القومية العربية.. من فكرة الى حركة

سريعاً انتقلت الفكرة القومية العربية من النصوص إلى النفوس، من النخبة المثقفة إلى الجمهور، من النظرية إلى الممارسة، فلم تبق مجرد فكرة، بل أصبحت حركة.

حصل ذلك ابتداء في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم شهد اندفاعته الأكبر في العقدين التاليين. صحيح أن جمعيات ومؤتمرات عربية تألفت في العقدين الأولين من القرن العشرين، وكان لها بعض من وجوه النشاط السياسي والدعوي من أجل فكرة الأمة الواحدة ووحدتها القومية، لكن هذه ما كانت أحزاباً وحركات سياسية بالمعنى الدقيق، ناهيك بأن حلمها في دولة عربية شهد خاتمته الدراماتيكية بعد المآلات التي آلت إليها “الثورة العربية” وما أعقبها من احتلال لبلدان المشرق العربي وتمزيق لخارطتها الكيانية. وهكذا كان الانتقال الفعلي للفكرة القومية إلى مشروع سياسي حركي هو الذي حدث في سوريا في مطالع الثلاثينيات من القرن العشرين.

من النافل القول إن صيرورة الفكرة القومية العربية حركة وتياراً سياسياً في بحر فترة زمنية قصيرة إنما يدل على شكل من الاستقبال الاجتماعي لها موضوعي. إذ لولا أن للفكرة قوة الجواب عن حاجات اجتماعية لما كان في وسعها أن تخرج من حيز النخبة المثقفة فتكسب لها جمهوراً وأنصاراً.

وفي هذا فائض الأدلة على ما كان لها من شرعية مضاعفة، أي مضافة إلى شرعية موضوعيتها كفكرة. فالذين استقبلوها من الناس بحماسة ورأوا فيها فكرتهم، ما فعلوا ذلك إلا لأنها بدت لهم جواباً عن أوضاع مجتمعهم، وأحدثت في نفوسهم الصدمة الايجابية، وأخرجت طاقاتهم المعطلة من هامشيتها، وقذفت بهم في معترك النضال من أجل قضية عليا. وما أغنانا عن القول إن ميلاد هذا العامل الاجتماعي السياسي للفكرة القومية العربية هو في مقام ميلاد جديد للفكرة القومية العربية أو شيء بهذه المثابة. ذلك أنه من دون وجود هذا العامل، كان يمكن أن تظل الفكرة فكرة لا تبرح الرؤوس إلا إلى النصوص. وعندها ستكون في جملة اليوتوبيات: وما أكثرها في تاريخ الفكر الإنساني.

لقائل أن يقول إن نشوء تنظيمات سياسية مثل “عصبة العمل القومي” و”الحزب العربي الاشتراكي” و”حزب البعث” (قبل توحد الأخيرين في حزب واحد)، و”حركة القوميين العرب”، إنما يعلن انتقال الفكرة من حيز نخبة إلى حيز نخبة أخرى، أي من المثقفين إلى السياسيين الحزبيين، وبالتالي فلا مجال للقول بحسب القائل إن الفكرة اكتسبت شرعية اجتماعية وشعبية. والقائل هذا لا يلحظ حقيقتين تاريخيتين: أن تلك الأحزاب ما عدمت جماهيرية ونفوذاً في الناس في ذلك الإبان، بل هي نافست الأحزاب الوطنية والاستقلالية في شعبيتها ونفوذها، كما أن النضال الذي خيض تحت عناوين قومية اتسعت دائرته الاجتماعية والجغرافية بحيث انخرط فيه من لم يكونوا منتمين إلى الأحزاب القومية في المشرق، ومن لم تكن لديهم أحزاب قومية أصلاً في بلدانهم كما في حالة المغرب العربي والخليج العربي. وهذا يسقط حجة من يحتسب الفكرة القومية فكرة نخبوية يتردد صداها حصراً بين المثقفين والحزبيين.

ولمستزيد نزيد فنقول إن حال هذه الشعبية الكاسحة للفكرة القومية إنما تبينت أكثر في سنوات الخمسينيات والستينيات: سنوات الناصرية بامتياز. وقد لا تكون شعبية عبدالناصر مسبوقة في التاريخ العربي: قديماً وحديثاً. ولم تصطنعها أجهزة السلطة والدعاية كما قد يقول البعض. وحتى إذا ما ذهب البعض هذا المذهب في تفسيرها، فإن مزعمه إن كان ينطبق على مصر وهو لا ينطبق فبم يفسر تلك الشعبية الكاسحة للرجل خارج مصر: في كل أرجاء الوطن العربي حيث ملايين الناس الذين تفاعلوا معه ليسوا في جملة من يخضعون لسلطان دولته؟ ثم بم عساه يفسر استمرار صورة عبدالناصر ومكانته في الوجدان الجمعي العربي بعدر حيله بسنوات وعقود؟ وما أغنانا عن القول إن شعبية الناصرية من شعبية الحركة القومية التي كانت قيادتها في ذلك الإبان مصرية (ناصرية). وبذلك، يبطل الزعم بنخبوية التيار القومي، ويتكرس الدليل على ما كان له من كبير نصيب من الشرعية التاريخية.

على أن هذا الانتقال السريع من الفكرة إلى الحركة ما كان ليحصل من دون أن تكون له مضاعفات سلبية، ومنها أن الفكرة التي كانت في طور الإنضاج النظري، وكانت ينتظر منها أن تفرج عن رؤية عميقة لمسائل ذات أهمية بالغة في عملية التوحيد القومي، كالدولة والسلطة والعلاقة بين الأقاليم والمركزية والاندماج واللامركزية والاتحاد والعلاقات الاقتصادية بين المركز والأطراف وأشكال التداول على السلطة، سرعان ما أخرجت (أي الفكرة) من حيز البناء النظري قبل أن تكتمل نضجاً لتتعرض لعملية تسييس كان من نتائجها تأسيس العمل القومي العربي على الدوغما الإيديولوجية، وانفصال المؤسسة الحزبية القومية عن ميدان الفكر القومي وجنوحها للشعبوية. أما من ظل يفكر في الفكرة القومية خارج نطاق ألسنة الحزبية القومية فاتخذ جانب الاستقلالية عنها كساطع الحصري وزريق.

عبد الإله بلقزيز/ المغرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى