هذا ما يحدث عندما تتخلّى مصر عن دورها في قيادة الوطن العربي

تاريخ المنطقة العربية القديم والحديث يثبت أن مصر القوية تشكّل سندا قويّا لأمتها العربية وتكون ركيزة أساسيّة لأمنها واستقرارها؛ فعندما تكون مصر قوية وتتولّى قيادة الوطن العربي، فإنّه يتماسك ويتّجه إلى الوحدة، ويزدهر اقتصاديا وعلميا وثقافيا، ويكون له حضوره السياسي على الصعيد الدولي؛ وعندما تضعف مصر وتتراجع عن دورها القيادي، يبدأ الوطن العربي في التراجع ويعاني من الانقسامات والتفكك، ويفقد ثقله وتأثيره في السياسة الدولية، ويواجه هجمات شعواء من أعدائه الطامعين في السيطرة عليه وعلى ثرواته.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وحتى توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، كانت مصر دولة قوية لها احترامها وثقلها العربي والدولي، وكان الرئيس جمال عبد الناصر حتى وفاته المفاجئة عام 1970، الزعيم الأكثر مصداقيّة وشعبيّة وتأثيرا وهيبة في تاريخ العرب الحديث، ولهذا كان من أهم أهداف تلك الاتفاقية كما قال مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، هو عزل مصر وإنهاء دورها القيادي للوطن العربي، وتعطيل عملية إحياء الفكر القومي العربي ومنع الوطن العربي من تحقيق وحدة تشكّل خطرا على وجود الدولة الصهيونية.

في ذلك الزمن العربي الجميل، مصر كانت قائدة الأمة، وقوية بقيادتها التي التفّ الشعب المصري وأبناء الأمة العربية حولها فألغت الإقطاع، وعملت على تصنيع البلاد وبناء جيش قوي، وأقامت علاقات قوية مع الاتحاد السوفيتي الذي كان القوة العظمى المنافسة للاستعمار والنفوذ الغربي، وأمّمت قناة السويس، وأفشلت العدوان الثلاثي الإسرائيلي البريطاني الفرنسي عليها، وأقامت أول وحدة اندماجية بين قطرين عربيين هما مصر وسوريا، وأحيت الفكر القومي كوسيلة لتوحيد الأمة، وقامت بدور محوري في مساعدة الثورة الجزائرية وحركات التحرر المعارضة للاستعمار والهيمنة الغربية  في اليمن والخليج العربي والعراق ولبنان وغيرها من الدول العربية والإفريقية والآسيوية، وأقامت علاقات مع دول أمريكا اللاتينية التقدمية الرافضة لهيمنة الولايات المتحدة.

عندما عزلت مصر وحوصرت وتخلّت عن دورها القيادي، حاولت دول عربية أن تقفز إلى الصدارة وتتولى قيادة الأمة، لكنها فشلت لآنها دول صغيرة تسلّطية غنيّة معروفة بارتباطها بدول أجنبية، ويفتقر قادتها إلى التأييد الشعبي الواسع والكاريزما والمصداقية التي تمتع بها جمال عبد الناصر.

للأسف لقد أدّى الفراغ السياسي والقيادي الذي عانت منه الأمة العربية منذ .. رحيل عبد الناصر وتخلي مصر عن دورها القيادي .. إلى تقوية الدول القطرية ودعم حكامها الذين عملوا على تعزيز الحواجز الجغرافية بين اٌقطار الوطن العربي، وأصدروا القوانين التي تفرق بين مواطنيه، وأثاروا النعرات والفوارق المذهبية والطائفية والجهويّة، وحاربوا الفكر القومي الوحدوي التقدمي، وجنّدوا وسائل الإعلام لطمس ذكر ” الوحدة العربية “، وأصبح الواحد منهم يتآمر كما يشاء، ويظلم شعبه كما يشاء، ويذل الشرفاء والأحرار كما يشاء، ويعلي شأن من يشاء من السفهاء، فأضاعوا أقطارهم وأوصلوا الأمة إلى هذا المأزق الخطير.

الأمة العربية التي تحكمها ” أنظمة أبوية ” كما وصفها المرحوم غسان شرابي، يقوم فيها رأس الدولة بدور ” أب الأمة ” المطلق الصلاحيات الذي لا يخطأ أبدا تعيش أزمة قيادة؛ إنها بحاجة ماسة إلى قيادات تملك الكفاءة والرؤى الواضحة للمحافظة على مصالح وأمن الجماهير التي تثق بها وتلتف حولها، وتتبعها طواعية وعن قناعة لا بالسوط والعصى وتهديد المخابرات والخوف من السجون؛ قيادات تحرض على أمن الوطن وتقدّمه، وتستطيع تجسير الفجوة بينها وبين المواطنين ولا تتعامل معهم كأقنان تابعين كما يحدث الآن.

القائد الذي يستمدّ قوته من الشعب يستطيع أن يحقّق الكثير من الإنجازات الهامّة لوطنه وشعبّه؛ إنه يبني ولا يهدم، يعدل ولا يظلم، يوحّد ولا يفرّق، ينتصر ولا يهزم، ويدخل التاريخ معززا مكرّما، بينما القائد الذي يهين ويذل ويخون شعبه ويستقوي بالقوى الخارجية، يخسر المواطن ويعرض الوطن لأخطار جسام، ويدخل التاريخ كخائن لا قيمة له وغير مأسوف عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى