التحول من دول إلى قضايا.. المتغيرات الإقليمية المقبلة
بقلم : د. لبيب قمحاوي
هنالك حزمة من التفاهمات الدولية على مستقبل هذه المنطقة تتجاوز الخطوط التي رسمتها إتفاقية سايكس – بيكو وتهدف إلى إعادة رسم خارطة المنطقة متجاوزة حدود الدول القائمة حالياً طبقاً لتلك الإتفاقية . المعارك العسكرية والسياسية الجارية الآن في المنطقة تسعى تحديداً لتحقيق هذه التفاهمات وأكثر . وإذا كانت المعارك المتعلقة بالقضية الفلسطينية مرتبطة مباشرة بوجود الكيان الإسرائيلي ، فإن المعارك المتعلقة بمستقبل لبنان ومستقبل سوريا ودول إقليمية أخرى تسير على قدم وساق في نفس الإتجاه، ولكن ضمن مسار يؤدي إلى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وبما قد يصب بالنتيجة في مصلحة إسرائيل ولكن ضمن رؤية تتضمنها حزمة التفاهمات الدولية على مستقبل هذه المنطقة التي يتم التعامل معها على ما يبدو بإستخفاف دولي على إعتبار أن من يقطنها هي أنظمة وشعوب لا تستحقها أو تستحق مواردها التي يتم إهدارها عبثاً من وجهة نظر القوى الدولية المؤثرة والطامعة في ثروات المنطقة .
البحث يدور الآن عن ما تخطط له أمريكا وإسرائيل وقوى أخرى دولية وإقليمية، عِلْماً أن هذا لا يعني أن ما يخطط له أولئك هو قـَدَرٌ لا مناص منه ، إذ لو كان ذلك صحيحاً لنجحوا عسكرياً فيما يخططون له الآن سياسياً .
لقد فتح إتفاق وقف إطلاق النار في لبنان باب التغيير الإقليمي على مصراعيه . الآن ، وبعد أن تم التعامل مع الملف اللبناني بما يضع أمور لبنان في قبضة أمريكا وإسرائيل ، تتجه الأنظار إلى سوريا حيث يجري العمل حالياً وبأسلوب علني على تغيير الأوضاع فيها . الأصابع المُحَرِكَة لهذه العملية هي أصابع أمريكية وإسرائيلية وقد نشهد انخراطاً جزئياً أو كلياً ، مباشراً أو غير مباشر، من قبل دول أخرى في الإقليم مثل تركيا وبعض العرب وروسيا ضمن مظلة من الصمت الإيراني المريب ، حيث ستكون سوريا كما لبنان أكباش فداء لتفاهمات أمريكية – إيرانية غير معلنة ترضى عنها إسرائيل في السياق العام لإعادة ترتيب الأمور في الشرق الأوسط ولصالح إسرائيل بالنتيجة وعلى حساب الفلسطينيين والعرب بشكل عام .
“القضية السورية” كعنوان لما سيجري في سوريا هي قيد التشكيل حيث يجري العمل الآن على محاولة تقسيم سوريا وإنهاء النظام الحاكم فيها . وقد ابتدأ هذا المسار بالفعل عشية وقف إطلاق النار في لبنان وتحت حجة منع وصول السلاح إلى حزب الله عن طريق سوريا وإنهاء التواجد العسكري الإيراني هناك ، علماً أن شعار وحدة ساحات المقاومة الذي شَكّل المظلة للوجود العسكري الإيراني في المنطقة قد جاء في الأصل لملء الفراغ الذي أحدثه إنسحاب العرب من التزامهم بالقضية الفلسطينية . الآن وقد سقط شعار وحدة ساحات المقاومة تحت معول القنابل والصواريخ الأمريكية والإسرائيلية ، فما هو البديل المنتظر لملء الفراغ الجديد ؟ يبدو أن البديل المطروح هو تقسيم سوريا وتغيير النظام القائم فيها من جهه ، وتصفية القضية الفلسطينية من جهه أخرى وإزالتها من خارطة الإهتمام السياسي العالمي في ظل اصرار معظم العرب على استمرار انسحابهم من أي ارتباط حقيقي بالقضية الفلسطينية ، بالإضافة إلى التعامل مع الوجود والنفوذ الإيراني في العراق تمهيداً لإزالته لصالح وحدانية النفوذ الأمريكي والإسرائيلي هناك .
الوجود العسكري والسياسي الإيراني في سوريا قد يكون مقبولاً من روسيا ، حتى وإن كان ذلك القبول مرحلياً وعلى مضض . روسيا ترحب بالطبع بأي تفاهمات دولية تؤدي إلى توسيع نفوذها في سوريا على حساب إيران أو أي أطراف أخرى ، حتى ولو أدى ذلك إلى تقسيم سوريا . وفي نهاية الأمر ، فإن أمريكا وإسرائيل وروسيا لا يريدون استمرار أي وجود عسكري أو نفوذ سياسي مؤثر ، سواء مباشراً أو غير مباشر، لإيران في سوريا . روسيا لن تدافع عسكرياً عن سوريا ، لكنها سوف تدافع عن مصالحها في سوريا . وطالما بقي نظام الأسد جزأً من تلك المصالح ، فإن روسيا سوف تدافع عنه وتحاول حمايته . إن الدعم العسكري الروسي للنظام في سوريا لن يأتي إلا في هذا السياق وعلى كل من ينتظر الدعم والنجدة المجانية من روسيا أن يعلم ذلك .
إن هدف إزالة الوجود والنفوذ الإيراني في سوريا ، وإن كان لأسباب مختلفة ، إلا أن تحقيقه بالقوة سوف يؤدي عملياً ، فيما لو نجح ، إلى إطلاق التفاهمات الدولية المتعلقة بسوريا مما يعني تقسيمها إلى مناطق نفوذ أو دويلات بولاءات مختلفة ومشكوك بها . إن هذا الهدف سوف يصب مباشرة في صالح إسرائيل ومصالحها في إعادة تشكيل الشرق الأوسط والهيمنة عليه ، وواجب الدول العربية أن تعلم أن الجميع مستهدف في نهاية الأمر ، سواء أكان هذا الاستهداف بالقوة العسكرية أو من خلال التخاذل والاستسلام سياسياً ولن ينجوا من هذا المخطط أحد من العرب .
حروب القتل والدمار قد تفشل في تحقيق الأهداف السياسية المنشودة من قِبَلْ الدولة المعتدية ، ومن هنا يصبح المسار السياسي بعد إنتهاء الأعمال العسكرية هو المعركة القادمة . المعركة السياسية هي في العادة أكثر خطورة في نتائجها من المعركة العسكرية بالرغم من بشاعة المعركة العسكرية سواء في القتل الجماعي أو في التدمير الشامل أو كليهما . النصر الواضح أو الهزيمة القاطعة عسكرياً قد تحسم مخرجات المعركة السياسية بشكل مبكر وحاسم وسريع . وفي غياب النصر العسكري الحاسم أو الهزيمة العسكرية الحاسمة ، فإن المعركة السياسية تكتسب أهمية خاصة كون تجاوز سلبيات النتائج العسكرية الهلامية يتطلب استسلاماً واضحاً أو قبولاً واضحاً لأهداف المعركة السياسية من قِبَلْ أحد الطـرفـين . وفي هذه الحاله المطلوب من العرب تجنب الوقوع في فخ التنازلات من خلال وضوح الرؤيا والصمود أمام الضغوط وليس التعلق بالشعارات والأوهام وحبال الهواء والإعتماد على الآخرين .
القضية الفلسطينية مقبلة الآن على مرحلة جديدة بالرغم من خطورة ما جرى عسكرياً في إقليم غزة ولبنان خلال العام المنصرم . ولكن ماذا عن باقي قضايا العرب ومنها “القضية السورية” و”القضية الليبية” و”القضية اللبنانية” و”القضية اليمنية” و”القضية السودانية”..الخ . إن ما سيجري سياسياً في الحقبة القادمة ويتعلق بمنطقة الشرق الأوسط قد يكون أكثر خطورة في آثاره كونه يهدف إلى الحصول سياسياً على ما فشلت إسرائيل وأمريكا في الحصول عليه عسكرياً ، خصوصاً في لبنان وسوريا وصولاً إلى العراق وإيران ، وهذا طبعاً بالإضافة إلى فلسطين والقضية الفلسطينية . وفي هذا السياق ، يمكن إعتبار ما جرى عسكرياً من قتل وتدمير هو تمهيد للحصاد السياسي القادم الذي تطمح إليه إسرائيل بدعم أمريكي ، وهو المعركة الأكثر خطورة في آثارها بعيدة المدى على الإقليم الشرق أوسطي بشكل عام . وهنا يبقى التساؤل الكبير والخطير فيما إذا كانت باقي الدول العربية سوف تتحول تدريجياً من مجموعة دول إلى مجموعة قضايـا ؟ وإذا ما كان العرب سوف يجابهون هذا المصير بالبكاء والنواح والعويـل والتحسـر؟؟
التاريخ: 03 /12/2024
Dr . LABIB Kamhawi<[email protected]>