”ماذا يقرأ الدكتاتور قبل النوم”

”… لكنني فوجئت يوما بزعيم التنظيم يتحدث بسعادة كبيرة عن سهرته الممتعة مع كتاب يجمع بعض الإفيهات الساخرة لكاتب صحافي مشهور. سر دهشتي أنني كنت أضع مراتب ودرجات للقراءة تضع الكتابة الساخرة في مرتبة أدنى من أن تحقق متعة لزعيم سياسي مثقف. لكن دهشتي بعد ذلك كانت أكبر لأنني بعد أن أزلت المراتب والفوارق الهرمية بين أنواع الكتب، وبعد أن أصبح ترتيبها يخضع لأفكار مختلفة تماما عن تلك الرومانتيكية، وأدركت أن التقييم لا يمكن أن يكون مطلقا.. المهم كان اكتشافي المدهش أن الزعيم لا يقرأ، وأن هذا الكتاب هو آخر حدود علاقته بالكتب التي قد تتباهى بامتلاك دواوين شعر لمحمود درويش أو سميح القاسم على سبيل الوجاهة الثقافية ذات الطابع السياسي، لكنها لا أكثر. فالعالم مرتب، ولا يمكن الاقتراب من ترتيبه”المقدس”. فالمعرفة انتهت، وكل قراءة هي من أجل تأكيدها، وليس الخروج عنها. تلك هي وظيفة القراءة والتثقيف السياسي المنظم: أن تؤمن بما سبق أن عرفه الأولون!!”.

الرقابة على الكتب محنة، فالكاتب يضع كثيرا من روحه فيما يكتب، وإذا كان يفكر ب”الرقابة” أثناء الكتابة، فلن يبدع شيئا. وقد حدث الأمر معي حين نشرت مجموعتي القصصية” ثرثرة في مدار السرطان”. وقبل أن تجاز المجموعة، اتصل بي الناشر ليسألني: وردت في إحدى القصص عبارة” ملبّس الملك حسين”، فالرقابة تسأل ماذا تعنين بها. ضحكت وقلت: حين كنا أطفالا كان أبي يحضر لنا قضامة محلاة، أي ملبّسة بطبقة فيها الكثير من السكّر، وكانوا يطلقون عليها ” ملبّس الملك حسين” ، لماذا ؟ لا أعرف. فالرقابة تخشى من العبارات المبهمة، أو الفكرة الغامضة، وتعتقد ربما أن الكاتب الذكي لديه قرّاء أذكياء يفهمون ما بين السطور، حتى وإن كان ما بين السطور واضحا، فالمهم لدى الرقابة، وخاصة في زماننا هذا ألا يتطرق الكاتب للذوات العليا السياسية، أو الدينية. أما الموضوعات المطروحة حول الجنس المباح، فحدث ولا حرج، فهذه الكتب مباحة لتلهي القارئ عن الأهم.
”ماذا يقرأ الدكتاتور قبل النوم؟”
عنوان مقالة للكاتب والصحافي الفذ وائل عبد الفتاح ، وقد نشرها عام 2003 بعد قراءته لكتاب”تاريخ القراءة” للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانجويل الذي يبدؤه بعبارة” إن النظم الشمولية ليست الوحيدة التي تخشى القراءة ”، ويقتبس عبد الفتاح من الكتاب ”… حتى في ساحات المدارس، وفي خزائن الملابس، وفي دوائر الدولة والسجون، تجري مراقبة جمهرة القراء بعين الارتياب، نظرا بما يشعر المرء به من سلطان القراءة وقوتها الكاملة. وعلى الرغم من الاعتراف بأن العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة مفيدة ومثمرة، إلا أنها علاقة تعتبر مترفعة ورافضة ربما لأن مشهد قارئ وقد انزوى في أحد الأركان ونسي العالم المحيط به يشير إلى جو شخصي غير قابل للاقتحام وإلى نظرة منطوية على الذات، وتصرف أناني..”.
وهذا بالضبط ما حدث للكاتب ألبرتو مانجويل الذي كان والده دبلوماسيا، يتنقل من بلد لبلد. يقتبس عبد الفتاح علاقة مانجويل بالقراءة ” قضيت معظم أيام طفولتي بعيدا عن أفراد عائلتي، محاطا برعاية مربيتي، حيث كنا نسكن في أحد الأقسام المعزولة عن المنزل الذي كانت تقيم فيه عائلتي. كان مكان القراءة المفضل لدي هو أرضية غرفتي الصغيرة، حيث كنت أستلقي على بطني وقد ركزت قدميّ الصغيرتين في أحد الكراسي. ثم سرعان ما أصبح السرير أأمن الأماكن لمغامراتي الليلية خلال الفترة الضبابية التي كنت أتأرجح خلالها بين اليقظة والخضوع لسلطان النوم. لا أستطيع أن أتذكر أبدا أنني كنت وحيدا في لحظة من اللحظات، على العكس تماما، فإن ألعاب وأحاديث الأطفال الذين ما كنت ألقاهم إلا نادرا، وجدتها أقل إثارة بكثير من المغامرات والأحاديث التي كنت أعيشها في كتبي..”.
ويضيف” إنني لست وحيدأ ”. وهذا كما يقول عبد الفتاح هو الاكتشاف الشخصي الذي دفع مانجويل” لتتبع مئات الحكايات واقتفاء آثار النصوص المكتوبة والمقروءة والمطبوعة عبر مختلف العصور وفي الكثير من مكتبات العالم ليعرف سر القرابة العنيفة بين المتيمين بقراءة الكتب، وكأنهم يعيشون حياة سرية متراكمة عبر أزمنة تاريخية، تتناقل الأسرار من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، بين أولئك الذي أظهروا على مر العصور شغفهم بهذه الكتب أو بتلك، الذين اهتدوا بأحكام الأكبر منهم سنا، أولئك الذين انتشلوا الكتب من طي النسيان، أو الذين جمعوا على رفوف كتبهم درر الأدب المعاصر.”.
وكانت أمه حين تراه يقرأ تقول له” اذهب إلى الخارج وعش حياتك ”، وكأنها كانت تخاف عليه من التناقض بين القراءة والحياة، كما يقول صاحب المقالة عبد الفتاح، فيرد عليها مانجويل بمقطع من رواية ” الحصان الأبيض” للتركي أورهان باموك ”… لا يستطيع المرء أن يبدأ الحياة، هذه الرحلة الوحيدة، بعد أن تكون قد انقضت.. إلا أنك عندما تمسك كتابا بيدك، مهما كان هذا الكتاب معقدا أو صعبا على الفهم، فإنك تستطيع بعد الانتهاء منه، العودة إلى البداية إن أردت، وأن تقرأه من جديد، كي تفهم ما هو صعب، وبالتالي فهم الحياة أيضا”. فالقراءة فعل ممتع جدا إذا أحسن المرء الاختيار، وهي ” تكسر الحياة الرتيبة، تدمر العلاقة بها في لحظة خاطفة وترتب العالم من جديد”. وقد كتب فرانز كافكا عام 1904 إلى صديقه أوسكار بولاك:”.. على المرء ألا يقرأ أبدا إلا تلك الكتب التي تعضه وتوخزه. إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ الكتاب إذا؟”، ويضيف:” إننا نحتاج إلى الكتب التي تنزل علينا كالبلية، التي تؤلمنا كموت من نحبه أكثر من أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى غابات بعيدا عن الناس، مثل الانتحار. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا..”.
ماذا يقرأ الدكتاتور قبل النوم؟ مقالة جميلة جدا وطويلة، اقتبست منها القليل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى