الازمة الاقتصادية التركية تضطر سكان إسطنبول لمغادرة مدينتهم نحو الريف

تشهد تركيا في السنوات الأخيرة ارتفاعًا في معدلات الهجرة من المدن الكبيرة مثل إسطنبول إلى قرى الريف بصورةٍ غير مألوفة. فمع الاضطرابات الاقتصادية التي تمرُّ بها تركيا، من انخفاضٍ في أسعار العملة وارتفاعٍ في معدلات البطالة، وانكماشٍ في قطاعاتٍ تقوم عليها الحياة الاقتصادية للمدن التركية، مثل السياحة والإنشاءات، بدأت قطاعاتٌ من الطبقة الوسطى المدينية في الانتقال إلى البلدات التركية الصغيرة وريف المدن.
تحاول بيثان ماكيرنان، مراسلة صحيفة «الجارديان» البريطانية، في هذا التقرير، رصد هذه الظاهرة وأسبابها، والتغيُّرات الآخذة في التشكُّل عنها على المهاجرين وسكان الريف على السواء.
يبدأ التقرير بتتبُّع يومٍ عادي في حياة واحدةٍ من المهاجرين الذين تركوا المدينة واختاروا الحياة في الريف، تُدعى سو آڤا. كانت سو آڤا مستيقظةً منذ الساعة الخامسة صباحًا. فقد كان عليها فحص الحمَلين الجديدين، وإطعام الماعز والقطط والكلاب، وتفحُّص خلايا النحل، وإحضار ما ينقصها من طلبات، بالإضافة إلى الزيارة المعتادة لورشتها قيد الإنشاء حاليًا.
وعلى شدة اختلاف حياتها الآن التي تقوم على صناعة وبيع الجبن والطحين والعسل في منطقة تشاناكالي التركية الجميلة، عن الحياة التي اعتادت أن تعيشها في إسطنبول، ورغم ما قد يحمله العمل من مشقةٍ عليها، فإنها تقول إن ما مِن شيءٍ قد يدفعها للتخلي عن هذه الحياة.
يذكر التقرير على لسان آڤا أنها قالت إن حياتها الجديدة «قد تخرج بتحدياتٍ غير مُتوقَّعة طوال الوقت»، غير أن «ثمة نوعًا من السلام وجدته هنا، لم أكن لأجده أبدًا في إسطنبول. فأنا أشعر الحرية هنا أكثر من أيِّ مكان آخر».

وُلِدَت آڤا ونشأت في إسطنبول، مركز تركيا العامر بالثقافة، حيث درجت على الاشتغال في مجال الأقمشة، وعملت لفترةٍ قصيرة في قسم الاقتصاد بجامعة إسطنبول. وبحسب التقرير، كانت بداية انخراطها في النشاط السياسي هي مظاهرات جيزي بارك التي انطلقت في إسطنبول عام 2013، والتي دشَّنَت موجةً من الاضطرابات المدنية التي انتشرت في جميع أنحاء البلاد. ومثل الآلاف غيرها، انتهى الأمر بها معتقلةً وفقدت عملها بعد ذلك.
ويشير تقرير صحيفة «الجارديان» إلى أن كثيرًا من سكان إسطنبول، الذين يبلغ عددهم 15 مليونًا، لم يكونوا ليفكروا أبدًا في الانتقال من المدينة إلى المناطق الأكثر محافظةً في تركيا، غير أن اختناق المناخ السياسي بشكلٍ متزايد، قد دفع بآڤا إلى أن تعزم أمرها على المغادرة إلى ريف الأناضول في 2014.
وقد تبيَّن بعد ذلك أنها كانت في طليعة تحوُّلٍ ديموغرافي تمرُّ به البلاد، إذ يذكر التقرير أن تركيا شهدت، لأول مرة، زيادةً في عدد المنتقلين من مدنها الكبرى عن القادمين للإقامة فيها، وفقًا لبيانات معهد الإحصاء التركي. وقد بلغ العدد الإجمالي لمن غادروا إسطنبول في 2017-2018، نحو 595 ألف شخص.
يتناول التقرير بعد ذلك أسباب ذلك التحوُّل، فيشير إلى إنه مع انهيار الليرة وبلوغ معدل البطالة نحو 15%، ارتفعت تكاليف المعيشة ارتفاعًا مذهلًا، في وقتٍ تكاد تنضب فيه فرص العمل. زاد على ذلك ما شهدته المدينة من استقطابٍ سياسي متزايد، وموجةٍ من الهجمات الإرهابية بين عامي 2014-2017؛ كلُّ ذلك أدَّى بإسطنبول إلى أن تصبح مدينةً أقل جاذبية للعيش فيها.
ويلفت التقرير الانتباه إلى ما يشير إليه تقرير معهد الإحصاء التركي من دورٍ للانكماش في قطاعي السياحة والإنشاءات، على وجه الخصوص، في زيادة معدلات الهجرة العكسية من أكبر مدينةٍ تركية، والعودة إلى المدن الصغرى والبلدات في جميع أنحاء شرقيّ البلاد.
لكن التقرير يذكر أيضًا أن الأمر لم يقتصر على عودة العمال الذين كانوا قد أتوا من أنحاءٍ مختلفة من تركيا إلى ديارهم فحسب، إذ يبدو أن بعض هؤلاء الذين يغادرون إسطنبول هم من نخبها الليبرالية والثقافية الذين نشأوا وعاشوا فيها. ورغم أن البعض قد سافر إلى خارج تركيا، فإن هناك العديد من سكان إسطنبول اختاروا الانتقال إلى الريف التركي والشروع في إقامة مشاريع خاصة بهم، مثل المزارع وحقول الكروم والفنادق الصغيرة.

بالإضافة إلى الكثيرين مِمَّن يعملون عن بعد، أو في وظائف حرة، من خلال أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، في ولاية تشاناكالي، المُطِلَّة على بحر إيجة، أو جبال كاش المجاورة، التي غدت القبلة الجديدة للعاملين في مجال صناعة السينما التركية.
وفي حين أن الأجيال الشابة من سكان المناطق المحيطة قد غادرت للبحث عن فرص عمل بأجورٍ أفضل في مدينة تشاناكالي، وبلدة إدرميت التابعة لولاية باليكسير القريبة، فإن ما لا يقل عن نصف سكان قرى المقاطعة لا يزالون يعتمدون في سبل عيشهم على الزراعة وتربية الحيوانات.
يستأنف التقرير بعد ذلك مع شيلي كورمان، التي يعود أصلها إلى الولايات المتحدة، وانتقلت إلى إسطنبول عام 2005. كانت شيلي تمتلك مقهى في حي جيهانغير، الوجهة الأولى لعشاق إسطنبول، قبل أن تنتقل وزوجها محمد، الراقص السابق بفرقة الباليه الوطني التركي، إلى قرية إلياسفكي التابعة لولاية تشاناكالي عام 2016.
تتحدث شيلي عن أسباب انتقالها، فتقول: «كانت إسطنبول مدينةً مثيرة للغاية بالنسبة لي، وقد أحببت العيش فيها، إلا أنه بعد أحداث جيزي بارك، أصبح الجميع خائفًا وتعيسًا»، وأضافت: «ثم كانت هناك الاعتداءات الإرهابية. فضلًا عن أن الازدحام المروري المتزايد كان قد بدأ يزعجني بشدة. لقد تغيَّرت المدينة، وتغيَّرنا نحن أيضًا».
وتستكمل شيلي حديثها فتقول إنه على خلاف إسطنبول «فإن إلياسفكي تتناغم مع الفصول الأربعة. أحب فكرة أننا نزرع الخضروات الخاصة بنا، ونصنع الزبادي الخاص بنا. ومع أن ما لدينا من مالٍ بالكاد يكفينا، فإننا أسعد بكثيرٍ مِمَّا كنا».

يقول التقرير إن الحياة في تشاناكالي ليست مثالية، فقد أبدى السكان شكواهم من أن المستوطنين الجدد لا يبذلون أيَّ جهدٍ للاندماج في المجتمع المحلي، ويفضِّلون رفقة بعضهم البعض. القادمون الجدد، من جانبهم، يردون بأنهم كثيرًا ما يُستَقبَلون بالعداء منذ الوهلة الأولى.
وتدفع مشقة العمل البعضَ إلى التخلي عن أحلامهم الرعوية وسذاجتها بعد سنواتٍ قليلة. وكما يشير التقرير أيضًا، فإن هناك مخاوف من أن التطوير المرتبط بالقادمين الجدد، سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ويقود إلى تنمية زائدة عن الحاجة.
وينقل التقرير عن متين جوريل، أحد سكان إدرميت، تبرُّمه، إذ يقول: «على مدار الأعوام القليلة الماضية، انتقل الكثير من سكان إسطنبول إلى إدرميت، وما زالوا يأتون»، غير أنهم «يأتون إلى هنا بحثًا عن نمط الحياة البسيط، ثم يأخذون في الشكوى من الحمير والأغنام في شوارع القرية»، ويضيف متين معترضًا: «من يرى أن الحيوانات نتنة، ينبغي عليه البقاء في المدينة».
ويلفت التقرير إلى أنه مع استمرار معاناة تركيا من الأزمات الاقتصادية والسياسية المختلفة، فإن من المُرجَّح أن تتواصل ظاهرة الهجرة من المدينة إلى الريف لفترةٍ مقبلة.
وتختم صحيفة «الجارديان» تقريرها بالإشارة إلى ما قاله لها محمد لاليلي، أحد السكان المحليين الذي تمكَّن من إقامة شركة ناجحة لإنتاج زيت الزيتون العضوي في مدينة برهانية بمقاطعة باليكسير قبل 13 عامًا، إذ يقول لاليلي: «يتعلَّق الأمر بالتوازن في نهاية المطاف، فكثيرٌ من السكان الجدد بوتيرة متسارعة كهذه لا بد أن يؤدي إلى بعض المشاكل».
ويضيف: «أدَّى التبادل إلى خلق الكثير من فرص العمل، وجعل المنطقة أكثر من مجرد وجهة سياحية. وهذا يعني في النهاية، تدفُّق المزيد من الأموال إلى تلك المجتمعات».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى