شموع ودموع في عيد ميلادك

حين يهل عيد ميلادك من كل عام، تصطف كتائب الوقت الحاضر لتكون في شرف الاستقبال، وتعزف اوركسترا القلوب العروبية لحن الحفاوة والترحيب، وتنهمر الحروف المضيئة والكلمات الوردية من فوهات الاقلام التي ما زالت شريفة، لتكريم هذه المناسبة العزيزة على كل احرار العرب والعالم.

يوم ميلادك، يا ابا خالد، ليس كغيره من الايام، ولا مثل سواه من التواريخ.. فهو يوم مشهود ومعدود تشّرف باستقبال مولود عبقري طار صيته فيما بعد، وصار له شأن عظيم في صناعة التاريخ، ودور كبير في تحرير الشعوب واستنهاض الامم ومصارعة الطغاة والمستعمرين.

في اليوم الخامس عشر من شهر كانون الثاني من عام 1918 ازهر صعيد مصر فاثمر بطلاً مغواراً، وفاض نهر النيل فاخرج مارداً جباراً، وزمجر ابو الهول فاطلق ضيغماً هصوراً، وتحاورت اهرامات الجيزة فانتدبت رسولاً اميناً، وتمخضت قبيلة بني مر فانجبت جمال عبدالناصر.

زعيم له ما قبله من القامات والزعامات، ولكن ليس له ما بعده حتى الآن، فليس في دنيا العرب من سد مكانه، او نال مكانته، او طاول قامته، او استأنف مسيرته، او تجاوز تجربته، او ارتفع الى مستواه، او سار على دربه واهتدى بهديه واقتدى بنهجه وحظي بثلث شعبيته وكاريزميته.

تكبر الدول بقادتها الكبار، وتصغر كثيراً حين يحكمها الصغار ويتولى امرها الازلام والاقزام، وقد كبرت مصر ومعها امة العرب تحت قيادة ”ابو خالد”، وطار صيتها على مستوى العالم باسره، وارتفع قدرها وشأنها بين الامم كافة، واشتد بها ازر الاصدقاء وانقهر منها معسكر الاعداء.. فالكبار يتفاعلون جدلياً مع محاسن شعوبهم وشمائلها ومكارمها، ويقتبسون منها افضل ما لديها ويضيفون لها افضل واجمل ما لديهم، ويمنحونها المجاديف التي تبحر بها صوب التقدم، والاجنحة التي تحلق بها في فضاء العلياء، والطاقات الروحية والمعنوية التي تحفزها على تذليل المصاعب وتسريع المسيرات وتقريب المسافات بين الموجود والمنشود.

لم يكن هذا الرجل ساحراً ولا اسطورياً.. فقط كان صادقاً مع نفسه ومع امته.. كان مؤمناً برسالته واميناً على مسؤوليته.. كان جديراً بثقة امته لانه لا يقول خلاف ما يفعل، ولا يظهر عكس ما يبطن، ولا يفصل بين الاخلاق الشخصية والمبادئ السياسية، ولا يختلف في مأكله ومشربه ومسكنه عن سائر الجماهير الشعبية.

من بين كل زعماء العالم وعظماء التاريخ، رحل جمال عبد الناصر دون ان يترك لورثته مالاً او عقاراً او متجراً او مصنعاً او اي شيء من متاع الدنيا، رغم انه كان يملك ان يورثهم اموالاً طائلة، وقصوراً فاخرة، وطائرات خاصة، وشركات عامرة وعابرة للقارات والمحيطات.. أليست هذه اخلاق الرسل والانبياء ؟؟ أليست هذه شيم الكبار والنبلاء المتحالفين مع الملائكة ؟؟ أليست هذه الشمائل والسجايا والمواصفات جديرة بالاحترام العميق والتثمين العالي والالتفاف الشعبي العربي غير المسبوق – وربما غير الملحوق – حول فارس بني مر ؟؟

لم يكن ”ابو خالد” قائد ثورة وطنية مجيدة فحسب، ولا كان ربان موجة ثورية عارمة فقط، ولا كان رائد تجربة قومية وحدوية جريئة وكفى.. بل كان ايضاً واضع علم الاخلاق السياسي، وصاحب قاموس العدل والمساواة وتذويب الفوارق الطبقية، ومؤلف دليل الحكام الى الشرف والتقشف والنزاهة والامانة وطهارة اليد والفرج والضمير.

ليست الناصرية اطروحة عقائدية او مسيرة سياسية او حالة ثورية فقط لا غير، وانما هي منظومة فكرية وسياسية واخلاقية وثقافية واقتصادية وسيكولوجية شاملة ومتكاملة، ولولا ذلك لما استطاعت ان تشكل رافعة عملاقة ارتقت بالشعب العربي كله الى مستويات عالية، واضاءت عقله وفولذت عزمه بوهج المبادئ والقيم الوطنية والقومية والتقدمية، وابتعدت به عن النعرات الطائفية والاقليمية والمذهبية والقبلية البغيضة، واتاحت له اوسع حركة حداثية في الفكر والفن والادب والاصلاح الديني، وتغلبت معه على كل الطروحات المنافسة او المناهضة بمختلف تلاوينها اليمينية واليسارية على حد سواء.

بين يدي البيئة الناصرية النظيفة، والدولة المدنية والتنموية الناهضة، والنهج الطلائعي المتمثل في اشاعة الحق والعدل الاجتماعي والتعليم المجاني وتكافؤ الفرص، ازدهر المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية المقاربة، وانتشرت قيم التمدن والتهذيب والتعاون والاخاء والسلم الاهلي، فيما تضاءلت معدلات الامية والبطالة والفظاظة والمسالك البهيمية.. ولكن ما ان توارت شمس الناصرية التي عمد الجاسوس انور السادات الى اطفائها، وانطلقت آليات الردة والانقلاب والانتقام للعمل باقصى سرعتها وطاقتها، وانفسح المجال واسعاً امام اجلاف النفط الصحراوي لترويج النفايات الرجعية والسخافات الوهابية، حتى غاب العقل العربي وغامت الرؤى واختلت المعايير واتسخت الاجواء وخرجت من جحورها المعتمة اسراب الذئاب ووحوش المذابح الداعشية.

اين كانت الرجعية الوهابية ايام مجد الناصرية ؟؟ اين كانت جماعات الاخوان وعصابات القاعدة والنصرة والدواعش في زمن عبدالناصر ؟؟ اين كان المتأمركون والمتصهينون والنفطويون والمفرطون بترابهم الوطني حين كانت القاهرة عريناً لثوار 32 يوليو ؟؟ بل اين كانت مراجل قطر وتركيا واثيوبيا عندما نهض السد – او المارد – العالي لاحتضان امواه النيل الخالد، دون ان تعيقه ”حبشة” او تنعق عليه ”جزيرة” ؟؟

وكما تميزت الناصرية بسمو تعاليمها واقانيمها وادبياتها وامثولاتها غير القابلة للتهاون والتنازل والتفريط، فقد تميزت ايضاً بحجم محظوراتها ومحرماتها التي لا يجوز اقترافها او مجرد الاقتراب منها، واهمها العمالة والتبعية والتحطيب في حبال المستعمرين، والاستقواء او الاحتماء بهم، والاذعان لتدخلاتهم في صميم البيت العربي.. فقد كان عبدالناصر احد ابرز قادة دول عدم الانحياز، واشد الناس حرصاً على السيادة والكرامة والاستقلال التام، وبما اضطره الى مصارعة الشرق السوفياتي مرة والغرب الامبريالي مرات عديدة، دفاعاً عن هذه المعاني والعناوين الكبريائية السامقة.

آه – يا ابا خالد – ما اصعب هذا الزمان العربي البائس على الاجيال التي عاصرتك.. نصرتها فناصرتك، واحببتها فعشقتك، وتعلقت بها واخلصت لها فتعلقت بك واخلصت لك وسارت بعشرات الملايين في ركابك ووفق برامجك ومناهجك ورؤاك، طوعاً لا كرهاً، واعجاباً وانجذاباً لا خوفاً ورعباً.. وكم اصاب الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل كبد الحقيقة حين قال، ان عبد الناصر لم يكن دكتاتوراً، لانه لم يكن بحاجة للدكتاتورية.

آه – يا ابا خالد – ما امر واقسى ان نشب معك ونشيب مع داعش.. نتتلمذ على يديك ونشيخ على افكار ”ابو متعب”.. نشهد زمان الشموخ العربي ونعيش هوان التسلط الصهيوني.. نتهلل فرحاً بقيام دولة الوحدة المصرية – السورية، ونموت كمداً والماً على تفكك وتشرذم معظم الاقطار العربية.. نبدأ العمر متفائلين بالغد ومستبشرين بالمستقبل وواثقين من النصر، ثم نختمه على وقع الهزائم والمآسي والانهيارات والتكفيريات والحروب الاهلية.

نعم، لقد اصبحنا غرباء في بلادنا.. غرباء عن هذا الزمن الذي يدور دولابه حول نفسه، وتتساقط ايامه تباعاً من رزنامة الدهر، وتلهث عقارب ساعاته خلف قافلة النفط، ويتناوب ليله ونهاره على حراسة العملاء والدخلاء والجهلاء والسفهاء والقطعان الارهابية والوهابية.

لقد اثقلنا عليك يا ابا خالد، واطفأنا شموع عيد ميلادك بالدموع والآهات المكلومة.. ولكن هذا هو حالنا وحال امتك الثكلى وحال شعبك العربي الذي كان ناهضاً ومكرماً ومنعماً ومرغداً، قبل ان تلحقه محنة امه ”هاجر” فيغدو نازحاً ومشرداً تغص به المنافي، وتضيق باطفاله المخيمات، وتتولى امره هيئات الاغاثة الدولية وجمعيات الرفق بالمنكوبين والمكروبين.. ولقد حق علينا ان نضعك في صورة واقعنا التعيس، اذ ليس من الامانة ان نكتب عنك دون ان نكتب اليك.. ان نبتهج بيوم مولدك دون ان نأسى لحشرجات امتك.. ان نترحم على عز ايامك دون ان نعاتبك على رحيلك المبكر والمباغت الذي قلب الدنيا العربية رأساً على عقب، واتاح للاقزام ان يتسلموا زمام الامور ويجلسوا في مقاعد القادة العظام.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى