كيف ومتى ولماذا ظهرت ازمة البطالة في العالم العربي

 

تتخطى البطالة كونها أزمة اقتصادية محورية وأكبر مشاكل الاقتصاد الحديث، إلى أضرارها الاقتصادية الضخمة، وتصنيفها آفة اجتماعية خطيرة، إذ تكدر حياة عشرات الملايين من الناس حول العالم، ويراها الاقتصاديون «الشر المطلق» في المجتمعات الاستهلاكية بشكل خاص، وفي العالم بشكل عام. وكما هي العادة في مثل هذه المشاكل، من الضروري مناقشة البعد التاريخي للمشكلة، وأسباب ظهورها، وذلك في محاولة للوصول إلى حلول حقيقية، ومن هنا نسأل: متى ظهرت البطالة؟ وهل هي مشكلة حديثة وإحدى نتائج الرأسمالية كما يراها البعض؟ أم أنها قديمة وليس لها علاقة بتطور الرأسمالية؟

بعيدًا عن مصطلح البطالة الذي يعتبر حديثًا، مقارنة بالظاهرة ذاتها، فجذور المشكلة تذهب بعيدًا في التاريخ، فهي قديمة جدًا في مجتمعاتنا وبأشكال تخفي طبيعتها، فقد كانت موجودة في مصر واليونان قديمًا، ورغم أن اللغة اليونانية القديمة لا تتضمن كلمة عمل، لكن اليونانيين القدماء كانوا يعملون، وكانت أوقات الفراغ الطويلة بالنسبة للفقراء، تعتبر مؤشرًا على البطالة، وقد ارتبطت الظاهرة كذلك بالكسل في كثير من الأوقات.

وبحسب المؤرخ الفرنسي وأستاذ العلوم السياسية في باريس، إيف زوبرمان، في كتابه «تاريخ البطالة»، فإنه في القرن الخامس قبل الميلاد عرفت أثينا ظاهرة مكافحة العزوف عن العمل، والاكتفاء بتمضية أوقات الفراغ دون عمل، وذلك في عصر بيركليس، وبالرغم من أن هذا النوع يعتبر بطالة بمعناها العام، إلا أن الاقتصاد لا يعترف بهذا النوع من البطالة، فخلال كل هذه العصور وحتى بداية القرن التاسع عشر كانت البطالة اختيارية، أي أن العاطلين عن العمل يعزفون عن العمل بإرادتهم، وهذا النوع في علم الاقتصاد لا يعتبر مشكلة تحتاج إلى حل.

فالبطالة التي يهتم بها علم الاقتصاد، هي تلك التي تنشأ بسبب عدم وجود عدد كافٍ من الوظائف في المجتمع، في ظل وجود قوى عاملة لديها القدرة والرغبة في العمل، وتقبل كذلك بمستوى الأجور السائد، بحسب ما ذكر، حسني مهران، أستاذ الاقتصاد المصري في كتابه «التحليل الاقتصادي الكلي»، لكن هذه الشروط لم يعرفها العالم معرفة كاملة سوى خلال القرن التاسع عشر، وهو الوقت الحقيقي الذي يمكن اعتباره موعد ظهور البطالة بمفهومها الحديث، وهو ما تبلور أكثر مع ظهور النظرية الكينزية، أو الفكر الاقتصادي الكينزي.

الكلاسيك VS كينز.. بين البطالة والتوظف الكامل

خلال الفترة الممتدة من عام 1776 وحتى عام 1936، كانت النظرية الكلاسيكية هي المسيطرة على الفكر الاقتصادي الكلي، ويمكن تسمية هذه الفترة بمرحلة سيادة الفكر الكلاسيكي التقليدي، وذلك منذ ظهور كتاب آدم سميث «ثورة الأمم»، وهذا الفكر لم يكن يفترض وجود بطالة إجبارية، وكان يرى أن الاقتصاد يصل تلقائيًّا إلى مرحلة التوظف الكامل، أو التشغيل الكامل -أي عدم وجود بطالة- وهي إحدى الأفكار الأساسية التي تحدث عنها «قانون ساي» للأسواق، أو ما يسمى بقانون المنافذ.

ومع فشل الكلاسيك في تفسير وعلاج الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت الاقتصاد الأمريكي والأوروبي في (1929 – 1936) أو ما يعرف بالكساد الكبير، ظهر الفكر الاقتصادي الكينزي أو النظرية الكينزية، وذلك مع ظهور كتاب «النظرية العامة في التوظف والفائدة والنقود» لجون ماينادر كينز في 1936، إذ رفض معظم فروض النظرية الكلاسيكية، وأكد فكرة إمكانية وجود بطالة إجبارية، وخاصة أن تلك الفترة في الأساس شهدت معدلات كبيرة من البطالة وصلت إلى 25% في أمريكا، إذ رأى كينز أن التوظف الكامل أمر مثالي يصعب حدوثه.

وقد جاءت هذه الأحداث بالتزامن مع الثورة الصناعية التي أسست نظامًا اقتصاديًّا رأسماليًّا يرتكز على حرية العمل والمبادلات، وهو ما جعل البعض يرى أن وجود الآلات والمعدات وتطورها سبب رئيسي لتوحش البطالة، بينما يرى آخرون أن الثورة الصناعية والتطور الذي شهده العالم، وبرغم ما يتسبب فيه من إنهاء صلاحية بعض الوظائف، إلا أنه يخلق آلاف الوظائف الجديدة، فبعد أن كانت الأعمال قاصرة على الزراعة والصيد، بات هناك عشرات القطاعات الأخرى، لكن هل من أسباب أخرى لظهور البطالة؟

لا يمكن الحديث عن مشكلة البطالة دون المرور على المشكلة الأساسية لعلم الاقتصاد، وهي الندرة التي تتمثل في امتلاك البشر لرغبات وحاجات غير محدودة في عالم محدود الموارد، وبالتالي تعتبر البطالة ناتجًا أساسيًّا للمشكلة الاقتصادية، لذلك يمكن القول إن علم الاقتصاد الحديث أسس منذ بدايته لوجود البطالة، فدائمًا ما كان اهتمام الاقتصاديين بالإنتاج للتغلب على الندرة وعلى البطالة كذلك، لكن حتى الآن الحلول غائبة، خاصة أن النمو السكاني أسرع كثيرًا من نمو الإنتاج، وهذا جانب آخر أيضًا ساعد في ظهور البطالة.

متى بدأت البطالة جديًّا في العالم العربي؟

على الجانب الآخر يأتي السؤال عن المنطقة العربية وبداية ظهور البطالة فيها. ويمكن القول بأن البعد التاريخي عربيًّا لا يختلف كثيرًا عنه على مستوى العالم، من ناحية أن البطالة بشكلها الإجباري لم تكن موجودة حتى القرن التاسع عشر، ولكن ظهور البطالة عربيًّا جاء متأخرًا بعض الشيء، وذلك لأن الثورة الصناعية لم تجتح المنطقة بالسرعة نفسها التي اجتاحت بها أوروبا، وأن استعمار الدول الصناعية لكثير من الدول العربية، لم يساعد بلاد المنطقة في إيجاد طريق مباشر نحو الصناعة، لكن الاستعمار تسبب في تحولات اجتماعية واقتصادية عديدة في المنطقة، وهو ما تحدث عنه كتاب «أزمة الكساد العالمي الكبير وانعكاسها على الريف المصري»، للدكتور علي شلبي.

ومن ناحية أخرى ساعد اكتشاف النفط في الخليج على احتواء معظم العمالة في أغلب دول المنطقة، لذلك لم تظهر أزمة البطالة بقوة، إذ ساعد ازدهار حركة التشييد والهجرة الخارجية، واستيعاب نسبة كبيرة من اليد العاملة المتزايدة في الوطن العربي، لا سيما العمالة القادمة من القطاع الزراعي وأعمال الريف في فترة السبعينات والثمانينات، في الحد من ظاهرة البطالة، كما توضح غيداء صادق سلمان، الأستاذ بجامعة الأنبار في العراق، خلال بحث لها، نشر في 2010.

وخلال أول خمسة عقود تقريبًا من اكتشاف النفط، كانت الهجرة للخليج هي الهدف الأساسي في البلدان التي تكثر فيها اليد العاملة، ولم يكن التعليم والمهارات من المتطلبات الأساسية للعثور على عمل في قطاع الخدمات، وقطاع البناء والتشييد في الخليج، لذلك لم يكن هناك أي اهتمام بمستوى معظم اليد العاملة التي اختارت الهجرة، وهو ما كان حلًّا مريحًا للحكومات العربية في دول مثل مصر والأردن وسوريا واليمن، لكن في منتصف الثمانينات اختلف الوضع بسبب الانخفاض الكبير في عائدات النفط.

فبعد أن كانت فرص العمل مضمونة للعرب في الخليج بغض النظر عن التعليم، أو المهارات، ظهرت متطلبات جديدة للعمل في التسعينات، وذلك بعد تشبع القطاع العام. وبدأ القطاع الخاص بالاستحواذ على جزء كبير من سوق العمل، ولكن مع طلب مستوى أرقى من المهارات وأكثر تنوعًا، ولهذا السبب تقلص نصيب دول المنطقة من هذه الوظائف، وباتت فرص الجنسيات الأخرى في الحصول على الوظائف بالدول الغنية بالنفط أكبر، وفي هذا الوقت تغير هيكل الطلب على العمل عربيًّا، وتفشت ظاهرة البطالة بقوة.

منذ ذلك الحين لم تستطع الدول العربية التجاوب مع هذه التغييرات، وكان الاعتماد على أساليب إنتاج كثافة رأس المال ساعد في الوقت نفسه على إفراز مزيد من العاطلين في سوق العامل.

ويمكن القول إنه حتى الآن فشلت معظم الدول العربية في مكافحة البطالة، وساعدت الأوضاع السياسية والاجتماعية على مزيد من التدهور، لكن لم تقتصر البطالة على الدول غير النفطية فقط، فبعد سنوات النمو القوية التي شهدتها الدول النفطية بدأ ظهور البطالة في هذه الدول.

فبعد أن كان أغلب السعوديين والخليجيين يجدون وظائف في الوزارات، أو الهيئات المحلية، لم يستمر الوضع كثيرًا، وبات من المستحيل أن يحصل كل مواطن خليجي على وظيفة حكومية بصورة تلقائية، وبدأت السعودية في عام 1994 في برنامج «السعودة» لإرغام القطاع الخاص على توظيف المواطنين، لكن لم تنجح هذه السياسة حتى الآن بسبب ارتفاع أجور المواطنين مقارنة بأجور الوافدين، وهذا الأمر تسبب في زيادة نسب البطالة في البلدان الخليجية زيادة كبيرة.

البطالة.. مفاهيم وأنواع

بعد الحديث عن ملامح البعد التاريخي لظهور البطالة، يمكننا الآن الحديث عن المفهوم الشامل للبطالة، إذ تتعدد التعريفات الأكاديمية للبطالة وكذلك الأنواع، لكننا سنحاول التعرض لأبرز هذه الأنواع وأشهرها.

وتعرف «منظمة العمل الدولية» البطالة أو العاطل عن العمل بأنه «الفرد الذي يكون فوق سن معينة بلا عمل، وهو قادر على العمل وراغب فيه ويبحث عنه عند مستوى أجر سائد، لكنه لا يجده»، ويوضح هذا التعريف عجز العامل عن إيجاد عمل؛ فهو مجبر على أن يكون في حالة بطالة.

هذا النوع من البطالة يسمى بالبطالة الإجبارية، ويظهر هذا النوع أكثر في الدول النامية، ويسمى أحيانًا بالبطالة غير الإرادية، وكما ذكرنا فإن الاقتصاد يهتم بالدرجة الأولى بهذا النوع؛ لأنه هو جوهر المشكلة، لكن هناك أنواع أخرى يتضرر منها الاقتصاد أيضًا لكن بدرجات متفاوتة، وذلك كالبطالة الاختيارية، وهو نوع من البطالة يعبر عن انصراف مجموعة من الأفراد بالقوة العاملة عن العمل لعدم الرغبة في ذلك، وهذا النوع ليس ضمن مشكلة البطالة التي يهتم الاقتصاد بمعالجتها.

وهناك أيضًا أنواع أخرى من البطالة مثل العارضة والدورية والموسمية، وهذه الأنواع تمتد عادة فترة قصيرة من الزمن، وتشكل جزءًا من عملية بحث العامل عن عمل مناسب، أو بسبب الدورة الاقتصادية الطبيعية من الركود والرواج، أو بسبب طبيعة الأعمال الموسمية، وهذه الأنواع موجودة بكل الاقتصاديات في العالم، وتتراوح نسبتها في الطبيعي بين 3- 5%، ويسميها البعض بالبطالة الاحتكاكية.

وهناك أيضًا البطالة الهيكلية، وهي تنشأ بسبب فشل السياسات الحكومية في استيعاب الأيدي العاملة باعتمادها على سياسات لا تناسب اقتصاد الدولة، ويوجد كذلك البطالة المقنعة، وهو نوع خطير من أنواع البطالة وتتميز به الدول العربية عن غيرها، إذ تتمثل بوجود أعداد من القوى العاملة لا تنتج، وتأخذ أجرًا من الدولة على ذلك، وتصل في الجهاز الإداري ببعض الدول العربية إلى أكثر من 20%، وهو ما يستنزف الموازنات العامة استنزافًا كبيرًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى