النسر في الليلة الأخيرة

لماذا كلّما انزاحَ عتمٌ، عبّأ الروحَ عتمٌ آخرُ. ولماذا كلّما لاحَ فجرٌ تتسارعُ العواصفُ لتأخذَنا بعيداً إلى شاشةِ الذاكرةِ لنركنَ هناكَ حيث كانتْ لنا أيامٌ وأيام..
أعودُ للنسرِ في الليلةِ الأخيرة، وهي قصةٌ كتبتُها عام 1994 ضمن مجموعتي القصصية التي تحملُ العنوانَ ذاته. وبعضُ ما جاء فيها:
” كانَ الفضاءُ مسكِنَه والشمسُ جارتَه والقمرُ رفيقَ ليلِهِ، وكانتْ الحريةُ غذاءَهُ وشرابَهُ.. حاولَ أنْ يجرّ ذاكرتَهُ.. تذكر أيامَ تأميمِ قناةِ السويس حينَ كانَ طفلاً طرياً، وحينَ كانتْ طائراتُ الأعداءِ تقصفُ مصر، تذكر حينَ كانَ زجاجُ منزلهِم مطلياً بالأزرقِ النيليّ، وكانتْ الأيامُ سوداءَ وكانَ خلفَ السوادِ قلوبٌ تتوردُ حينَ كانَ يأتي صوتُهُ: أيّها الأخوةُ المواطنون، إنّ إرادةَ الشعبِ هي من إرادةِ الله.. ويغيبُ الصوتُ، يمد بقايا جناحَيْهِ ليحضنَ الصوتَ ويحتفظَ به نديّاً في الذاكرة، لكنّهُ يرحلُ بعيداً والزمانُ غير ذاك الزمان.
آهِ يا شوارعَ غرناطة المنسِيّة.. يذكرُ المبادئَ التي تعلّمَها في الشارعِ وفي المدرسةِ.. يذكرُ أبجديةَ العروبةِ التي ردّدَها وحفظَها على مقاعدِ الدراسةِ وفي المقاهي الشعبيةِ وسمعها مراتٍ كثيرة من المذياعِ هو يحتسي كوبَ العرقسوس، وكانتْ الشوارعُ رطبةً تندى بالأحلامِ المنسكبة.. تذكر القوميين الأحرارَ وطبيبَ الفقراءِ الذي كانتْ تصحَبُهُ أمه لعيادتِهِ، وكانَ يشعرُ بالفخرِ حينَ يتناهى لسمْعِهِ أنّ هذا الطبيبَ هو أمينُ عام حزب قومي..
تذكر سليمان خاطر، وخالد العكر بمروحيتهِ الصغيرةِ التي فجّرتْ شعلةَ الانتفاضة..
كانتْ الصورُ تتوالى سريعاً وتنأى سريعاً والرجلُ يشيرُ لضيوفهِ أنّ النسرَ بدأ ينكسرُ.. حاولَ للمرة الألف بعد المائة أنْ يفك الحبلَ عن رجْلِهِ، استدعى واستنجدَ بكلّ شهداءِ الأمّةِ ومناضليها ومفكريها.. وكلها كانتْ تنأى بعيداً كما الفضاءُ ينأى، كما الأرضُ تنأى….
حدّق في الليلةِ الأخيرة.. حدّق في بقايا الصورِ التي مرّت بذاكرته، أصبحتْ الذاكرةُ مستباحةً أمام ناظريه.. حدّق.. غابَ عن قهقهاتِ الحضورِ الذين ظنوا به الظنونَ أو مسّه الجنونُ.. حدّق، كانتْ المدنُ العربيةُ ترحلُ عن عروبتها، تخلعُ كلّ تاريخها.. حدّق، كانَ شرخُ الجرحِ يرتفعُ من قلبِهِ باتجاهِ حلقهِ، بياضُ عينيهِ يتقدُ احمراراً، يشتعلُ رويداً رويداً كما الفانوس، عيناهُ تجحظانِ للخارج، يكتمُ غيظَهُ، يكبرُ غيظُهُ عن مساحةِ صدرِهِ، يندفعُ صدرُهُ للخارج، ينتفضُ ريشهُ، يصرخُ صرخةً يحملُها الفضاءُ الرحبُ.. إلى البعيد، يرسلُها لمدنٍ ما تزالُ تقاومُ، يدورُ حولَ نفسِهِ في رقصةٍ هستيريةٍ، يلتفّ الحبلُ حولَ عنقهِ ويدورُ ويدورُ ويدورُ…”
….
هذا بعض ما جاء في القصة. نعم، هناك مدن عربية ما تزال تقاوم، وهي التي تحمل فجرا جديدا لهذه الأمة المكسورة، وقد ينهض يوما النسر من رماده ليرى كل المتخاذلين وقد تهاووا..
قبل عدة شهور، اتصلت بي الدكتورة سمية الشوابكة، وهي أستاذة في مركز اللغات في الجامعة الأردنية لتخبرني بأن بعض الأساتذة في القسم، اختاروا قصتي” النسر في الليلة الأخيرة” لتدرس كمتطلب إجباري لطلبة الجامعة كافة بكل الأقسام والكليات. والحقيقة أنني سعدت بهذا الاختيار وخاصة في هذا الزمن الصعب. وراحت الأيام، ونسيت الموضوع. حتى استلمت بالأمس كتابا صدر عن الجامعة بعنوان” مهارات الاتصال باللغة العربية(100)” من الدكتورة سمية، وفيه قصة” النسر في الليلة الأخيرة”.
سعدت بأن هناك من ما يزال يقرأ، ومن ما تزال العروبة الضائعة تسكن وجدانه، وعن الذين يريدون للأمة أن تنهض من جديد. فشكرا للجنة التأليف: الأستاذ الدكتور محمد القضاة، والدكتور محمد الشريدة، والدكتورة منى محيلان، والدكتورة وفاء قطيشات، والدكتورة سمية الشوابكة.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. أثر هذا النص في كثيرا ، وأثار غضبي وعواطفي وكرامتي كمواطن عربي ، هو نص يستفز تلك الكرامة ومشاعر العروبة الكامنة التي غطت بمشاعر الذل للدرجة التي وصلنا لها ، أصبحنا توابع في معظم الأمور ، يكفي أن اللغة العربية هي ليست اللغة العالمية وإنما هي لغتهم اللغة الانجليزية ، حتى أن المراجع التي ندرس منها التخصصات الطبية هي مراجع أجنبية ، للأسف الشديد .
    كلي أمل أن تعود للعرب أمجادها وكرامتها ومكانتها التي تليق بها .
    كل الاحترام والتقدير … ❤

زر الذهاب إلى الأعلى