده، وقلب مطمئن يستقبل هذا البوح بمنتهى الحب والثقة والاحترام.. بعيداً عن اباطيل وتخرصات المزايدين والمكايدين والمحرفين الكلم عن مواضعه ومعانيه.

نعرف ان هذا الانقلاب في دنيا الكتابة مستحيل الوقوع.. فالكتابة لعبة ديموقراطية مفتوحة تجري في الهواء الطلق، ولكننا نطرحه من قبيل الفانتازيا الافتراضية، وعلى سبيل التمنيات الخيالية الممنوعة من الصرف، وذلك جراء القرف من تتبعات وملاحقات الاعداء والعملاء والجهلاء لما تخطه اقلامنا وتنتجه افكارنا وتجسده مواقفنا، سعياً منهم لتحقيق غاية دنيئة في نفوسهم قوامها المزايدة والمماحكة والتنغيص والتشويه والافتراء.

بالقطع، لسنا ضد النقد البناء والاختلاف الموضوعي في الرؤى والاراء والمواقف والتطلعات، ولكننا نرفع “لا” الناهية والنافية والمعارضة لهذا النوع المقيت والهجين من النقد والاختلاف الذي تولد في دوامات كارثة “الربيع العربي” منذ بضع سنوات، واتسم بالوقاحة والاتهامية، والتطاول على الرواد الكبار من اصحاب القامات العالية والتاريخ المشرّف.. ذلك لان هذه “الزُمر الربيعية” تفتقر تماماً الى حس العدل ونبل القصد وحسن النية، وروح الاستقامة والنظرة الايجابية، والقدرة على احترام الآخرين وانصافهم، وتفهم مواقفهم، وتثمين ارائهم وطروحاتهم.

قبل هذا الربيع الفظيع، كنا نستطيع – بامكاناتنا المتواضعة – مقارعة الاعلام النفطي الغاشم، الذي طالما تكفل بمهمات كي الوعي، وغسيل الادمغة، ونشر الجملة الرجعية، ومحاربة الاقلام الشريفة والافكار المستنيرة والادبيات العروبية.. ولكن فتنة الربيع القاتل قلبت الامور رأساً على عقب، واطاحت بالعقل العربي حتى اخرجته من معقوليته، ودفعته الى مهاوي الهوس المجنون، وحملته على تصدير وتصديق اغرب الافكار، واكذب المقالات والمقولات، واعجب الخرافات والغيبيات.

كل المعاني والمصطلحات والمفاهيم التي كانت سائدة ومتداولة قبل هذا الربيع الداعشي، تعرضت لابشع حملات المسخ والتزوير، وانقلبت على ايدي الربيعيين الاوغاد الى اضدادها ونقائضها، حتى اوشك الحق ان يصبح باطلاً، والوطنية بدعة منتنة، والقومية عصبية شوفينية، والمقاومة مغامرة عبثية.. بينما اصبح الالتحاق بالركب الصهيوني – الامريكي – السعودي هو رأس الحكمة، ونهاية الارب والطلب، وغاية المراد من رب العباد.

صدقوني لولا قلة قليلة من الفرسان الصناديد – امثال بشار الاسد وحسن نصرالله – الذين يجسدون روح الامة وعزمها وضميرها، ويشكلون “علامة استثناء” فارقة في جبين هذه المرحلة الحالكة السواد، ويخوضون اشرف المنازلات في مواجهة اعتى التحديات واشرس الطغيانيات.. لما لاح نجم في فضاء الامة العربية، ولا ارتفع سيف في معارك التصدي للغزاة المتكالبين عليها، ولا انفتحت “طاقة فرج” في جدار بؤسها ونكبتها، ولا تطوعت “همزة وصل” للربط بين كبرياء تاريخها المجيد وتعاسة حالها الراهن وواقعها المجرور بالكسرة.

يا الهي ما اغرب فلسفة الحياة ومفارقات الدنيا، فكثيراً ما تذرف العين دمعها من فرط فرحتها، وتباشر البذرة نموها في تربة مدفنها، وتجد المشكلة حلها في ذروة تعقدها، وتحفر الرصاصة قبرها في صدر قتيلها، وتطرأ المفاجأة على حين غرة دون انتظارها وقبل توقعها.

عموماً.. لقد طالت هذه المقدمة حتى استوطنت سطوراً كثيرة، واستهلكت كل حروف الابجدية، وقد آن لنا ان نفصح عن اسباب تمنياتنا لو ان بمستطاع الكاتب اختيار قرائه من المؤمنين بصدقه، والواثقين بخطه ومبادئه.. ذلك لان بعضاً من الاصدقاء الاعزاء قد اقترح على العبد لله الانصراف الى كتابة مذكراته، او حتى ابرز ذكريات ومحطات رحلته الطويلة في العمل الصحفي والسياسي – ربما النضالي – التي انطلقت عام 1965 واستغرقت نيفاً ونصف قرن.

لقد كان ردي على اقتراح هؤلاء الاصدقاء الاحباء متحفظاً واعتذارياً، لسببين قد يبدوان في ظاهر الامر متعاكسين.. الاول ان في حياتي، كمثقف ملتزم، عدة وقائع ناصعة ونقاط مضيئة ومواقف حاسمة تستحق الذكر والتدوين، ولكنها – بكل اسف – غير قابلة للتصديق من لدن المرجفين والمشككين والمفسدين في الارض من زبانية الطابور الخامس الذين لن يتورعوا عن الطعن فيها والافتئات عليها ورميها بالباطل، وهو ما سيجرني الى معركة سجالية لا لزوم لها.. اما السبب الثاني فمفاده انني لست زعيماً شعبياً ولا رمزاً وطنياً ولا عالماً عبقرياً ولا فناناً شهيراً، ولا اسم علم يُشار اليه بالبنان.. بل لعلي مجرد كاتب عابر في زمان غادر، ومواطن عربي مقهور خانته الفرص وخذلته المقادير، وصح فيه، وفي امثاله الكثر، قول الاديب الامريكي المعروف مارك توين : “هناك آلاف النوابغ الذين ماتوا دون ان يكتشفهم احد، او حتى ان يكتشفوا انفسهم”.. وسامحونا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى