البيئـة الحاضنـة !!

بقلم: بثينة شعبان

في معرض الفنانة السورية الرقيقة الشامخة، سارة شما كتبت فوق إحدى لوحات الحرب على سوريا: “أردت أن أحمل كلّ الذين قتلهم الإرهاب في بلدي وأطوف بهم على مدن وبلدان، وهم من كل الأطياف الوطنية؛ لأُري العالم أنهم ينتمون إلى مختلف شرائح هذا البلد، وأنهم يستحقّون الحياة”.

توقّفت طويلاً عند هذا القول العميق، وشعرت أنني أتمنى أن أحمل معي كلّ من استشهد في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، وأن أجول بهم الكون؛ ليرى الآخرون وليعلموا أنّ هؤلاء الذين استشهدوا في سبيل ترابهم وقضيتهم هم أنبل الناس وأكرم بني البشر، وأنهم يستحقّون أن تُدرج أسماؤهم وصورهم في سجلّ الخالدين. ولكن، من أين تكون البداية وقد ملأ المجرمون القتلة فضاءات الإعلام والسياسة والأخبار بسرديات مشوّهة كاذبة لا تمتّ إلى الوقائع والحقائق بصلة، ووقعت أصداؤها على آذان أناس لا وقت لديهم للتفكير والتأمّل والبحث عن الحقيقة الصادقة الساطعة، فأداروا وجوههم جانباً واستمروا يتابعون يومياتهم غير آبهين بأقدس واجب إنساني يرنو إليهم لإنقاذهم من بؤس ما يصنعون.

إذا كان ضجيج المجرمين والقتلة والإرهابيين يملأ الفضاء بتصميمهم على تغيير خريطة المشرق العربي، وتغيير وجه المنطقة، فإن انتصار المقاومة في غزّة ولبنان بأدواتها البسيطة على أعتى قوة عسكرية في الكون لدليل واضح على كذب وفشل ما يدّعي المجرمون، وأنّ تصريحاتهم لا تتعدى حدود الحرب النفسية التي يحاولون من خلالها إلحاق الهزيمة بالمؤمنين بأرضهم وتاريخهم وديارهم، وأنّى لهم أن يفعلوا ذلك.

إن أخلاق المقاومين الذين أودعوا البيوت التي اضطروا إلى استخدامها رسائل اعتذار لأهليها، وتعويضات عن الأشياء التي اضطروا إلى استخدامها لأكبر دليل على أن هذه الحرب التي يخوضها أبناء المنطقة الأصليون ضدّ إرهاب الكيان الصهيوني وتوابعه من عصابات إرهابية في إدلب وحلب هي حرب أخلاقية وحضارية، فضلاً عن كونها حرباً عسكرية، فالطغاة يعملون على تلويث المنطقة بتحلّلهم من كلّ القيود والأعراف الأخلاقية والإنسانية، بينما يعمد أبناء هذه البلدان العريقة، وهم يقبضون على الجمر، يعمدون إلى نسج الحلقات الضرورية من التواصل التاريخي لقيم الآباء والأجداد وشيمهم، رغم كلّ ما يعتري دروبهم من تحديات ومحاولات انزياح.

إن التواطؤ التركي- الإسرائيلي – الأوكراني في شنّ هجوم إرهابي على حلب الأبية في اليوم التالي لوقف إطلاق النار في لبنان ما هو إلا دليل قاطع على ترابط الجبهات، وعلى أن لا فرق بين إرهاب صهيوني يرتكب مجازر إبادة بحقّ الشعبين الفلسطيني واللبناني، وبين إرهاب “داعشي” يعمل طوال العقدين الماضيين على استئصال جذر الحضارة في العراق وسوريا، ويتناغم مع الإرهاب الصهيوني في الزمان والمكان والأهداف، ولا شكّ أن التواطؤ الأميركي والتركي مع القوى الإرهابية التي ضربت سوريا في العشرية الأخيرة، والتي مارست حرب الإبادة على الفلسطينيين هو جزء لا يتجزّأ من مخطّط صهيوني شرس يطمح إلى تغيير وجه المنطقة العربية بما يخدم مصالحه ومصالح أسياده وأقرانه.

ولكن، وبالرغم من كلّ الاختلال في توازن القوى، ورغم التفوّق العسكري للولايات المتحدة ومدّها العدوّ الصهيونيّ بكلّ ما يطلبه من مال وسلاح، فإنّ هذه الأرض العربية الأبية قد أنبتت أجيالاً من أبنائها البررة يذودون عنها بالروح والدم، وبإيمان لا يعتريه الشكّ، وأنهم هم وحدهم أصحاب هذه الأرض، وأنه لا يمكن لأيّ قوة مهما عتت وتجبّرت أن تزلزل هذه الأرض الطاهرة تحت أقدامهم متأبطين في معركتهم هذه تاريخاً مشرقاً من التضحيات، وإرثاً خالداً يشدّ من أزرهم على كل مفرق درب، ويطمئنهم أنّ دماء الشهداء التي روت هذه الأرض على مدى مئات السنين لا تنبت إلّا عزّة وكرامة وبقاء على مرّ الزمن، مهما تكالبت القوى الظلامية وحاولت الفتك بمقوّمات هذه المنطقة العريقة الخالدة.

لكنّ دروساً عديدة يجب استخلاصها اليوم من مجريات حرب الإبادة في فلسطين ولبنان والحرب الإرهابية على سوريا والعراق وهي أن هذا العدوّ هو عدوّ الأمة من محيطها إلى خليجها، وأنّ كلّ ما تعرّضت له المنطقة من عصابات إرهابية تحت مسميات مختلفة ما هي إلا أغصان فرعية لذلك الجذر الإرهابيّ المستوطن على تراب فلسطين، وأنّ هدف هذا الإرهاب لا يقتصر على من تدور المعارك على أرضه البارحة أو اليوم، ولكنه يهدف في نهاية المطاف، إن استطاع، إلى اجتثاث جذور أمّة تنبض أخلاقاً وقيماً وشهامة وتاريخاً مجيداً، ولا فرق لديه بين تقسيمات “سايكس -بيكو” فكلّهم عرب وكلهم أهداف مشروعة للإرهاب الصهيوني، ولكن على مراحل، وحسب ما تقتضي طبيعة المرحلة وتتوفر الإمكانات لخوض معاركها.

وفي هذا الإطار، تسقط سقوطاً مزرياً كلّ التبريرات والادّعاءات والتفسيرات لعدوان هنا وآخر هناك، ولاستهداف هنا وتبرير آخر هناك؛ فكلّ هذه السرديات عن الخوف ومنع التسليح وإغلاق خطوط الإمداد، وما إلى هنالك من مبررات كاذبة ومصنّعة لا قيمة لها؛ لأنّ الهدف الأساس هو تقويض مكانة أمة عربية في منطقة عربية خالصة تحمل بين ظهرانيها تاريخاً يعبق بكمون مختلف الحضارات على مرّ التاريخ، وبأخلاقيات ومثل وقيم لا يعرف هذا العدوّ لها سبيلاً.

إذا كانت لهذه الأيام وبعض أحداثها مرارة لا تُطاق، فلا شكّ أننا نجد على المقلب الآخر انكشاف حقائق مهمّة ثابتة لا يجوز بعد اليوم تجاهلها أو حتى التشكيك في صدقيتها. وأولى هذه الحقائق هي أنّ الترهيب والترغيب الغربيين وادعاءات الوساطة والحيادية وإبرام الاتفاقات كلها لا قيمة لها؛ لأنّ الغرب برمّته يشاطر العدوّ الصهيوني الحقد على هذه الأمة والطموح بإضعافها ونهب مقدراتها وتغيير وجهها الحضاري. وثانية هذه الحقائق هي أنّ أبناء هذه الأمة على مختلف مسمياتهم يشكلون عنصراً واحداً في نظر أعدائها، لا فرق بين أبناء العراق والسودان وسوريا والمغرب، ولكن الدعاية الصهيونية تحاول أن تخلق برازخ توهم من خلالها أبناء الأمة والجذر الواحد والمصير المشترك أنّ كلاً منهم له حظوة مختلفة عن الآخر، حسب أدائه وتجاوبه مع المغريات والمتطلبات. والحقيقة الثالثة هي أن التخطيط لحقب إلى الأمام هو ما تفتقده أمتنا في الوقت الذي يعمل أعداؤها على إعداد الخطط واجتراح السيناريوهات المختلفة للقادم من الأيام. والحقيقة الرابعة هي أن أمة لا تصون خيرة مبدعيها وخلاصة المخلصين لها لا يمكن لها أن تنافس أمماً تستثمر في طاقات أبنائها، وحتى في طاقات أبناء الآخرين الذين يلجأون إليها.

لقد مرّت على هذه الأمة دهور من الاستهداف الشرس لم يغيّر فيه العدو أهدافه أبداً، مّا يعني أننا نحن الذين يجب أن نتغيّر ونغيّر أساليبنا وطرائقنا في مواجهته الحتمية.

لا خوف على أمة فيها بواسل مؤمنون بقوامها وتاريخها ومستقبلها، ولكن لا بدّ من مراجعة عميقة وجوهرية لمجريات أحداث العقدين الأخيرين، ليس خوفاً على الأصالة والمستقبل، ولكن تحسّباً لكلّ جديد واستعداداً لدفن كلّ تخرصات أعداء هذه الأمة وحتمية انبعاثها من جديد بطريقة تكيد الأعداء وتجبر خاطر الأهل والأصدقاء والمحبين. وكما كانت البيئة الحاضنة لفلسطين وحزب الله هي عنوان الانتصار وسببه، فلا شكّ أنّ البيئة الحاضنة العروبية العربية من العراق إلى سوريا والسودان والجزائر بشعبها الأبيّ كفيلة أن تشكّل عامل إسناد عظيم يحسم هذا الصراع مرة وإلى الأبد لصالح أصحاب الحقّ والأرض والتاريخ والجغرافيا.

لقد كانت البيئة الحاضنة للفكر المقاوم هدفاً أساسياً لهذا العدو في سوريا والعراق وفلسطين ولبنان واليمن، ولكنها صمدت ولم يصبها الوهن أو الاهتزاز، بل واتسعت هذه البيئة ضد حرب الإبادة الشنيعة لتشمل جماهير وبلداناً لم تكن تفصح عن تأييدها من قبل. إلى هذه البيئة علينا أن نتوجّه بكل شرائحها من مقاومين وفنانين وكتاب ومسرحيين ودبلوماسيين وسياسيين بعمل دؤوب ومستمر متخذين من شعار الكوميدي الإيرلندي النبيل تادغ هيكي :” إذا لم تكن مع الفلسطينيين فلا أعتقد أنك مرتبط تماماً بإنسانيتك” شعاراً لمقاومة الظلم والاحتلال والتهجير والعدوان: ” إذا لم تكن مع المقاومة فلا أعتقد أنك مرتبط بوطنك أو بإنسانيتك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى