ملاحظات عابرة حول فلسفة الخطأ وادارة الفشل وصناعة الاستفزاز

 

بتوفيق من الباري عز وجل، وتوافق طوعي بين الشعب والحكم، ودعم ملحوظ من القوى الاقليمية القريبة، وغطاء واسع من المراكز الدولية البعيدة، نجا الاردن – شأن باقي الممالك والمشيخات العربية- من جحيم ”الربيع الفظيع”، واعتصم بالوحدة الوطنية والعروة الوثقى، ونجح في امتحان الصمود والاستقرار والتحديات الامنية، وانتقل سريعاً من حالة الدفاع الى وضعية الهجوم على الجماعات المتأسلمة والعصابات الارهابية.

الكل الاردني، الرسمي والشعبي، تنفس الصعداء، وشعر بفرحة غامرة وثقة كبيرة بالنفس وبالغد.. فقد زال الكابوس، وخمدت رياح الفتنة، وتلاشت نذر الخطر والضرر، وخرجت البلاد من هذه المحنة سالمة غانمة، خلافاً لاقطار عربية شقيقة عانت، ولا تزال تعاني، من ويلات هذا الربيع الملعون والمفتون ببنات افكار الصهيوني برنارد ليفي واترابه.

كان المأمول ان يستخلص الكل الاردني من هذه التجربة الصعبة جملة عبر ودروس من شأنها ان تشكل هادياً ودليلاً وبوصلة اتجاه، ولعل اهم هذه الدروس واولها ادامة حالة التوافق الوطني والتراضي العام، وتكريس الشراكة بين القمة والقاعدة في صنع القرار وادارة شؤون البلاد، ومواصلة نهج الاصلاح السياسي والانفتاح الديموقراطي والعدل الاجتماعي، وتعزيز اواصر الثقة المتبادلة واجواء التفاهم والتناغم التي سادت بين الجانبين خلال سنوات المحنة، ونأت بهما عن الانزلاق الى مهاوي الشطط والعناد والاستئثار والاستكبار والاستقواء بالاعارب والاجانب.

كان المأمول، بعدما تحققت المعجزة وخرج الكل الاردني منتصراً تحت عنوان ”لا غالب ولا مغلوب”، ان يتواصل العمل المشترك تحت سقف هذا العنوان، وان تستمر ملحمة التكاتف والتعاضد والتساند بين اهل الحكم وجماهير الشعب واوساط النخب، ليس لغرض توطيد الامن وحماية الجبهة الداخلية فحسب، بل لتوظيف هذه الروحية التكاملية والتفاعلية الهائلة في تحقيق قفزات تنموية ونهضوية وانتاجية كفيلة بتغيير نمط الحياة الاردنية، ونقل البلاد والعباد من مربع البؤس والفقر والبطالة والترامي على المعونات الخارجية، الى مدرج الكد والجد والانطلاق الخلاق والاعتماد على النفس، اسوة بما حصل في عدة دول عالمثالثية مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا، ناهيك عن الهند والصين والبرازيل وجنوب افريقيا.

قد لا ينتبه الكثيرون الى ان ابشع سيئات وسلبيات انظمة الاستبداد العربية والعالمية، لا تتمثل في قمع الحريات العامة ومصادرة الحياة السياسية فقط، ولكن في قتل روح العمل والانتاج والابتكار والنهوض الاقتصادي ايضاً.. فالفساد قرين الاستبداد وتلميذه النجيب، والفساد هو طاعون الاقتصاد، وقد ثبت في كل ارجاء العالم ان لتحالف الفساد والاستبداد قوة تدميرية غاشمة ووحشية بمقدورها ان تهلك الزرع والضرع والانسان، واسألوا مصر حسني مبارك.

ليس من مصلحة الدولة الاردنية بمختلف سلطاتها ومكوناتها، ولا في صالح نظامها وشعبها وترابها الوطني، العودة القهقرى الى الوراء، واستعادة الزمن العرفي والقرار الفردي والفوقي، والرجوع الى حالة المباعدة والافتراق بين القمة والقاعدة، تبعاً لتحريضات فلاسفة الخطأ، واساتذة الفشل، وزبانية الاستفزاز، وفقهاء الرياء باسم الولاء الذين يدفعون باتجاه التأزيم والتقسيم وتفكيك مرحلة التلاحم والترابط الماضية بين الحاكمين والمحكومين، لحساب حقبة جديدة اساسها وجود غالب هو النظام ومغلوب هو الشعب، وقوامها التخاصم بدل التفاهم، والاخضاع بدل الاقناع، والمغالبة عوض الموادعة والمشاركة.

ليس من مصلحة الدولة الاردنية، ولا في صالحها حاضراً ومستقبلاً، الركون الى فلاسفة الخطأ، والدوران في سلم حلزوني، والاعتماد على اقتصاد الجباية والريع والعون الخارجي، والاقتداء بالدول الخليجية التي مسخت مفهوم الدولة المتعارف عليه عالمياً، ومنحته صيغة السلطنة الاقطاعية الخارجة من حكايا شهرزاد والسندباد والف ليلة وليلة.. بل ربما يكون في صالح دولتنا، ومن المناسب لها، ان تقتدي بدولة المغرب العربية والاسلامية والمحكومة بملك ينتسب للدوحة النبوية، والتي نجحت، الى حد ما، في تنفيس الاحتقان، وتخليق القواسم المشتركة بين الحكم الملكي وبين مختلف فئات الشعب واطيافه السياسية والعقائدية من اقصى اليسار الى ادنى اليمين.

مؤكد ان الحياة الديموقراطية ضرورة سياسية وحاجة انسانية، وهي هدف نبيل وغاية سامية في حد ذاتها، بعدما ثبت تاريخياً انها ارقى اشكال الحكم، ولكن هذا لا يحول دون اعتبارها ايضاً وسيلة عبقرية ورافعة عملاقة لتحقيق اهداف وغايات وتطلعات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تتطلبها طبائع المراحل المتعاقبة والظروف المتغيرة.. الامر الذي كنا نأمل ان يفضي – في الحالة الاردنية- الى توظيف الخيار الديموقراطي كمحفز ومنشط ومحرك للفعل الاقتصادي، من خلال طرح المشاريع الاستثمارية الطموحة، ونشر ثقافة التطوع والتبرع والخدمة العامة، وترشيد نفقات الفخفخة والمراسم الشكلية والسياحة السياسية، وتشجيع المغتربين الاردنيين على الادخار والاستثمار في الوطن، واعلاء قيم العمل والعرق والبناء والانتاج، بدل التكدس البيروقراطي داخل الاجهزة الرسمية التي باتت تغص بالحمولات الزائدة من الموظفين الكسالى، وتشكل عبئاً مالياً وادارياً ثقيلاً على الوطن والمواطن.

اعمى البصر والبصيرة كل من لا يرى واقع الترهل والتسيب والاهمال في معظم مرافق الدولة، ولا يلمس حركة التراجع المستمر والتدني المتواصل في ادائها وعطائها وساعات دوامها، ولا يدرك مدى انتشار الرشوة والواسطة والمحاباة والمعايير الجهوية والشللية بين ظهرانيها، ولا يلاحظ شراسة الصراعات بين مراكز القوى ورؤساء السلطات المتنافسين على كراسي الحكم وكعكة المغانم، ولا يعي حجم الخواء الضميري والافلاس الفكري والمبدأي لدى البطانة السياسية، او الطبقة المتسيدة والمتنفذة من كبار المسؤولين والمستشارين، التي عجزت عن تجاوز ذاتها وضحالة قدراتها، وفشلت في قراءة خارطة المستجدات الراهنة وحقائق الزمن الجديد، وعادت للنبش والتفتيش في الدفاتر القديمة والمحفوظات العرفية البائدة، بدل الاتعاظ بما فات، والحفاظ على لحمة الجبهة الداخلية والوئام العام، والتطلع بعين العقل الى الامام وقادمات الايام.

لو كانت هذه البطانة، او الحاشية، واعية حقاً لما يدور حولنا، وحريصة صدقاً على امانة المسؤولية، ومخلصة فعلاً للوطن والعرش، ومبرأة تماماً من الشبهات والارتباطات الخارجية، لما شجعت على اجراء التعديلات الدستورية الاخيرة التي من شأنها اشاعة البلبلة والمجافاة، واعلاء الحواجز النفسية والسياسية بين القيادة والقاعدة.. في حين ان المتوجب واللازم والمطلوب هو العكس على طول الخط، بشهادة مسلكيات الحراك الشعبي الذي رفع، في ذروة اندفاعه، شعار ”اصلاح” وليس ”اسقاط” النظام، خلافاً لكل الحراكات والانتفاضات ”الربيعية” في العالم العربي.

ليت هذه البطانة المتبحرة في فلسفة الفشل، وصناعة الاستفزاز، تدرك ان اغلى الغايات والمطلوبات، وسط هذه  الفوضى المجنونة، تتمثل في مد جسور المقاربة والتضافر بين الحكم والناس، وبذل اقصى الجهود لتعظيم كاريزما رأس الدولة، وتوطيد دعائم زعامته، وتوسيع قاعدة شعبيته، وتحشيد القوى وتجميع الصفوف من حوله، وليس تكديس السلطات والصلاحيات بين يديه.. ذلك لاننا ما زلنا في قلب المعمعان العربي الصاخب، وفي انتظار المزيد من التهديدات الامنية والتحديات الاقتصادية والتقلبات الاقليمية والدولية، وتحت طائلة احساس عارم بان البلاد محبوسة باكثر مما هي محروسة، ومترقبة باكثر مما هي مطمئنة، وموزعة الخواطر والافكار باكثر مما هي على قلب رجل واحد.

وبعد.. صدقوني ان اهم ما ينقص الاردن هذا الاوان، ليس الموارد والاموال، بل الاشاوس من الرجال المسكونين بحب الوطن، والموصوفين بالنزاهة والنباهة في آن واحد !!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لقد علمت الرجال فن المقال وأوجزت القول في واقع الحال الوطني وكنت ملهما ومنظرا ومشخصا للحظة التاريخية التي يمر بها الوطن ولن نختبئ تحت عباءة الخوف التاريخي المزمن في نفوسنا من كل الامراض الوطنية التي ذكرت فقيادتنا الهاشمية الفذة تستحق بحرا زاخرا من خبرتك الواسعة التي اودعتها بمقالتك هذه لتكون بمثابة حجر الفلاسفة التي طال انتظارها لتحويل كل شئ بهذا الوطن لذهب اقتصادي والماس سياسي يعبر بنا كل المؤمرات والفتن الاستعمارية والامبريالية البغيضة .
    فعلا ابا المظفر انت رجل معدنه الذهب الخالص باركك الله ونفع بك البلاد والعباد يا ضميرنا المخلص نحن معاشر الكتاب والادباء ومعنا السواد الاعظم من الشعب العظيم .

زر الذهاب إلى الأعلى