نبض الحجارة !!!
بقلم: رانية عطا الله/ غزة
كلما مررت بخراب المدينة تناظرني أعمدةٌ ترفض الهزيمة فأتعلم العناد، يراقبني شموخٌ يهزم العابثين فيعمر قلبي بالانتماء. أشتمُّ عبيرًا من حروف نازفة فأخبر معاني الجَلَدْ، ثم أمضي في بستانٍ من الكلمات، أقرأ فيه قصيدةً بلا ديوان، أتلو عهد المناضلين، يغشاني قبس المؤمنين، ألتمس عهد الفقهاء، أتمعّن وعد الشرفاء، أحدّق في لوحات من نور، أقرأ حكايات لا تُنسى، أتنهّد أمام أمنيات الفاقدين، وأضحك أمام شكر الغائب على الواجب، ثم أبكي مستقبل أحدهم الهارب. في جداريات أحياء المدينة أحياء وإحياء، أرواح نابضة وإن ماتت.
علاقتنا بحجارة البلاد مختلفة، نراها تنطق، تشعر، وتستمع. تُقاسمنا الأسى كما الصمود، تمنحنا مساحةً للمشاركة، لذلك نلجأ إليها، نطرق حصاها، ونداهنها الكلمات
كم أنها شريكة في المقاومة، أسطورة في الثبات! لقد باتت ديوانًا للعابرين، موجزًا لحقيقة الحياة، مُحضرة للغائب، حافظة للمعروف، راعية للموجود، تتحسس القائم منها ليقف المحني فيها وبين جنباتها، تمنح الأمل من قلب آلام المحنة وهي توثق ما لا يُدوّن أمام جدارة الإدراك بضرورة الحفظ كي لا يُنسى.
علاقتنا بحجارة البلاد مختلفة، نراها تنطق، تشعر، وتستمع. تُقاسمنا الأسى كما الصمود، تمنحنا مساحةً للمشاركة، لذلك نلجأ إليها، نطرق حصاها، ونداهنها الكلمات، تمدُّنا بإجابات صامتة أبلغ من ردِّ استغاثة المعتصم في زمن الانبطاح. ذبذباتها تعادل صدى الاستنجاد حين يظلّ الصوت وحيدًا في عالمٍ أصم أو يتباكم، ترانا نتكئ عليها حتى وإن مالت، تحطّمت، تشوهت. تحتوينا بكل هيئاتها بينما نؤمن أنها وإن اهتزت تربو.
لقد كانت جدران المدينة وسيلة للتواصل ومنصّة للاتصال في السلم والحرب، في الحب والكرب، كانت بريدًا سريًا للعاشقين، ومنبرًا للثوار، ميدانًا للحالمين وساحةً للمحبطين، ثم صارت حمامًا زاجلًا بين أزقة البلاد، وإنعاشًا بين فكيّ الموت، دستورًا على ناصية الخيام، جسرًا بين شقيّ القطاع، صرخةً وسط الركام، أمانةً في أعناق الجوار، لعنةً لخذلان العالم. لقد أمست متكأً للحنين، مرجعًا للأسى، حاضنةً للشوق، مكبًا للمشاعر، لائحةً للاستحقاق، تربةً للصمود، أرضية للتعبئة، كتابًا لترسيخ العقيدة، سارية لراية الجهاد، قلعة لرفع اللواء، صفحة لتجديد العهد، وإعلانًا للإعمار القريب وإن استقصته الإنسانية.