غزّة تتحدى الثوّرة.. المضادة
بقلم: محمد عبد الوهّاب*
من مفارقات التحولات الاجتماعية الكبرى أنها تظهر إلى الوجود بشكل فجائي وكأنها خلقٌ من عدم، إذ تنفجر لأسبابٍ لا تتناسب مع عظم حجمها. فهل يعقل أن حدثاً بوزن الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها أكثر من عشرين مليوناً من البشر وانهارت فيها دولاً وإمبراطوريات يكون مكافئاً لإقدام طالب صربي على اغتيال ولي عهد النمسا! هل اغتيال بعض سفراء جنكيز خان من قبل الدولة الخوارزمية مكافئاً لاجتياح المغول للعالم الإسلامي من شرقه لغربه طوال عقود لاحقة فقدت فيها الأرض قرابة 10% من سكانها أو يزيد!
إنّ قوانين المحافظة والبقاء التي تقوم عليها العلوم، والتي تحتم التساوي بين النتائج وأسبابها، تقودنا إلى أنّ الأسباب السابقة لا يمكن أن تكون هي الدوافع الرئيسية وراء تلك الأحداث الجسام، وإنما هي مجرد أسباب ظاهرية ذات جذور شديدة التشعب والامتداد في رحم الزمن.
ولا تنشأ الثورات من فئة تلك الأحداث الجسام، من فراغ، وتؤدي، عندما تكتمل، إلى تغيرات جذرية في بنى المجتمع كما لو انه قد استُبدل بخلق جديد. وربما كان من تعُقّد أسبابها وتشعبها في الزمن أنها لا تحدث بشكل متصل وإنما بدورات متقطعة كما ألمحنا إلى ذلك في المقال السابق.
في هذا المقال، نحاول أن نتتبع بعض علل تلك الحالة الثورية المتقطعة وأسبابها البعيدة.
حتمية الردة الاجتماعية
ربما يكون أول ما يجب الوقوف أمامه أن الثورة بطبيعتها آخر خيارٍ تلجأ إليه الشعوب بعد أن تتراكم كل أسباب الفشل والفساد والقمع؛ ثمرات الإستبداد الفاسدة. فالإستبداد يؤدي إلى الفساد، والفساد يُتوج بالفشل، والفشل يدفع إلى القمع هرباً من المحاسبة والسؤال. وكل مرحلةٍ من تلك تعرك المجتمع وتُشوه خصاله. فالفساد يقلب النظام الإجتماعي، إذ يُروج لكل غث، فيتقدم التافهون والأفاقون ويُحتقر ويُضطهد الأكفاء المصلحون، وتنقلب على أثر ذلك قيم المجتمع. فتصبح الشجاعة تهوراً وعنترية، والكرامة صلفاً وغروراً، والغيرةُ رجعّيةً، والإنتماء تخلفاً.. بينما يصير الجبن حكمةً، والذل سياسةً، والسرقة إستثماراً، والتبجح حريةً. ويزيد الفشل من تحطيم تلك القيم ويخلق المزيد من المشاكل التي ربما لم تخطر ببال محتل. فنجد من يهدم التاريخ بمطرقة التحديث ويُفرّط في السيادة باسم الاستثمار. ينعكس ذلك بالتبعية على سلوك الناس. فما يجمع بينهم هو مجموعة من القيم والمبادئ والتاريخ قبل أن تكون الحدود، فكم من شعب منقسم داخل حدوده، وكم من شعوب مختلفة الأعراق واللغات والحدود انصهرت في أمةٍ واحدة بفعل تلك المبادئ المشتركة والتاريخ الموحد. عندما تتحطم تلك القيم والمبادئ تأخذ الروابط التي تُشكّل المجتمع في الذوبان وتتقدم المصلحة الفردية على ما عداها. والمصالح الفردية بطبيعتها متضاربة وتدفع إلى المزيد من الصراعات وتُعمّق الأزمات الموجودة بالفعل. ويأتي القمع على ما بقي للإنسان من كرامة فيموت بداخله الدافع إلى التغيير والتطوير، وكما هو معروف، لا يُشيّد المجد ذليلاً.
عندما تلازم تلك الإنحرافات مجتمعاً ما لفترة طويلة فإنها تكاد تطبعه بطابعها. تهّبُ الثورات على مثل هذا الواقع الثقيل محاولةً تصحيح تلك الإنحرافات. فيكون طبيعياً أنّ تتعثر الثورة أمام تلك التحديات، وإن حدث وتجاوزتها فإن ذلك يكون مرحلياً فقط، وتعقبها ردة حتمية لما كان سائداً قبلها، كما ذكرنا في المقال السابق. ونجد لذلك مثلاً أيضاً في الصراعات التي حدثت في صدر الإسلام. فمع موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدّت معظم القبائل العربية عن الدين جملةً، ومع استشهاد الإمام علي ختمت مرحلة النبوة والخلافة بردة عن روح الدين، فعادت العصبية والتفرقة بين الناس.
ويمكن إسقاط ذلك النموذج على الكثير من الثورات التي نجحت في زمن مُفجّريها وإنطفأت بموتهم بفعل تلك الردة الإجتماعية الحتمية تقريباً. فالفردانية التي تسود المجتمع بطول مقام الإستبداد به تعزل الفرد عن المشاركة بالثورة وحمايتها. كما أن قلب المنظومة القيمية للمجتمع تُنفره من الثورة التي تروج لمبادئ تتصادم مع الإنقلاب القيمي الذي ساده لقرون، وبذلك سرعان ما تخفت نار الثورة على مستوى المجتمع كله.
الهزائم وإفرازاتها التنويريّة
إن مجتمعاً شُوّهت قيمه ومُزّقت روابطه وذُل أفراده وبُدّدت مقدراته خليقٌ به الهزيمة. بل تتناوب عليه الهزائم التي تُجهز على ما بقي من قيمه ومقدراته كما تنبأ ابن خلدون ” فالمهزوم مولع بتقليد المنتصر”. وتعاقب الهزائم يقضي على ما بقي من ثقة بالذات ويجعل الأفراد والمجتمعات تُسلّم بالتبعية لقاهريها. ومن هنا تصبح المجتمعات هشة أمام الغزو الفكري. فتقبل، بل تتبنى أطروحات خصومها. ويعمد هؤلاء الخصوم على وأد أي مجد سابق وتشويهه للقضاء على أي إحتمال لنهوضها. فتصبح العقائد وجهة نظر، والأبطال التاريخيون عبارة عن مجرمين، والثورات مجرد سعي وراء سلطة ومجد شخصي ويصبح قادتها عناوين للهزائم. في ظل هذا التيه يفقد المجتمع روحه ومُثُله وتُفرض عليه إجابات لأسئلة لم يسألها.
في هذا السياق، يشرع التنويريون الذين يقتاتون على الهزائم في خلق معارك تُعمّق من التيه أكثر مما ترشد إلى الطريق الصحيح. لسنين طويلة تُسّعر المعارك في منطقتنا عن الكهنوت الديني والتفسيرات المنحرفة للدين التي أدت إلى تخلفنا تقليدا للنهضة الأوروبية! فهل كنا نعاني مثل أوروبا من تسلط رجال الدين؟ أوهل كانت النهضة الأوروبية تمرداً على الكاهن وحده، أم على الكاهن والملك معاً؟
إن التنوير الحقيقي اشتباك مع الواقع الحاضر قبل أن يكون مع الماضي. ويُسقى بالتضحيات والدماء لا بالجدل. رحم الله أحمد شوقي عندما قال:
سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ/ شَفَتَي مُحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا
عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ/ فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا
إِنَّ الَّذي خَلَقَ الحَقيقَةَ عَلقَماً/ لَم يُخلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ جيلا
وَلَرُبَّما قَتَلَ الغَرامُ رِجالَها/ قُتِلَ الغَرامُ كَمِ اِستَباحَ قَتيلا
لَو كُنتُ أَعتَقِدُ الصَليبَ وَخَطبُهُ/ لَأَقَمتُ مِن صَلبِ المَسيحِ دَليلا
أما تنوير الهزيمة فهو تنويرِ للمحتل أو المستبد – وجهان لعملة واحدة – حتى يهدأ روعه بموت كل أمل في مكافحته، وظلام على مجتمع تائه بإطفاء كل شمعة في ماضيه يمكن أن يهتدي بها في ظلامه.
غياب المشروع الجامع
ومن أكبر معوقات الثورات غياب المشروع القادر على توحيد المجتمعات. ولا يكون ذلك إلا إذا كانت تلك المشاريع من إفراز المجتمع نفسه بحيث ترتسم فيها معالم كفاحه وتشخص رحلته الوطنية وتضع تصورات لأسئلته هو. في ظل التنويرالمظلم ذاك تُفرض على المجتمع أسئلة قد لا تناسبه، تدور حولها الصراعات وتكون النتيجة الحتمية خسارة الجميع لخطأ الأسئلة منذ البداية.
في الميدان العلمي، يتربع السؤال على عرش العبقرية لا الإجابة. فما يُميّز العالم العبقري عن غيره هو عمق سؤاله وإن كانت إجابته قاصرة. وقد غرقنا منذ عقود في أسئلة استوردناها عن الحريات والديموقراطية والمساواة لم نفرزها نحن، وحتى لم نُكيّفها مع ما يتناسب مع تجربتنا القومية، فصارت بذلك عنصراً من عناصر تشتيت الثورات. ولذا غالباً ما تثار تلك الأسئلة عقب الثورات ممن يسعى إلى إخمادها فهي من أكثر الأسئلة زرعاً للفرقة لشدة الإختلاف على مدلولاتها وحدودها. فتُثار أسئلة من نوع هل الدستور أولاً أم الإنتخابات الرئاسية أم المجالس النيابية؟ هل المحاكمات تكون مدنية أم عسكرية أم ثورية؟ أي نوع من الحكم نبني، الملكي أم الرئاسي أم البرلماني أم الدستوري.. وهلم جرا. فتصبح مثل الأسئلة التي وجهت إلى الإمام زيد عن رأيه في الشيخين أبي بكر وعمر وهو في خضم معركته مع هشام بن الوليد فتفرق أنصاره.
إن الأسباب السابقة لتعثر الثورات أسباب قديمة في المجتمعات التي فسدت نظمها لعقود، وربما قرون، وهي قادرة بمفردها على إخفاق الثورات. ولكنها حتماً تكتسب زخماً أكبر من مجموعات القوى التي تأتي الثورات على مصالحها. فهي التي تُسرع من الردات الإجتماعية وتُسّعر من الصراعات حول الأسئلة الغريبة على المجتمع وتستثمر في مرتزقي التنوير. في ظل هذا الواقع المرير، تأتي الثورات كلمحات برق سرعان ما تخفت. هي أقرب إلى جهاز صدمات القلب الكهربائية الذي يتحتم تكرار استخدامه بطاقات مختلفة صعقاً للقلب المحتضر علّهُ يفيق. فيمكن أن تخمد نار الثورة فترة، ولكن بعد أن يكون هناك أفراد قد أصابوا من تلك النار جذوةً.. تبشر باعادة اتقادها في زمنٍ لاحق. ولذا تأتي الثورة على دفقات ثورية ممتدة عبر العصور.
غزة تتحدى وتنور
ولا أغامر إذا قلت إن منطقتنا العربية على موعدٍ قريب مع هبّة ثورية أخرى مُتمّمة للهّبات الممتدة على مدى ثلاثة قرون. فهل ستكون تلك الآتية هبةً مرحليةً كسابقاتها التي خنقتها الأسباب السالفة أم ستكون الخاتمة؟
ليست الإجابة هينة بالقطع، ولكن الأكيد أن غزة سوف تترك أثراً كبيراً في مجرى الثورات الآتية. فمن غزة يبدأ التنوير الحقيقي. وكل تنوير يسل سيفه على الماضي مسنداً التخلف له، بينما ينحني أمام سلطة تُدمّر كل شيء وتُمزق المجتمع تمزيقاً وتجعل أهله شيعاً وتستضعفه وتعلو في الأرض، ليس إلا خيانةً. فالتنوير الحقيقي اصطدام بالواقع لا بالماضي، وفضح لزيفه لا تغطية لموبقاته.
إن قطعة أرض صغيرة ومبسطة ومكشوفة، يسكنها حوالي المليوني نسمة من أشرف الناس، محاصرة منذ سبعة عشر عاماً، تقاوم الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر قوة عسكرية في العالم وذلك منذ ثلاثة عشر شهراً.. وتنتصر! نعم فغزة انتصرت وإن أُبيدت، كما لم يحل اعدام سقراط دون انتصاره. أما سلاحها الذي قهر أعتى قوة عسكرية فهو العقيدة التي أشعل مرتزقة التنوير وممولوهم الحرب عليها عقوداً.
إن الإسلام التنويري الحق يأخذه العالم الآن فقط من غزة، لا من اي بلد آخر في العالم كله. ولقد شاهدنا انتشار المقاطع التي تقف أمام آياتٍ بعينها تطابق ما يحدث على أرض الواقع وكأنها حديثة النزول. ورأينا كيف حرّك صمود غزة وأهلها فضول الغربيين لدراسة تلك العقيدة التي تُعزّز صمودهم وأخذوا يفهمون القرآن بأفضل مما فهمناه.
لقد كشفت غزة المتاجرين بالدين الذين أشعلوا الحروب المذهبية في عالمنا العربي والإسلامي وقاتلوا من أجل السواك واللحى ولم يُسمع لهم صوت من حرق الناس أحياءً وتجويعهم وصراخ الأطفال والثكالى.
لقد فضحت غزة التنويريين الذين تحدّثوا عن دموية التراث وإرهابه وبشّروا بالحداثة الغربية التي تسمو بالإنسان إلى مصاف الآلهة كما بشر نيتشه. نعم، أعادت غزة ثقة الشعوب العربية بتراثها الذي طالما اتهم بأنه سبب تخلفها وإذ بغزة تنتصر به. فما جرى وما يجري في غزة هو تنوير حقيقي أكثر من كونه مجرد صراع ضد محتل، والدليل على ذلك أن أكبر المتأثرين بها والمنفعلين معها هم طلاب الجامعات وأساتذتها حول العالم حيث الفكر والبحث..
هي غزة تهدم أصنام الحضارة المادية وغرورها ومشاريع التنوير المضلل والتدين المزيف الذي يهدم روح الدين ويقلب شجرته، كما قال الشيخ الغزالي. غزة تفضح أيضاً كل مراكز القوى التي تجثو على صدور شعوب المنطقة وتقود الثورات المضادة.
كنتُ قد أشرتُ في مقال سابق إلى تحريض نوري السعيد لأنتوني إيدن على جمال عبدالناصر إبّان قرار تأميم قناة السويس وأشرتُ إلى أن مثل هذا التحريض لا بد حاصل في كثيرٍ من الغرف المغلقة للحكومات العربية ضد غزة، وشاء القدر أن تتكشف ملامحه بسرعة تتناسب مع طبيعة العصر لتنكشف فصول جديدة من الخيانة المتأصلة.. فهل ستكون ردات الفعل بالسرعة نفسها؟
*كاتب مصري