ثورة يوليو: إفتراءات تكشفها حقائق

 

لا تزال ثورة ٢٣ يوليو المجيده تحتل مكانتها كأهم حدث أثر إيجابياً على مصر في العصر الحديث. بل أن تأثير الثورة امتد خارج حدود مصر ليشمل العالم العربي والدول النامية عموماً. لاقت الثورة ترحيباً شعبياً جارفاً من أول يوم لكنها أيضاً ، وشيئاً فشيئاً،إستقطبت الكثير من الأعداء مثل إسرائيل، بريطانيا، فرنسا، أميركا، الإخوان ، الإقطاع ودول الرجعية العربية. والغريب أن أولئك الأعداء لا يزالون هم أنفسهم أعداء الثورة إلى هذا اليوم. حاول أولئك الأعداء مراراً، وبأساليب عديدة، القضاء على الثورة وقائدها جمال عبدالناصر حتى تدبير حرب ١٩٦٧ ثم الوفاة المبكرة لقائدها سنة ١٩٧٠. لكن الثورة ترفض أن تهنتهي فها هي مبادئها باقية ولا يزال لقائدها، رغم غيابه، حضوريتفوق على حضور أكثر الحكام العرب الحاليين.

وطبعاً كان من المتوقع أن ينهال أعداء الثورة عليها بحملات التضليل واختراع الأكاذيب، أتعرض هنا لبعض منها:

ثورة أم إنقلاب: لو قُدّر لنا في صباح يوم ٢٣ يوليو وصف ما وقع في الليلة السابقة فلا نستطيع تسميتها بثورة ولا حتى إنقلاب. ربما الأصح أنها كانت ”حركة“ داخل الجيش، وهو الوصف الذي أطلقته عليها بعض الصحف في ذلك الوقت. كان هَمُّ جمال عبد الناصر ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ هو السيطرة على الجيش بإعتباره العصا الذي بيد الملك، والذي يتحكم به بالشعب، ومن ثم التأثير لإجراء الإصلاحات السته ( الاستقلال، جيش قوي، القضاء على الاقطاع، العدالة الاجتماعيه، التصنيع، الديمقراطية ) التي إتفق مع زملائه عليها. لم يكن في بال جمال عبدالناصر أن الأمور ستنتهي به لإلغاء الملكية وأن يصبح هو رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية. كان عبدالناصر يتفاعل مع الأحداث التي فرضت نفسها بسرعة حتى أنه لم يبق قائماً من النظام البائد، ولا من التركيبة الإجتماعية القديمة، حجر على حجر.

نعم، ما كانت بدايته ”حركة جيش“ ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ أنتج ثورة شاملة كبرى كان لها أصداء مدوية في فلسطين والجزائر والعراق وسائر العالم العربي، بل والعالم أجمع. ومن الجدير بالذكر أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كان هو أول من وصفها بالثورة في مقالة مشهورة نشرها في مجلة ”التحرير“ في أول شهر ديسمبر ١٩٥٢، وكان وصفه صادقاً جداً. وقد عاتب عميد الأدب العربي الضباط الأحرار لأنهم كانوا يصفون ما وقع في شهر يوليو ”بحركة“ وأوضح بشكل مفصل أنها كانت ثورة بكل ما في الكلمة من معنى. ونستطيع الآن أن نضيف أن ثورة يوليو كانت هي الثورة المصرية الوحيدة التي حققت نجاحاً، فلم تحقق مظاهرات الربيع العربي أو ١٩١٩ أي نجاح يذكر.

دور محمد نجيب: لم يكن اللواء محمد نجيب من الضباط الأحرار ولم يشارك في التخطيط للثورة ولا في تنفيذها، وقد إختاره جمال عبدالناصر ورفاقه ليكون واجهة قيادية مقبوله شعبياً لمجموعته من الضباط الشباب ”الأحرار“. ومع أن اللواء نجيب وافق على دوره إلا أنه شيئاً فشيئاً بدأ يحس بعدم الارتياح في منصبه الإسمي ويحس أنه جسم غريب بين الضباط الاحرار ويخشى من نفوذهم و قوتهم. وفي محاولة لتأمين مركزه طلب من الضباط الشباب أن يعودوا إلى ثكناتهم ويتركوا الحكم للأحزاب والسياسيين المحترفين. ومع أن ذلك الطلب كان في ظاهره معقولاً إلا أنه في حقيقته كان يعني أن تعود الأمور إلى ماكانت عليه قبل الثورة مع فارق واحد وهو تغيير الملك. كان طبيعياً أن يثير ذلك الإقتراح حفيظة الضباط الأحرار بما فيهم جمال عبدالناصر لأنه كان يعني التخلي عن المبادىء السته التي إتفقوا على تطبيقها والتي لم تكن في برنامج أي حزب من الأحزاب، أي ”كأنك يا زيد ما غزيت“. رُفض إقتراح نجيب لكنه أظهر أن صاحبه لم يكن في حقيقته مؤمناً أو مهتماً في مبادىء الثورة.

للأسف أن دور محمد نجيب كان محدوداً لأنه كان وافداً على الثورة وغير متشرب لمبادئها كما كان حال الضباط الشباب. ومع ذلك فلا يمكن بحال من الأحوال إنكار أن دوره كان مشرفاً في بدايته رغم أنه لطخه بيديه فيما بعد عندما تورط مع الإخوان سنة ١٩٥٤ ثم مع قوى العدوان الثلاثى سنة ١٩٥٦ على أمل أن تعيده بريطانيا إلى كرسي الرئاسة في حالة سقوط حكومة الثورة. بل أنه أساء لنفسه أكثر فيما بعد حين إنهمك في كتابة مذكراته بهدف الإساءة للثورة فإذا به يناقض نفسه بشكل واضح ومخزي.

الحقيقة التي لا تقبل الشك أنه حتى عندما كان اللواء نجيب يتربع على كرسي الرئاسة كانت كل الخيوط بيد العقل المدبر للثورة وهو جمال عبدالناصر. ولا بد من ملاحظة أن محمد نجيب لم يكن رئيساً منتخباً ولكن جيء به عن طريق التعيين ــ التعيين من عبدالناصر ورفاقه. فليس من التجني أن نقول أن جمال عبدالناصر، كقائد للضباط الأحرار، كان معه الحق بتعيين محمد نجيب كرئيس للجمهورية، وأيضاً كان معه الحق بعزلة بعد أن ظهرت دلائل أنه لم يكن مخلصاً للثورة.

مصر الملكية كانت من أثرى دول العالم: طبعاً كان من المستحيل ظهور مثل هذا الإدعاء السخيف في حقبة الخمسينات من القرن الماضي لأن الجيل الذي عاش في الخمسينات كان هو نفسه الجيل الذي عاش في العصر الملكي ويعرف تماماً كيف كانت حقيقة الأوضاع. لكن أصبح ممكناً تسويق هذا الإفتراء في الثمانينات أو بعدها. وجود بضعة آلاف من رجال الإقطاع و الأثرياء الذين كانوا يعشون ببذخ في القصور الفارهة لا يعني أن كل ملايين الشعب كانت تعيش في القصور. الحقيقة المُرّة أن الملايين من بسطاء المصريين كانوا يعيشون في فقر مدقع وظروف مهينه لا تليق ببشر.

أما عن الإدعاء بأن مصر بلغت من الثراء إلى درجة أن بريطانيا كانت مديونة لها فهو أيضاً مدعاة للسخرية. كما هو معروف فإن جيوش بريطانيا إستعملت الأراضي والخدمات المصرية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لهذا كانت تدفع للحكومة المصرية مبالغ مقابل تلك الخدمات.

تأميم القناة كان تهوراً بإعتبارها كانت ستعود لمصر بعد ١٢ سنة: حسب الإتفاقيات كان يفترض أن تعود قناة السويس لمصر سنة ١٩٦٨، لكن هل كان ذلك شيئاً مؤكداً؟ لننظر إلى الموضوع من ناحية أخرى ونسأل: ما الذي دفع بريطانيا وفرنسا للقيام بعدوانهم السافر على مصر إذا كانت القناة ستصبح مصريه بعد فترة قصيرة؟ فما الذي دفع إيدن، رئيس وزراء بريطانيا، إلى الإصرار والمغامره بدخول الحرب رغم المعارضة القوية. لو كان إيدن، وهو السياسي المخضرم، ينوي التخلي عن القناة بعد بضعة سنين لما قام بمغامرته التي قضت على مستقبله السياسي تماماً وكذلك قضت على إمبراطورية بلاده. أغلب الظن أنه لم يكن في نية بريطانيا وفرنسا تسليم القناة لمصر بالبساطة والموعد الذي تخيله البعض.

ولنا في قصة هونج كونج عبرة. إقتطعت بريطانيا هونج كونج من الصين بإتفاقية نصّت على أن تعود للصين سنة ١٩٩٧. ولكن بعد المظاهرات الطلابيه في ميدان تيانامين في الثمانينات من القرن الماضي خرجت الأصوات في البرلمان البريطاني تنادي بعدم تسليم هونج كونج للحكومه الصينيه بسبب إنتهاكاتها لحقوق الإنسان، ودار جدل كبير حول هذا الموضوع إنتهى بأن تحترم بريطانيا الإتفاقيه وتتخلى عن هونج كونج في الموعد المحدد. فإذا كانت بريطانيا تتردد في الإلتزام بإتفاقيتها مع الصين وهي دولة نووية عظمى، فما بلك وهي تتعامل مع مصر؟

ومضت السنون والأحداث لتثبت لنا أن مصر كانت محظوظة لأنها حصلت على القناة مبكراً. فلو إنتظر المصريون حتى سنة ١٩٦٨ لما كان تم بناء السد العالي إطلاقاً. فالنكسة وما تبعها من أعباء مالية بسبب إعادة بناء الجيش وإقفال القناة أمام الملاحة كانت كلها ظروف لا تسمح بالتفكير في بناء السد وبالتالي تعرقل الثورة الصناعية التي إنطلقت في الخمسينات. ثم لا ننسى أن عزيمة عبدالناصر وتفانيه وإصراره كانت هي القوه الدافعة الأساسية وراء مشروع السد العالي وكان غيابه المفاجئ سنة ١٩٧٠ سيعيد المشروع (بتكاليفه التي تكون قد أصبحت خياليه) إلى ما كان عليه منذ سنة ١٩٢٣ ــ. ليبقى حبراً على ورق في ملفات الوزارات المتعاقبة.

مصر خسرت حرب ١٩٥٦: يروج أعداء عبدالناصر بأنه خسر كل المعارك التي دخلها بما في ذلك معركة السويس. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن معركة السويس كانت من إجل الإحتفاظ بقناة السويس، وذلك ما نجح به عبدالناصر وفشل الآخرون. إنتصار السويس ليس موضع شك، ولم يكن موضع شك في أي وقت من الأوقات. أما كون أن الجيش المصري لم يكن نداً لجيش بريطانيا العظمى (ومعها فرنسا) فذلك شىء خارج الموضوع. فما كان في إعتقاد أحد، ولا عبد الناصر نفسه، أن يتمكن الجيش المصري من الحاق الهزيمة بجيوش تلك القوى النووية الكبرى. معركة السويس كانت معركة سياسيه أولاً وأخيراً و إنتصر فيها عبد الناصر إنتصاراً ساحقاً. بل أن جمال عبدالناصر تمكن من المحافظة على الجيش المصري بسحبه إلى غرب القناة وتحويل الحرب إلى حرب شعبية أبلى فيها الشعب المصري بلاء عظيماً. كانت معركة السويس فرصة للشعب المصري كي يكتب أنصع الصفحات من تاريخه المجيد. ثم أن بريطانيا وفرنسا تعترفان أنهما منيتا في معركة السويس بهزيمة منكرة نتج عنها انتهاء إمبراطورياتهما.

وكذلك يزعمون أنه خسر في حرب اليمن، ولا أدري على أي أساس يبنون هذا الزعم. لقد تدخل الجيش المصري لدعم النظام الجمهوري في اليمن ضد النظام الملكي الذي كان يتلقى دعماً من دول الرجعية العربية وبريطانيا وإسرائيل. وقد إنتصر النظام الجمهوري ولا تزال اليمن جمهورية إلى هذا اليوم، فأين الهزيمة المزعومة؟ ومن الغرابة أنهم ينتقدون عبدالناصر ويقولون أنه تدخل في اليمن ولا ينتقدون السعودية والرجعية العربية التي كانت أول من تدخل في اليمن بل و إستدعت المساعدات البريطانية والإسرائيلية.

كتاب لعبة الأمم: من بين عشرات الآلاف من الكتب والمقالات التي نُشرت عن ثورة ٢٣ يوليو وقائدها، لا يزال هذا الكتاب هو ”المرجع“ الأهم الذي يلتزم به أعداء الثورة. كتاب لعبة الأمم لمؤلفه مايلز كوبلاند طبع على نفقة السعودية و بعلم المخابرات المركزية ولهدف محدد هو محاولة الإساءة لجمال عبدالناصر عن طريق الزعم أنه كانت له إتصالات مع أميركا. ورغم أهمية الكتاب عند الكثير من العرب إلا أنه ليست له أي قيمة إستثنائية في أمريكا أو الغرب.

وقد نشر محمد حسنين هيكل في ”سنوات الغليان“ بعض الوثائق والمراسلات التي تكشف حقيقة مايلز كوبلاند ومحاولاته للنصب والإحتيال. والأهم من ذلك أنه مع مضي السنين، تراكم الكثير من الدلائل التي تدين مزاعم الكناب. فالوثائق المفرج عنها من وزارة الخارجية الأميركية وكذلك الوثائق المفرج عنها من المخابرات المركزية الأمريكية ( كما جاء في كتاب ”إرث من الرمال“ ) كلها تكذب الإدعاءات التي جاءت في كتاب لعبة الأمم وتؤكد أن أميركا بكل دوائرها فوجئت بثورة يوليو.

لكننا الآن وبعد نحو سبعين عاماً من ٢٣ يوليو، أصبحنا في وضع يمكننا من الحكم على تلك الفترة من التاريخ بمجرد النظر إلى الماضي. مجرد تساؤلات بسيطة و منطقية يمكن لها أن توضح الأحداث. فما الذي كسبته أميركا من عبدالناصر غير الصداع والمشاكل التي لا نهاية لها؟ وإذا كان عبدالناصر عميلاً لأميركا فكيف نفسر ثقة الإتحاد السوفياتي به، وكذلك الصين، إلى درجة إمداده بأسلحة متقدمة جداً مثل أجهزة الدفاع الجوي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى