ما اضيع الاوطان حين يتوهم الحاكمون انهم عباقرة ومعصومون !!

فعلاً ”انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”، فالاخطاء التي ارتكبها الرئيس زين العابدين بن علي في مواجهة الانتفاضة التونسية، لا تختلف كثيراً عن تلك التي اقترفها، فيما بعد، سائر الرؤساء العرب الآخرين لدى تصديهم للانتفاضات الشعبية العفوية او المدبرة التي اجتاحت بلادهم، دون ان يستفيد الرئيس اللاحق من درس وتجربة الرئيس السابق، او يتعظ من اخطائه وممارساته الرعناء والهوجاء التي كانت قد فاقمت الاوضاع وزادت الطين بلة.
كل اولئك الحكام انتظروا وصول العاصفة الى بلادهم بدل ان يحاولوا دفعها واتقاء شرها قبل ان تقع الفاس في الراس، ثم هرعوا الى استنفار قواهم الامنية والعسكرية بدل ان يعمدوا الى محاورة شعوبهم ويعتمدوا الحلول السلمية والتفاهمات السياسية، كما سارعوا للاستقواء بتحالفاتهم الاقليمية والدولية لكي تحميهم من شعوبهم بدل ان يستعينوا بهذه الشعوب لكي تقف معهم في مواجهة العابثين بامن البلاد والعباد الذين باتوا يشكلون خطراً على الشعوب باكثر من الحكام.
معظم الحكام العرب يكرهون شعوبهم، ويتوجسون خيفة منها، ويرفضون النزول عند رغباتها، ويؤثرون قمعها والتسلط عليها عوض التفاهم والتناغم معها.. ربما لاعتقادهم ان الركون لهذه الشعوب والاعتماد عليها والاستقواء بها من شأنه ان يشعرها بقوتها، ويزيد من احساسها باهميتها، ويشجعها بالتالي على المطالبة بكامل حقوقها ووافر حرياتها وغير ذلك من التنازلات الحكومية.
معظم اولئك الحكام النيام ما زالوا اسرى اوهامهم واحكامهم القديمة، ولم يدركوا بعد حجم التحولات والمستجدات التي طرأت على مواقف الشعوب العربية وقناعاتها وتوجهاتها حيال ظاهرة ”الربيع العربي” التي ابتدأت زاهية وسلمية وواعدة بالحرية والديموقراطية، ولكنها سرعان ما نادت بالمبايعة والسمع والطاعة، وانقلبت الى كابوس مرعب ومثقل بالدواعش والفواحش والارتكابات الوحشية، وطالع من ثارات وفتنويات صفين والجمل وكربلاء.
هؤلاء الحكام لم يدركوا ايضاً حجم المتغيرات التي طرأت مؤخراً على المعادلات والموازين والاصطفافات الدولية، ولم يستوعبوا بعد ان عليهم قلع اشواكهم بايديهم، لان حلفاءهم – بل اسيادهم – في امريكا واوروبا ما عادوا مستعدين للتضحية بجندي واحد في سبيل حمايتهم والذود عن عروشهم ورئاساتهم.. فقد ذهب الى غير رجعة زمان بوش وبلير وساركوزي، وجاء زمان اوباما ونظرية ”القيادة من الخلف” التي تعني اقتصار دور واشنطن على التوجيه والتسليح والاسناد، عوض التصدي والمجابهة والمنازلة الميدانية.
حتى الخبراء الاستراتيجيون الاجانب الذين لا يطرب الحكام العرب الا لسماع اطروحاتهم ومقترحاتهم، اثبتوا في السنوات الاخيرة انهم كالانعام او اضل سبيلاً، فلم تعد اراؤهم وتحليلاتهم تطابق واقع الحال العربي الذي استجد في اعقاب موجة ”الربيع العربي”، وزحف الجماعات الارهابية والتكفيرية التي انطلقت كاسراب الجراد والخفافيش من القمقم العربي المكبوت والغارق في العتم والظلام.
وعليه، فليس امام حكام العرب المضبوعين والمرتجفين امام التحديات الراهنة غير المسبوقة، سوى مراجعة حساباتهم، واعادة النظر في سابق سياساتهم وتبعياتهم، واجراء اوسع مصالحات وطنية مع شعوبهم، واجتراح اصدق تفاهمات والتحامات وقواسم مشتركة مع القوى والهيئات الحزبية والثقافية والنقابية والنسائية في بلادهم، بغية تخليق وتشكيل بيئة شعبية معادية للدواعش والجماعات التكفيرية ومحاصرتها والتضييق عليها، قبل ان تشتد وتتمدد وتقوى على تهديم الدول وتدمير المجتمعات واشاعة الفوضى العدمية بين الناس الى يوم يبعثون.
لا بديل عن ”قوة الشعب” وسلاح الوحدة الوطنية والتعبئة الروحية، في مواجهة العصابات الارهابية الغاشمة التي لا تختلف في همجيتها ودمويتها وانحطاط ذهنيتها عن الغزوات التتارية القديمة التي اهلكت الزرع والضرع، وقضت آنذاك على سائر معالم ومرتكزات الحضارة والثقافة والمدنية الاسلامية.
ومع بالغ التقدير للقوى الامنية والعسكرية العربية، وموفور التثمين لدورها في الذود عن امن البلاد، والتصدي لعصابات الذبح والتخريب.. الا ان ”قوة الشعب” ووقوفه على قلب رجل واحد مع الجيش والحكم والدوائر الامنية، هما السبيل الاوحد لانقاذ الاوطان من وباء الدواعش وقطعان المارقين الطالعين من زواريب الجهل والامية والفتاوى العرعورية.. ذلك لان معركة اليوم ليست في الاساس معركة عسكرية او بوليسية، بل تعبوية وتحشيدية واستنفارية لن تؤتي اكلها دون ان ينهض الشعب فيها بدور مركزي وطليعي باسل وفاعل ومتواصل.
في مقالنا السابق تقدمنا من العقل السياسي الاردني بمقترح عاجل يقضي بعقد مؤتمر وطني للتداول في شأن المخاطر المحدقة بالوطن من داخله وعبر حدوده السورية والعراقية، والتأسيس لاوسع مشاركة شعبية في الدفاع عن هذا الحمى والحفاظ على امنه وسلامته واستقراره، غير ان هذا المقترح لم يجد لدى صناع القرار او قادة الرأي العام اذناً صاغية، بل ذهب مع الريح في واد، وقوبل بالكثير من التجاهل والاهمال.. الامر الذي اثار مخاوفي حد الفزع، ليس لاعتبارات ذاتية او نرجسية تتعلق بي وبمستوى كتاباتي، بل لمعايير وقياسات موضوعية تؤشر الى بقاء القديم على قدمه، واصرار الذهنية العنجهية على العناد والجمود ورفض التطور والتجدد والتغيير والاستماع الى الصوت المختلف والرأي الآخر.
لو كان كبار المسؤولين والمتنفذين في بلادنا عباقرة وجهابذة لهان الامر، وبات من حقهم التمركز حول الذات، والتعالي على الكتاب والمفكرين، والاكتفاء بما لديهم من مواهب وقرائح وابداعات فكرية وعملية، والاستغناء بالتالي عن رؤى واراء واجتهادات الآخرين، ولكن واقع الحال يشي بخلاف ذلك، ويثبت انهم متواضعو القدرات والخبرات والامكانات، ويبرهن بالقرائن والدلائل الفعلية والواقعية انهم من رجال الصدفة وصنائع المحسوبية وتوابع المراكز الاجنبية المفتقرين الى ابسط شروط الزعامة، ومستويات الاهلية القيادية، واساسيات الفكر الاستراتيجي، ولزوميات صناعة القرار وانتقاء الخيار.
نعرف ان الاحوال الاردنية الحاضرة، والمنظورة في المدى القريب، هادئة وآمنة ولا تشوبها شائبة ارهابية او تخريبية، وندرك ان حجم التآمر الاقليمي والدولي على الاردن ضئيل ومحدود جراء مواقفه الوسطية والرمادية، وسياساته التوافقية المتهادنة مع دول الاقليم، غير ان ذلك كله ليس اكثر من مظهر خادع يختلف عن الجوهر الكامن تحت السطح، وهدوء مؤقت غالباً ما يسبق انفجار العاصفة الهوجاء.
قصار النظر وحدهم هم المتوهمون اننا في الاردن وباقي الوطن العربي، بازاء هجمة وحشية ودموية قصيرة الامد، وسطحية الآثار والاضرار والاخطار، وقابلة للهزيمة والانكسار والاندثار بمجرد التصدي العسكري والبوليسي لها، والاستنجاد بجيوش الدول الحليفة واستخباراتها وترسانات اسلحتها.. اما من فتح الله عليهم ببعد النظر وقوة البصيرة وعيني زرقاء اليمامة، فلديهم رؤية مختلفة وشديدة البؤس والقتامة – بكل اسف – مفادها ان امتنا قد انخرطت في ”زمن الكوليرا”، وتعرضت وستظل تتعرض للوباء الطائفي والمذهبي والتكفيري العابر للحدود وللسنين معاً، والمرشح للدوام عشرات الاعوام والعياذ بالله، شأن ما شهدت القارة الاوروبية ايام الحروب الرهيبة بين طوائفها المسيحية.
هذه الكوليرا الداعشية لن تنحسر او تبيد في القريب العاجل، ولن تضع اوزارها واشرارها ما دامت شروط انتاجها وتواجدها وتمددها حاضرة ومتوفرة بكثافة على اكثر من صعيد في ديار العرب.. لدينا اكبر نسبة من الامية، واوسع مساحة من البطالة، واعلى قدر من التكاثر السكاني، وادنى اهتمام واحترام لحق الحياة، ومليارات الدولارات النفطية الداعمة لجماعات الارهاب، وآلاف الدعاة والمشايخ والحشاشين الذين يحرضون، عبر مئات القنوات الفضائية والمنابر الاعلامية، على القتل، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويزيفون المعاني والمفاهيم المقدسة، كالجهاد والاستشهاد، لتصبح مرادفاً للانفجار والانتحار.
واذا لم يبادر العرب، حكاماً ومحكومين، الى العمل الفوري والجدي لمكافحة هذا الطاعون الدموي، وفق اسس قومية مشتركة وقواعد استثنائية مبتكرة، فلن يختلف مصير اوطاننا ومستقبلها عن الجاري في الصومال وباكستان وافغانستان التي ابتليت بهذا الوباء منذ ربع قرن وما زالت ترزح تحت وطأته حتى وقتنا هذا، رغم الجحافل الامريكية والاطلسية الجرارة التي هبت لنجدتها ولكنها ما لبثت ان سارعت بالفرار من جحيمها !!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلام جميل لكن للأسف متناقض تماما مع ما تقومون به بالدفاع عن نظام بشار الأسد فبراميل بشار دمرت 40% من سوريا وقتلت اكثرمن 100 الف وشردت ربع الشعب السوري فقط للدفاع عن اح الأصنام الفروضه على ألأمه وانتم ما زلتم تدافعون فنصيحتي لكل القومين ان تذهبو الى بيوتكم وتسكنو لينسى الناس رموزكم الحاليه وترجعو الى العمل بعد ان تعترفو بقدرات الشعوب لا الضباط الذين اوصالوكم للحكم وفشلتم وكانت هذه الأنظمه التي تتكلم عنها وليدة حمكم ل50 سنه

زر الذهاب إلى الأعلى