أي غربة هذه.. و”المجد” ترحل..

” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل” قرآن كريم،”من لم يكن لديه سيف فليبع رداءه لشرائه” السيد المسيح، ” ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” عبد الناصر. بهذه العناوين تفتتح ” المجد” صفحاتها.

كنت سأكتب للمجد يا صديقي فهد الريماوي عن الذين ارتحلوا عن أوطانهم وسكنتهم الأوطان في غربتهم، عن الذين حلّ الوجع في أرواحهم، فلاذوا بالكلمة تذرف أحزانهم والذين امتلؤوا بالعروبة فغمرت  حروفهم، ليحملوا همّها في زمن الخيانات العظمى، وعن الذين.. وعن الذين..

عن الشاعر حميد سعيد..

في كتابه الجميل”أولئك أصحابي”، يحاول حميد سعيد أن يكاتب الكولونيل الذي لا أحد يكاتبه مستلهما شخصية الكولونيل في رواية غابرييل ماركيز” لا أحد يكتب للكولونيل”، يقول:

في الطريق المعمّدِ.. بالشك والخوفِ..

ودّعتهُ..

وتخيّلتهُ.. أن يعيش طويلا..

سأسأله ذات يوم.. إذا ما كتبت إليه..

عن الحرب بين الأشقاءْ!

هل كان يمكنه أن يفرّقَ بين الدماءْ؟!

ولماذا يموت فقيرا.. ويسخرُ من فقره الأغنياءْ

وكتبت إليهْ..

ها أنا أستعيدك بعد سنينْ

وما زلتَ توقظ أسئلتي..

وأشكُّ بكل الذي قيل عنكَ..

أشكُّ بما قلتُهُ عنكَ.. ثم أشكُّ بأسئلتي

***

وعن الشاعر هادي دانيال

وفي ديوانه الأخير الجميل “معراج إلى دمشق” يكتب هادي دانيال، الذي هاجر من بلده سورية ليلتحق بالثورة الفلسطينية، وينتهي به المطاف في تونس لأكثر من ثلاثين عاما، لكن الحنين هو الحنين لسورية التي سكنته، كما سكنت بغداد حميد سعيد..

يقول في قصيدته “معراج إلى دمشق”:

تسأل الشامُ: ماذا تريدُ من الشامِ

قلتُ: الذي يتبقّى

كي أكحّلَ عينيكِ

حتى ببعضِ رُفاتِ خسائرنا

ربما تبعثينَ الزمانَ بنظرة عينيكِ

إن مات رعباً من الموتِ وهو على شُرُفاتِ الحياةِ

يراقصنا..

وماذا يريدُ فتىً زاهدٌ

من شذا الليلكِ؟

قلتُ:أن أتمشى يرافقني عطرُ تاريخكِ الأزليّ..

لكن أبا المظفر لم يدعني أكمل المقالة، فقد باغتني عبر الهاتف بقراره الصعب إغلاق جريدة المجد العزيزة بعد أن فقدت الأمل في الاستمرار، وربما تعب أبو المظفر عبر السنين الطويلة من الذين حاربوا” المجد” التي أغلقت أكثر من مرة، وسجن رئيس تحريرها، وكانت تصدر أسبوعيا ثم كل أسبوعين ثم ثلاثة..

يا أبا المظفر..

الغربة موحشة. البيت الذي ألفته تماهى مع السحاب. الصوت الذي كان مبعثا لكل الجمال قد لفّه الغياب. الخيمة التي كنت تجد في حيطانها كل الدفء والانتظار.. أسبوع.. اسبوعين.. قد رحلت مع أصحابها وتطايرت مع كل ما يتطاير. وها هي جريدة المجد الغالية تغلق أبوابها وشبابيكها.. فنقف على أرصفتها يتامى بعد أن آوتنا في دفء حضنها.. لبرهة اثنين وعشرين عاما، نعبر الطريق الوعر معا.. والآن تنهشنا وحشة الغربة معا.

لم يعد ” للمجد ” متسع في هذا العالم المدمَّر. لم يعد لها من مكان بعد أن تخلى الداعمون عنها بحجة أنها “نشاز” في زمن(الكل يقبض)، وفي عالم تبخرت فيه القيم النبيلة التي كانت ” المجد ” تمثلها. لقد وقف العروبي المناضل فهد الريماوي في وجه كل التحديات والصعاب، مع المقاومة العربية، مع قضية الأمة المركزية فلسطين، ومع العراق العروبي الوطني، ومع مصر العروبة، مصر عبد الناصر، ومع سورية “قلب العروبة النابض” التي تقاوم بكل ما فيها من عشق للعروبة في وجه المخططات القذرة، وفي وجه كل الإجرام، وفي وجه الخائنين من العرب والعربان الذين هبوا لمحاربة سورية حماية للكيان الصهيوني.

تقاسمنا يا أبا المظفر الحلوة والمرّة عبر السنين الطويلة، وصبرنا على كل ما يحاك ضد المجد من تآمر وكراهية، وعضضنا على مواجعنا ونحن نخلق في دواخلنا أملا بغد مشرق للأمة، ونقول إنها محنة وتعبر، كما عبرت غيرها من المحن الكبيرة التي مرت بها بلادنا.

سلام عليك أيها الناصري الجميل، سلام على من يعملون معك بصمت وهم قليلون، سلام عليك يا أبا المظفر، لقد تعلمنا منك الكثير، وصمدنا معك، وأنت الذي ترفع شعار الراحل العظيم جمال عبد الناصر على صفحة المجد الأخيرة ( الخائفون لا يصنعون الحرية، والمترددون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى