العروبة والتّكامل… أو تقاسم الضّعف والأحقاد والكراهيّة!

بقلم: عبدالملك المخلافي*

في حديثٍ مع وزير خارجيّة دولة عربيّة على هامش اجتماع لوزراء الخارجيّة العرب، قال لي الوزير العربي الشقيق: “هل ما زلت تؤمن بالقوميّة العربيّة؟”، وواصل: “نحن لسنا حتّى أمّة عربيّة نحن أمم ناطقة بالعربيّة”!.

كان ما قاله الوزير، وما دار في حواري معه يتجاوز مجرّد كلام عابر أو انفعالي، كان يعبّر عن قناعته التي يمكن ملاحظتها في سياسات دولته تجاه مختلف القضايا العربيّة. ليست دولة الوزير دولةً محوريةً بين دول الأمّة العربيّة، ومع ذلك يمكن أن نلحظ أنّ نُخبًا عربيّة جديدة في الحكم أصبحت بعيدةً في قناعاتها وممارساتها عن مفاهيم العمل العربي المشترك والتّضامن العربي ناهيك عن القوميّة العربيّة والوحدة العربيّة حتى عن جيلٍ سبق في الدول عينها وعن الأُسُس التي قامت عليها الدّول العربيّة، والتي نصّت في دساتيرها في عصر “الاستقلال العربي” وعصر النّهوض القومي في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي على أنّ هذه الدول “جزء من الوطن العربي وشعبها جزء من الأمّة العربيّة”.

لا تشكّل مثل هذه القناعات على المدى الطويل خطرًا على حقيقة الأمّة العربيّة والرّابط القومي لشعوبها ودولها، فهذا الانتماء الذي خُلِق وتفاعل عبر مئات، بل آلاف السّنين لا يمكن أن تغيّره مرحلة سوداء في تاريخها؛ لأنه حقيقة الوجود العربي عينه وحقيقة اللّغة والتّاريخ والدّين والهويّة والشّعور المشترك، ناهيك عن المصلحة المشتركة.

ولكن علينا أن نعترف بأنّ هذه المفاهيم، وإن كانت ما زالت في صفوف بعض النّخب وخاصة الحاكمة – وإن لم تفصح عنها علنًا – تشكّل خطرًا حقيقيًّا على العمل العربي المشترك، وتحدّيًا يجب عدم إغفاله وإغفال تأثيره في مستقبل خلق تكتّل عربي فعّال يستطيع مواجهة التحدّيات التي ترتسم في عالم صارت تحدّياته صعبة في مجالات مثل التنميّة والتقنيّة والبيئة، وتزداد تحدّياته إذا ما أدركنا أنّ الوضع العربي في دول الأمّة العربيّة الفقيرة والغنيّة على حدّ سواء، متخلّف عن دول كانت في القرن الماضي قريبة في أوضاعها من بعض دولنا، بل وتتفوّق دولنا عليها – كوريا ومصر مثلًا – فلا يوجد دولة عربيّة واحدة لديها إنتاج حقيقي في مجالات التّنمية والتقدّم والعلم والتقنيّة، إذا استثنينا مظاهر التّقدم الشّكلي في العمران والطرق ومظاهر الثّراء في بعض الدّول الغنيّة، والتي يُتيح لها فائض الثروة الريعيّة استيراد مظاهر التّقدم وليس إنتاجه.

المثير للغرابة، أنّه في الوقت الذي تتّجه دول العالم لتكون جزءًا من تكتّلات كبيرة حتّى على أُسُس جغرافيّة إن لم تجد عوامل أخرى للتكتّل، يسعى العرب الذين هم أمّة واحدة تجمعها مقوّمات وأُسُس تكامل لا تتوفّر في أمّةٍ أخرى أو منطقة جغرافيّة أخرى، إلى الانعزال عن بعضهم والتمزّق بدلًا من التكتّل والتّكامل، وتسود مقولة “القُطر أوّلًا”؛ وبالتّالي ذهبنا داخل القطر الواحد إلى المزيد من التمزّق على أساس قبلي أو طائفي أو مذهبي أو عرقي أو جِهوي.

وأعتقد أنّنا لا بد أن نواجه سؤالًا مركزيًّا مُلحًّا حول “ما الذي جرى في وطننا العربي؟… وكيف وصلنا إلى هنا؟”. وبالتالي، “ما هي السُبل للوصول إلى مستقبلٍ يُعاد به الاعتبار لمفاهيم التّضامن والتّكامل والتوحّد على أُسُس تترسّخ فيها مفاهيم الدّولة والهويّة والحداثة والعصرنة والمقدرة على مواجهة تحدّيات التقدّم ومتطلّباته؟”..

وهو ما يتطلب أوّلًا تقييمًا صريحًا وواضحًا وموضوعيًّا لأزمات وكوارث النّظام الرّسمي العربي في العقود الخمسة الأخيرة على الأقلّ، فقد واجه النّظام الرّسمي العربي الذي تشكّل بعد الحرب العالميّة الثانيّة وقيام الجامعة العربيّة، ثلاث كوارث كبرى أدّت إلى ما وصلنا إليه:

كانت الكارثة الأولى إبعاد مصر عن دورها القياديّ في قيادة النّظام الرسمي العربي من خلال “كامب ديفيد”.

وكانت الكارثة الثّانيّة “غزو العراق للكويت” الذي فشل النّظام الرّسمي العربي في معالجته في إطار مؤسّسات العمل العربي المشترك، وفي مقدمتها القمّة العربيّة.

وكانت الكارثة الثّالثة “غزو العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية وتسليمه لإيران وللصراع الطائفي والإرهاب وإخراج دولة عربيّة كبيرة ومحوريّة من دورها العربي”.

ثلاث كوارث ما زالت مفاعيلها قائمة حتى الآن، ويتبيّن تأثيرها في كل مأزق يواجهه النّظام الرّسمي العربي. لم يفقد العراق فقط استقلاله نتيجةً للاحتلال الأميركي، بل فقدت عديد الدّول استقلالها كُلّ منها بقدر، وعادت القواعد الأجنبيّة مجدّدًا في عددٍ من الدّول العربيّة، ولعل أهمّ الآثار تكريس بحث كل دولة عربيّة عمّا يظنّ نظام الحكم فيها أنّها مصالحه، ولو كان ذلك على حساب المصلحة العربيّة المشتركة، متجاهلًا أنّ ضرب المصلحة العربيّة المشتركة على المدى البعيد هو ضرب للمصلحة القُطريّة.

وفي النّهاية، أصابت هذه السياسة القضيّة المركزيّة التي قام عليها النظام الرّسمي العربي وهي قضيّة فلسطين، فقد ذهب من مثّل القضيّة الفلسطينيّة رسميًا “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” إلى “أوسلو” تحت وَهْم بناء دولة فلسطينيّة من خلال “سلطة وظيفيّة” تحت الاحتلال، فشكّلت “أوسلو” كارثةً إضافيّة لـ”كامب ديفيد” الذي أخرج أكبر دولة عربية من الصّراع، فأخرجت “أوسلو” كل الأنظمة العربيّة من الصّراع بعدما تحوّل النّزاع إلى (فلسطيني – إسرائيلي) حول صلاحيّات السّلطة وحدودها، بعد أن كان صراعًا عربيًّا إسرائيليًا حول الوجود.

الفشل الذي أصاب النّظام الرّسمي العربي مجتمعًا، كان انعكاسًا لفشل الأنظمة العربيّة على اختلاف مكوّناتها وأساليب تشكّلها في إقامة دول على أساس فكرة المواطَنة، وبغياب دولة المواطنة غابت الديموقراطية، وتأسّست الدّولة القُطريّة غالبًا على أساس التّوازنات القبليّة والطائفيّة والجِهويّة التي تحميها سلطة قمعيّة للمتغلّب كانت تعبّر عن مصالح هذا المتغلّب الذي احتاج في الغالب وكلما طال زمن حكمه إلى الحماية الأجنبيّة، ولم تعبّر هذه السلطات إلا مضطرة عن مصالح الشّعب وما يريد في الأوضاع الداخليّة، وفيما يتّصل بالعمل العربي المشترك على حد سواء، وعند أوّل اختبار لسقوط السلطة القمعيّة المتغلّبة كما حدث فيما عُرِف بـ”الرّبيع العربي” سقطت معها الدّولة، وتمزّقت الوحدة الوطنيّة، وبرزت الهويّات الفرعيّة المتخيّلة على حساب ليس فقط الهويّة العربيّة، وإنما على حساب الهويّة القُطريّة عينها.

إنّ نظرةً متفحّصة أو عابرة للواقع العربي اليوم تقول إنّ النّظام الرّسمي العربي، وكل مؤسّساته بما فيها القمّة والجامعة العربيّة، فشِل فشلًا ذريعًا على مدار عامٍ كامل في التّعبير عن أي موقف موحّد وفاعل في مواجهة حرب الإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطيني في غزّة والضّفة، أو في مواجهة مخطّطات التّهجير، بل التزمت معظم دولها الحياد بين العدو الظّالم والشّقيق المظلوم، على الرّغم من أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي ركيزة النّظام الرّسمي العربي، وعلى أساسها يتحدّد مستقبل الوطن العربي بين الاستقلال والتّكامل والتقدّم، أو الخضوع للهيمنة “الإسرائيليّة” والتمزّق والضّعف والتخلّف، بل إنّها لم تُبْدِ من التّضامن والتّعاطف “الإنساني” أو المواقف ما أبدته دول وشعوب لا تجمعها مع الشعب الفلسطيني روابط ولا جغرافيا ولا مصير مشترك.

بل إنّ ما حدث لم يستدعِ من هذه الدّول منفردةً أو مجتمعةً أن ترتقي إلى موقف دولة مثل جنوب أفريقيا أو إسبانيا، والأكثر مرارة أنّ التّطبيع مع العدو الصهيوني قائم وسفراء العدو في الدّول العربيّة المطبّعة ينعمون بدفء العلاقات مع عدوٍ غاشم بكلّ المقاييس والقوانين الدوليّة هو عدو للإنسانيّة كلّها ومواجهته والحدّ من عدوانه ليس فقط دفاعًا عن الشّعب الفلسطيني، ولكن أيضًا دفاع كل دولة عربيّة عن نفسها ووجودها في مواجهة عدو لا يفرّق بين دولة عربيّة وأخرى إلّا إلى حين.

ولعلّ ذلك ما أغرى العدو الصهيوني أن يمتدّ بعدوانه وحرب الإبادة من غزّة إلى الضفّة، ومن الضفّة إلى لبنان.

وهو الغزو الذي كشف التمزّق العربي والضّعف العربي كما لم يحدث من قبل. ليس فقط على المستوى الرسمي، ولكن أيضًا على المستوى الشّعبي المنهك بالقهر والهيمنة الأمنيّة ولقمة العيش والحروب الطائفيّة والجِهويّة والاعتياد على منظر الدّم والتّدمير والنّزوح في العديد من أوطان الأمّة العربيّة على مدى أزيَد من عقدٍ من الزّمان؛ ولهذا لم يُبدِ من ردود الأفعال والضّغط على الأنظمة تجاه ما يجري في فلسطين ولبنان ما كان يُبديه في مراحل سابقة. ما دفع البعض للقول إنّه لم يعد هناك “عروبة” وإنّ الأعداء نجحوا في تحويل منطقتنا إلى “شرق أوسط” طائفي ترك العرب فيه عدوّهم الأزلي والوجودي، وتقاسموا أحقادهم وكراهيتهم.

ولا يقلّ الوضع سوءًا إذا ما أمعنّا النظر على مستوى الدّول العربيّة منفردة التي تواجه ستّ دول منها حروبًا أهليّة مشتعلة أو خامدة مؤقتًا، وتواجه أخرى حصارًا وأزماتٍ اقتصاديّة وبنيويّة تهدّد بالانفجار، والدّول القليلة المستقرّة هي الأخرى تحت ضغوط أميركيّة وأوروبيّة وصهيونيّة للتّطبيع مع العدو، وضغوط مشاريع دول الجوار العربي (إيران وتركيا وإثيوبيا) التي توسّعت على حساب العرب عندما غاب الموقف العربي الموحّد.

ولعلّ ذلك يقودنا إلى أولويّة ملحّة في هذه المرحلة يجب أن يتّجه الفكر الوحدوي العربي إلى تبنّيها والاهتمام بها، في مقدّمتها إعادة طرح العروبة كحامٍ من التمزّق والضّعف والحفاظ على الدولة القُطريّة العربيّة، وإعادة بنائها – عبر مصالحة الفكر القومي معها – باعتبارها مرتكز العمل العربي المشترك… وفي ذلك حديث آخر.

*وزير يمني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى