الحرب على الفلسطينيين.. التناسي أم النسيان؟
بقلم: د. لبيب قمحاوي
إن أكثر ما يخشاه المرء هو النسيان أو التناسي في موضوع يلعب فيه الرأي العام والضغط القادم من دول ومؤسسات دولية دوراً هاماً في ظل غياب التكافؤ العسكري القادر على وضع حد للمذابح الإسرائيلية اليومية والدمار المتواصل لإقليم غزة والضفة الفلسطينية ولبنان وبعض دول الجوار الفلسطيني .
الزمن هو في العادة سلاح من يريد النسيان ، أماَّ من يريد التناسي فهو يبحث عن الاعذار والأسباب لفعل ذلك بغض النظر عن عامل الزمن . هل يجابه الفلسطينيون الآن مزيداً من القتل والتدمير من خلال نسيان أو تناسي الجميع لمعاناتهم وبالتالي إطلاق يد إسرائيل لفعل ما تريد عسكرياً ومن ثم سياسياً ؟؟ هل إختار العرب الآن ومعهم العالم الدخول في مرحلة النسيان وحقبة التجاهل للمذابح الدائرة في إقليم غزة والضفة الفلسطينية، واعتمدوا التركيز على وقف اطلاق النار في لبنان كبديل مقبول إسرائيلياً ؟
بالنسبة لحروب إسرائيل على الفلسطينيين فإن النتيجة واحدة سواء أكان استمرار المعاناة نتيجة للنسيان أو للتناسي ، علماً أن الألم المرافق للتناسي هو أكثر بكثير من الألم المرافق للنسيان خصوصاً إذا جاء التناسي من قـِبَلْ الأقربين . فالنسيان في العادة هو جزء من الطبيعة البشرية وهنالك ما يجعل من النسيان نعمة مثل نسيان الأحزان أو فقدان الأحبة ، أما التناسي فهو فعل مقصود وأكثر صوَرِهِ قتامة تتعلق بالجرائم والمآسي ذات الطبيعة الشاملة والظالمة مثل التدمير الشامل والمذابح التي يقترفها الاسرائيليون ضد الفلسطينيين ومنذ أكثر من عام وبشكل متواصل ، فالتناسي في هذه الحالة يصل إلى حدود التواطؤ الذي يسمح للمجرم بالإستمرار في جريمته . راحة الضمير قد تأتي من النسيان أحياناً ولكنها لا يمكن أن تأتي من التناسي ، بل على العكس ، فإن التناسي قد يؤدي من خلال آثاره السلبية والدموية إما إلى تعذيب الضمير أو إلى خلق حالة من التعب أو القلق النفسي الذي يرافق الشعور بالذنب . وعلى أية حال ، فإن الإسرائيليون لا يحتاجون إلى عذر لإرتكاب جرائمهم ، كما لا يرغبون في أي ضغوط لوقفها ، مما يجعل من النسيان أو التناسي حالة تتناسب والعقلية الإجرامية الإسرائيلية وأهدافها كونها تفتح المجال أمام الإسرائيليين للإختيار ولإستغلال ما يتمخض عن النسيان أو التناسي لخدمة أهدافهم .
لا ينسى الإسرائيليون مثلاً أية معاناة حصلت لليهود حتى ولو كان ذلك قبل آلاف السنين ، بينما يتناسون ما يقومون به منذ سنوات قليلة من عمليات اجرامية بحق الشعب الفلسطيني والعرب مهما بلغ ذلك الاجرام من تمادٍ يتعارض والقانون الدولي والانساني. الإجابة على مثل ذلك التساؤل تتلخص ببساطة في أن الإسرائيليين يستخدمون كِلَا المسارين : النسيان والتناسي لخدمة أهدافهم ، وليس كما يفعل العرب بحق أنفسهم وبحق الفلسطينيين خدمة للغير . النسيان أو عدم النسيان والتناسي تصبح إذاً أدوات سياسية لخدمة مسارب وسياسات معينة ، أو لدعم سردية إسرائيلية أو يهودية صهيونية إختيارية تنتقي منها إسرائيل ما تشاء وتُغْفل ما تشاء لتَفـْعَلْ ما تشاء .
إن إعادة تشكيل التاريخ والواقع يتطلب القدرة على والرغبة في استعمال سلاح النسيان والتناسي بشكل انتقائي يُمَكنّ الجهة الفاعلة ، وهي في هذه الحالة إسرائيل ، من ارتكاب ما تشاء من إجرام ومعاصي وأكاذيب بإعتبار ذلك حقَّا لها دون غيرها ودون أي إعتبار للقانون الدولي أو الانساني . في الوقت الذي تستعمل فيه بعض الدول تلك الخيارات لدعم موقفها أو سياساتها الهادفة إلى عدم الصدام أو التعارض مع إسرائيل أو أمريكا . وهكذا ، يتحول النسيان أو التناسي من سلوك إلى سلاح فيما لو إستعمل كوسيلة لتبرير سلوك مُعَيَّنْ أو سياسات أو التغاضي عنها بشكل يسمح بإستمرارها كما يجري الآن في إقليم غزة منذ ما يزيد عن العام .
التناسي ويشمل الإهمال والتغاضي في حالة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو في واقعه قرار سياسي عن وعي وادراك يتجاهل ما يجري أصلاً من حروب وأهوال، ويتجاهل تبعات تلك الحروب من قتل وأعمال إبادة جماعية وتدمير . الإهمال في هذه الحالة يهدف إلى الادعاء أو التظاهر بعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي وكأنه لا يوجد ما يبعث على القلق أو الغضب أو الرفض . وفي هذه الحالة ترقى حالة الإهمال ، عندما تعني إهمال العدوان ونتائجه ، إلى درجة قبول ذلك العدوان ونتائجه دون الافصاح الفعلي عن ذلك .
يتم التعامل الآن مع مصطلحات تعكس خيارات تتبناها دول المنطقة بأشكال ودرجات مختلفة تعكس إما حالة الإفلاس السياسي والأخلاقي أو غياب الخيارات الأخرى التي قد تشكل مواقف أكثر حزماً وفاعلية في التعامل مع الصراعات الدائرة الآن في إقليم الشرق الأوسط .
اللجوء إلى النسيان أو التناسي والإهمال يعطي مؤشراً في حالات الصراع على موقف الدولة التي تلجأ إليه بمعنى أن النسيان أو التناسي يعطي مؤشراً على القبول أو الانصياع دون الحاجة إلى الإعلان عن ذلك الموقف منعاً للإحراج أو خشية من ردود فعل الآخرين أو حتى الشعب المعني على مثل هذا الموقف .
النسيان أو التناسي هي ظاهرة سلبية ، ومن الخطأ اعتبارها تعبيراً عن اللامَوْقِفْ كما يُهيأ للبعض ، فهي بحد ذاتها موقف طبيعته ، فيما إذا كان موقفاً سلبياً أو فاعلاً ، تتوقف على أين تقف هذه الدولة أو تلك من الصراع المعني . هنالك أنماط من الصراع لا يجدي معها النسيان أو التناسي لأن ذلك يعني الاستمرار بل والمغالاة في البطش والتدمير ، ومثال على ذلك الحرب الإسرائيلية المستمرة على الفلسطينيين . وسياسة اللاموقف من خلال النسيان أو التناسي تعني في الحقيقة الموافقة الضمنية والقبول الصامت وهذا الأمر على الجميع أن يستوعبه . إن مثل هذا الصراع لا يحتمل إلا الموقف الواضح الصريح الرافض بشكل حاسم وعلني ومتفاعل في رفضه حتى يمكن ايقاف حلقة العنف ، وبخلاف ذلك فإن موقف النسيان أو التناسي سوف يكون أقرب ما يكون إلى الموافقة الخجولة برداءتها والتي تعكس في نتائجها المقوله التراثية “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”.
التاريخ: 27/11/2024