طروحات سياسية مُقْتَرَحَة لحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ
1▪ مثلَ أيّة نظريّة يتبنّاها ”حزب ثوريّ” كحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ، فإنهّا يجري اختبارها في الأحداث المتوالية و تَعاقُبِ مجريات التّطوّر الاجتماعيّ و الثّقافيّ و السّياسيّ ، بما في ذلك ”تطوّر” و ”تنوّع” مشارب و دوافع الدّاخلين في أفواج ”الحزب” ، و لغايات يمكننا أن نقدّر تنوّعها و تعدّدها و اختلافاتها و تناقضاتها أيضاً .
2▪ حزب البعث بطبيعته و برنامجه السّياسيّ المعلن ، هو حزب اجتماعيّ و جماهيريّ ؛ و يفسّر هذا الأمر واقع ”التّنوّع” الغزير في صفوفه ، بما في ذلك اختلاف البيئات الاجتماعيّة المصدّرة لأعضائه و كوادره ، الذين أصبح جزءٌ هامّ و كبير منهم ”قادة” اجتماعيين و سياسيين و حكّاماً و إداريين فاعلين ، في مختلف مؤسّسات الدّولة السّياسيّة و التّنظيريّة و التّخطيطيّة و التّنظيميّة و الرّقابيّة و الإدارّية و الخِدميّة ، وما إلى ذلك من مفاصل هامّة و حسّاسة و قياديّة و سياديّة في تلك المؤسّسات ..
و هذا ما انعكس عمليّاً في الأساليب و الممارسات الصّادرة عن هؤلاء الأشخاص ، و الذين شكّلوا و يشكّلون نسبةً لا بأس بها من القيادات مختلفة المستويات التي صار أمر ”الحكم” إليها ..
و هذا بطبيعة الأمور من حيث أنّ ”الدّولة” كعنصر سياسيّ من عناصر ”الدّولة” النّظريّة ، تتشكّل من الطّبقة السّياسيّة الحاكمة عبر أعضائها و بواسطتهم ، كأصحاب قرارات ، لا تبقى محصورة في المستوى الخاصّ أو الشّخصيّ ، و إنّما لا بدّ أن تنعكس نتائجها في التّطبيق و التّنفيذ و الممارسة و الأداء ، على جميع أفراد الشّعب ، بوصفه واحدها قراراً متعلّقاً بالشّأن العامّ و المرفق العامّ .
3▪ نقل معهم عددٌ من السياسيين على مستوى الدّولة ، مخزونهم الثّقافيّ الخاصّ و الذي غالباً ما كان من المحدوديّة إلى الدّرجة التي اصطبغ فيها العمل السّياسيّ لأولئك ”القادة” السّياسيين بالثّقافات الفرديّة و الجماعيّة الوافدين منها ، بحيث تداخلت الثّقافة ”الاجتماعيّة” متناقضة الأنساق و الخلفيّات الواقعيّة بالثّقافة السّياسيّة ”الحزبيّة” ..
إلى الدّرجة التي تفوّق فيها الدّافع الشّخصيّ و الخاصّ بما يُمثّله من خلفيات ، إلى أن حصل ”التّحوّل” المتوقّع ”نظريّاً” – في الفكر السّياسيّ – فتحوّل العمل السّياسيّ نفسه إلى مجموعة من المشاريع العصبويّة و الفرديّة و الشّخصيّة و الخاصّة ، وفق القانون السّياسيّ النّظريّ الشّهير المتضمّن غلبة و تفوّق ”الاجتماعيّ” ( و ما قبل الاجتماعّي ) على ”السّياسيّ” .
4▪ في هذا ”المشهد” كان من الطّبيعيّ ، في المواكبة الفكريّة النّظريّة المستقلّة ، ذات الهوامش الأكبر في النّقد ، أن تلاحظ ”النّظريّة النّقديّة” الموسوعيّة ، أنّ أسباب تلك التّداخلات و الاختلاطات ، تكمن – علاوة على واقع ما تقدّم – في التّراجع النّسبيّ للنّظريّة الثّقافيّة السّياسيّة الحزبيّة البعثيّة في عمليّة ”ديناميكيّة” للثّقافة ”الاجتماعيّة” ، التي خالطت ”النّظريّة” البعثيّة في العمل و التّنظير المشوّه و الأداء المدعّم بشعبيّة رجعيّة و مساومة و انتهازيّة ، في مقابل ”ميكانيكيّة” نظريّة بعثيّة لم تستطع – ناهيكَ عن أنّها لم تعمل .. – مواكبة هذا الانفجار الاجتماعيّ الغزير في صفوف الحزب و الدّولة و ”السّياسات” الوطنيّة ..
و هو الأمر الذي أدى إلى انتكاسات ثقافيّة نظريّة سياسيّة لفكر ”الحزب” ، مقابل انتعاش حتميّ و طبيعيّ للسّلطات الجمعيّة و الجماعيّة و العصبويّة و الفرديّة ، التي من طبيعتها الرّجعيّة أن تساوم مساوماتها التّاريخيّة المحسوبة ، للاستيلاء على مراكز ”القرار” السّياسيّ و مفاصل الدّولة و الحكم الأكثر استراتيجيّةً و أهمّيّةً ، تبعاً للاستراتيجيّات الاجتماعيّة التي تمثّلها في ”السّياسيّ” ..
فكان من الطّبيعيّ أن تنتكس النّظريّة الحزبيّة البعثيّة انتكاساتٍ متواليةً أهمّها و أشهرها انتكاستان تاريخيّتان ..
الأولى ، هي مراوحتها في اختناقات فكريّة لم يتجشّم الفكر السّياسيّ عناء التّصدّي لها ، بالفكر و المحافظة على مفاصل التّأثير و القوى الأساسيّة للدّولة و المجتمع بوصفه كُلّاً ”نظريّاً” ، على الأقلّ !..
و الثّانيّة ، و هي الأخطر و التي تظّهرت في مساومات سياسيّة تاريخيّة لجأت إليها ”الدّولة” – تلك المرّة – لِ ظَنِّها أنّها تدرأ الانفصاليّة الانعزاليّة عن المجتمع و الدّولة ، و تُجنّب ”الواقع” احتراباتٍ لا ضرورة لها ، حتّى أثبت التّاريخ عدم قدرة تلك المساومات ، على تحقيق الهدف المنشود منها .
5▪ من جانب آخر لم يكن من المعقول نظريّاً أن تُكتب لحزب البعث تلك ا ”المنطلقات النّظريّة” في أدبيّات ”البعث” ، و التي كتبت لمرّة واحدة ، منذ أكثر من نصف قرن ، و حُنّطت ، و حتّى هذه الّلحظة ، ناهيك عن أنّ أشهر كتابها أشخاص هم شخصيّات انعزاليّة و انفصاليّة و عنصريّة ، كان من أهمّهم ( ياسين الحافظ )(!) ..
في الوقت الذي أوكلت فيه مهمّة متابعة كتابات تلك النّظريّات ، فيما بعد ، ل شخصٍ مثّل في هذه الحرب أحد أقطاب التّحريض لإشعال حرب أهليّة طّائفيّة ، و بكل صراحة و وضوح العبارات ، و هو ”ما” يُدعى ( طيّب تيزيني) !
6▪ إنّ مواكبة ”النّظريّة” السّياسيّة للبعث ، للمستجدات المحلية والإقليمية والدولية ، كانت بعيدةً عن فكر الدّولة بُعْدَ السّماء عن الأرض ، و هذا لم يحصل في تاريخ الأحزاب الثّوريّة العالميّة إلّا مع الحزب الشّيوعيّ السوفييتيّ و الذي شهدنا له ذلك الانهيار المأساويّ و تلك النّهاية التّراجيديّة المذهلة و المُفجعة .
لقد كان ممكناً أن يُحايث تطوّرات و طموحات القوى و البنى الاجتماعيّ ، تطوّرات مماثلة ، على الأقلّ ، إن لم نقل سبّاقة في النّظريّة السّياسية النّقديّة البعثيّة، في إطار حازم و حاسم ، و الذي لكان – بالتّأكيد – قد جنّب سورية الكثير ممّا قد حصل لها و فيها من ويلات و دمارات و قتل و إرهاب .
7▪ من الطّبيعيّ أنّ أكثر الأفكار عبقريّةً في التّاريخ ، سوف يأتي عليها اليوم الذي تٌصبح فيها بسيطةً و عاديّة و ربّما سخيفة أيضاً .. هذا حكم التّاريخ بما هو حاكمٌ مطلق ..
و ينطبق هذا الأمر على النّظريّات السّياسيّة انطباقَهُ على النّظريّات العلميّة بما هما ، معاً ، يُعتبران في وقت من الأوقات فتوحاتِ و كشوفات أمام طموحات الإنسانيّة الدّائبة .
و من الطّبيعيّ أنّ أقوى الأفكار و النّظريّات ، و مهما كانت منطلقاتها و مسوّغاتها ، في وقتها تعتبر لازمةً و كافية ، إنّما تحتاج بطبيعتها إلى التّطوير و التّجديد الّلذين يفرض ضرورتيهما واقعُ المتغيّرات الظّرفيّة المحلّيّة و الدّوليّة و العالميّة .
8▪ غير أنّه من السّذاجة أن نطالب حزباً أن يطرح برنامجاً سياسيّاً جديداً ، بما يحمله هذا الأمر من جحود سياسيّ تاريخيّ للجسر الذي كانه ”الحزب” ، و الذي جعلنا واقفين كما أكثر الشّعوب بطولةً في التّاريخ على قدمين أو أقدام سياسيّة ، أثبتت مسوغاتها التّاريخيّة النّافدة ..
و إنّما أكثر ما نحتاجه اليوم و يحتاجه ”البعث” هو أن يخضع إلى تحديث جريء في ”منطلقاته النّظريّة” المعاصرة بما تمليه عليه ظروف الواقع الوطنيّ و البيئة العالميّة التي تسنّ فروضها الموضوعيّة و غير القابلة للتّحدّي أو النّقاش .
وقد تـراجَعَت إلى الخلف، ما كانت تسمّى بالخصوصيّات الوطنيّة أو القوميّة المانعة ..
و لقد برزت اليوم شروطٌ مختلفة للخصوصيّات السّياسيّة المحلّيّة المميّزة للشّعوب ، و هي ما يمكن أن نلخّصه بإعادة اكتشاف الهويّة الثّقافيّة و السّيايسيّة الوطنيّة ، التي لا تتعارض أو تنتقص من ”الآخر” بوصف هذا الآخر أحد أهم شروط وجود الذّات الوطنيّة .
9▪ كان في تاريخنا المعاصر أهمّ ما ميّزنا عن شعوب كثيرة ، تمييزاً انتقاصيّاً و سلبيّاً ، أمْرُ فُقْدانِنا مشروعَ هويّتنا الوطنيّة السّياسيّة ، التي تركت فيها الثّقافات ” المتفلتة ” تناقضاتها ، التي نغّصت عليها الحضور و الوجود معاً ، بدعاوى الخصوصيّات البيئيّة و الجماعيّة و الجغرافيّة و الدّينيّة و الطّائفيّة.. إلخ ..
و قد حان ، بعدما خضنا أعتى الاختبارات القاسية ، ثقافيّاً و اجتماعيّاً و سياسيّاً ، الوقتُ الذي ندعو فيه أنفسنا إلى اتفاقٍ تاريخيّ على هويّة سياسيّة واحدة و مندمجة للدّولة و المجتمع ، في إطار مشروع دولة سياسيّ ، يحتاج إلى نظريّة سياسيّة نقديّة معمّقة تدفع بنا ، مجتمعاً و دولةً ، إلى مصافّ الآخرين ..
وعلينا أن نعترف أوّلاً ، أنّه سَبَقَنا ، كثيراً ، أولئك الآخرون .
10▪ و في سياق النّقد الذّاتي النّظريّ علينا أن نجتث روح الفساد ، بتجفيف منابعه المفهومة و المعروفة ، ذلك لأنّ مشروعاً اعتباطيّاً انتقاميّاً لمحاربة الفساد – كما يتوهّم بعضهم – ، هو ضرب من الخيالات الواهمة التي لا تربطها بالسّياسة الرّوابط ..
و في إطار تجفيف منابع و ”مُخَلِّقات” الفساد ، يحتاج الأمر إلى نظرة موضوعيّة ل إمكانيّة تحديد الحدّ الممكن و الواقعيّ ، الذي يجعل للنّظريّة النّقديّة السّياسيّة للحزب ، معناها و مكمّلاتها الشّرطيّة ..
ذلك أنّ جمهور التّغيير الذي ستنجبه النّظريّة النّقديّة ، لا بد أن يكون من الأكفاء الذين سيؤسّسون لمرحلة مقبلة سياسيّة في سورية ، عنوانها الخروج من ”المتاهات” الفكرية المعاصرة ، التي دخلت فيها الدّولة و المجتمع في وقتٍ واحد .
ليس لسورية المستقبل المنشود ، لا مع ”البعث” و لا مع غير ”البعث” ، إن لم ننطلق من هذه الرّؤية التي قد يأخذ علينا البعض فيها تفاؤلنا ، و لكنّ على الشّعوب الحيّة أن تبقى متفائلةً في أقسى و أعتى الامتحانات التّاريخيّة التي تعترضها في مسيرة الأقدار .