ما بعد أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت.. إسرائيل إلى مزيد من العزلة الدولية
بقلم: إلياس فرحات*
أما وأن المحكمة أصدرت مذكرتي الاعتقال، فإن إسرائيل والولايات المتحدة تصدرتا المواقف المعترضة والشاجبة، فيما رحّبت معظم دول العالم بموقف المحكمة. هذه المقالة تتناول ماهية المحكمة وآلية عملها وصلاحياتها وما بعد إصدار مذكرتي التوقيف.
أولاً؛ ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟
المحكمة الجنائية الدولية وجدت في أواخر القرن الماضي من أجل عدم إفلات مرتكبي الجرائم الكبرى والإبادة من العقاب لأن القوانين في الدولة التي يتبعون لها لم تحاكمهم أو قرّرت العفو عنهم. إنها محكمة تلاحق المرتكبين خارج حدود دولهم إلى داخل حدود الدول الموقعة عليها.
أنشئت المحكمة في ١٨ يوليو/تموز ١٩٩٨ عندما وقّعت ١٢٣ دولة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وصدّقته في ٩ حزيران/يونيو ٢٠٠٠؛ وإعتباراً من الأول من تموز/يوليو ٢٠٠٠ أصبح نظام المحكمة قيد التنفيذ بعد أن صادقت عليه برلمانات ستين دولة.
ثانياً؛ ما هي صلاحيات المحكمة؟
تشمل صلاحية المحكمة “أخطر الجرائم التي تمسّ المجتمع الدولي بأكمله” التي ارتكبت بعد دخول نظام روما حيز النفاذ وتشمل ما يلي: جرائم الإبادة؛ الجرائم ضد الإنسانية؛ جرائم الحرب؛ جريمة العدوان التي أضيفت عقب مؤتمر التنقيح الأول لنظام روما الأساسي في حزيران/يونيو 2010.
وتجدر الاشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تحاكم أفراداً على جرائم ارتكبوها، ولا تحاكم دولاً. هذه المحكمة دولية ولكنها ليست تابعة للأمم المتحدة. والفرق بينها وبين محكمة العدل الدولية أن هذه الأخيرة جزءٌ من هيئات الأمم المتحدة (الجمعية العامة، مجلس الأمن، الأمانة العامة، محكمة العدل الدولية، المجلس الاقتصادي والإجتماعي). كل دولة عضو في الأمم المتحدة تلتزم مقررات محكمة العدل الدولية. بينما المحكمة الجنائية الدولية تلزم الدول الموقعة عليها فقط. ليس لدى المحكمة لا جهاز شرطة ولا جيشاً خاصاً بها. فهي تعتمد على الدول في القبض على المشتبه بهم وتسليمهم. وتبقى أوامر القبض سارية المفعول مدى الحياة ما لم يُقرّر قضاة المحكمة خلاف ذلك. مقر المحكمة هو في مدينة لاهاي في هولندا.
ثالثاً؛ ما هي أبرز الدول الموقعة؟
معظم الدول الأوروبية وخصوصاً فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وجميع دول أميركا اللاتينية ونحو نصف الدول الإفريقية. أما الدول غير الموقعة فأبرزها الولايات المتحدة وروسيا والصين والدول العربية ما عدا الاردن والسلطة الفلسطينية وجزر القُمُر. (من سخرية الأقدار أنه يتوجب على السلطة الفلسطينية حسب نظام روما أن تعتقل نتنياهو وتسلمه إلى لاهاي).
رابعاً؛ كيف يسير عمل المحكمة؟
يُقدّم المدعي العام لائحة اتهام واقتراحات باصدار مذكرات اعتقال للأشخاص المتهمين. تدرس هيئة المحكمة اللائحة وتُقرّر اصدار مذكرات اعتقال أم لا. تلتزم الدول الموقعة تسليم المطلوب إلى مقر المحكمة في لاهاي وتبدأ محاكمته. ومن أبرز من صدرت بحقهم مذكرات اعتقال وتوقيف رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلر والرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش والرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير (بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة). وقد تنقل عمر البشير بين عدة دول (أبرزها السعودية وسوريا) ولم يُعتقل لأنها غير موقعة على نظام روما وهو حالياً معتقل في السودان، الدولة غير الموقعة على نظام روما. أيضاً صدرت بعد حرب أوكرانيا مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكنه لم ينتقل بعدها إلى أي بلد مُوقّع على المعاهدة وأناب عنه وزير الخارجية سيرغيه لافروف لحضور مؤتمر “البريكس” في جنوب إفريقيا، كونها دولة موقعة على نظام المحكمة.
خامساً؛ إصدار مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت:
فور الإعلان عن طلب المدعي العام اصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، صدرت اعتراضات أميركية وخصوصا من مجلس الشيوخ الأميركي ووجه ١٢ سناتوراً رسالة إلى مدعي عام المحكمة الدولية أبرز ما جاء فيها أن هذه المحكمة لم تأمر باعتقال المرشد الإيراني علي خامنئي ولا الرئيس السوري بشار الأسد ولا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ولا الرئيس الصيني شي جي بينغ. واعتبر هؤلاء أن استهداف إسرائيل هو استهداف لسيادة الولايات المتحدة، ولوّحوا بوقف جميع أشكال الدعم للمحكمة وبمعاقبة هيئاتها وموظفيها وفرض حظر على دخول عائلاتهم إلى الولايات المتحدة، وختموا الرسالة بعبارة: you have been warned اي أعذر من أنذر. ومن أهم الموقعين على الرسالة السناتور ماركو روبيو (معين وزيراً للخارجية في ادارة دونالد ترامب)، تيد كروز (مرشح رئاسة سابق)، ميتش مكونيل (زعيم الأغلبية السابق). وكان المدعي العام عمران خان كشف قبل عدة شهور أنه تلقى اتصالاً من “شخصية كبيرة” هدّدته وقالت له: “أنشأنا المحكمة لإفريقيا وللبلطجية مثل بوتين وليس للغرب وحلفائه”.
سادساً؛ عراقيل أمام المحكمة:
تعرّضت المحكمة لاتهامات كثيرة بينها في ٥ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٤ عندما تم اتهام المدعي العام عمران خان بـ”التحرش الجنسي”، ما هدّد بنية المحكمة وقدرتها على اصدار مذكرات توقيف وتعزّزت هذه المخاوف بعد اعلان المحكمة في ٢٨ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٤ أنها ستُغير لأسباب صحية واحدة من القضاة الذين سوف يبتون في طلب ممثلي الإدعاء اصدار مذكرة توقيف بحق نتنياهو، ما يؤدي إلى مزيد من التأجيل في بت القضية (القاضية الرومانية يوليا موتوك وحلّت مكانها القاضية السلوفينية بيتي هولر).
سابعاً؛ مذكرات الإعتقال:
في ٢١ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت وقائد “كتائب عزالدين القسام” محمد ضيف (هناك تأكيد إسرائيلي لاستشهاده وتجاهل للأمر من جانب حركة حماس)، وأضافت المحكمة أن جرائم الحرب المنسوبة إلى نتنياهو وغالانت تشمل استخدام التجويع سلاح حرب، كما تشمل جرائم ضد الإنسانية، تتمثل في القتل والاضطهاد وغيرهما من الممارسات غير الإنسانية. وأكدت المحكمة أن قبول إسرائيل باختصاص المحكمة “غير ضروري”، واعتبرت أن الكشف عن أوامر الاعتقال يصب في مصلحة الضحايا.
ثامناً؛ مفاعيل المذكرات:
أصبح نتنياهو مطلوباً للعدالة الدولية وتلطّخت سمعته وسمعة ودولته العنصرية لأنه مارس الإبادة وجرائم الحرب بصفته رئيساً لحكومة إسرائيل وقائداً أعلى للقوات المسلحة الإسرائيلية. وعليه، يجب أن تتخذ الدول الموقعة على نظام المحكمة اجراءات ضد حكومته أقلها عدم تزويدها بالسلاح كما تفعل ألمانيا وبريطانيا، وهما دولتان موقعتان. لا يمكن الاكتفاء بالقول إنه إذا حضر إلى هذه الدولة أو تلك سنوقفه ونودعه مقر المحكمة في لاهاي. على الدول والمنظمات الحقوقية التركيز على وقف التسليح لأن هذا السلاح سوف يوضع بإمرة مطلوب للعدالة الدولية. فهل تلتزم الدول الموقعة وغير الموقعة بوقف الاتصالات مع حكومة يرأسها نتنياهو المطلوب لهذه المحكمة الدولية وتجمد أو تقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية طالما هو يرأس السلطة التنفيذية في تلك الدولة؟
تاسعاً؛ ردود الفعل الأوروبية والأميركية:
يمكن القول إن المحكمة الجنائية الدولية صناعة سياسية قضائية أوروبية لم تستسغها باقي القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. لذلك سارعت الدول الأوروبية وكندا لتأييد مذكرات الاعتقال، وأبدت استعدادها لتنفيذها (أي توقيف نتنياهو وغالانت فور دخولهما أراضي تلك الدول). لكن الموقف في الولايات المتحدة كان معارضاً بعنف لاصدار هذه المذكرات. الرئيس جو بايدن انتقد اصدار هذه المذكرات وأعرب عن دعمه لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس. وبالطبع تحركت اللوبيات الصهيونية ضد المذكرات وضد المحكمة الجنائية الدولية. لكن الملفت للانتباه كان في معسكر الرئيس المنتخب ترامب حيث قال مستشار الأمن القومي المعين مايك والتز: “توقعوا رداً قوياً في يناير/كانون الثاني المقبل (موعد تولي ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة في 20 كانو الثاني/يناير 2025) على تحيز المحكمة الجنائية الدولية المعادي للسامية”. وأضاف أن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بأي مصداقية، وأن إسرائيل “دافعت بشكل قانوني عن شعبها وحدودها ضد الإرهابيين”.
ووقع خبر صدور المذكرتين كالصاعقة على رؤوس المسؤولين الإسرائيليين في الحكم والمعارضة. فقد أدان نتنياهو قرار المحكمة بإصدار مذكرات اعتقال بحقه وغالانت، ووصفه بالمخزي والمعادي للسامية، ودعا وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير للرد على المذكرات بفرض السيادة على الضفة الغربية وتعزيز الاستيطان وقطع العلاقات مع السلطة الفلسطينية التي وصفها بالإرهابية. ومن المتوقع أن تُؤدي هذه المذكرات إلى نزاع أوروبي أميركي يشمل فهم الجانبين لقضايا القانون الدولي والعدالة الدولية إلخ.. ومن جهة، تبدو الدول الأوروبية محرجة أمام شعوبها طالما أنها تُروّج أمامها يومياً لاحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، وهي مضطرة لاحترام قرارات المحكمة ولا يبدو أنها مستعدة لتمييعها لأن مصداقيتها على المحك ولكنها غير قادرة على مواجهة الولايات المتحدة من جهة أخرى. أما في الولايات المتحدة فقد تتوسع الإدارة الجديدة في مسار وقف تمويل المنظمات الدولية وحلف شمال الأطلسي وتزيد من عزلتها وقد يدخلنا ذلك في وضع دولي جديد وسط صمت وترقب من كل من روسيا والصين.
عاشراً؛ تداعيات قرار المحكمة على مكانة إسرائيل:
لقد تسببت حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر بعزلة دولية لإسرائيل، عبّرت عنها مواقف الكثير من الدول، شرقاً وغرباً، بمعزل عن فاعليتها أو عدم فاعليتها، كما رصدنا الحراك الطلابي الأميركي غير المسبوق منذ حرب فيتنام ومثله في العديد من العواصم الأوروبية، فضلاً عن مظاهرات عمّت العديد من عواصم أوروبا، إحتجاجاً على حرب الإبادة المستمرة، ومن المتوقع أن يؤدي صدور المذكرتين إلى تقييد سفر رئيس الحكومة الإسرائيلية وإلى إحراجات ديبلوماسية وسياسية للعديد من الدول التي ستكون مضطرة للتجاوب مع قرارات المحكمة من جهة، وتبدي خشيتها من اتهامها إسرائيلياً بمعاداة السامية إذا قرّرت تنفيذ المذكرتين من جهة ثانية. وفي الوقت نفسه، ستجعل إسرائيل موقف هذه الدول معياراً لتعاملها أو استقبالها لأي مسؤول ينتمي إلى دولة أيّدت قرارات المحكمة، وهذا الأمر سيؤدي في النهاية إلى زيادة عزلة إسرائيل دولياً.
*عميد ركن متقاعد