“باب الحنين” للمبدعة “إنصاف قلعجي”.. موسوعة معرفية ودرس ناجع في الصحافة الثقافية

بقلم: الشاعر هادي دانيال

أوّل أمس تسلّمْتُ من البريد التونسيّ هديّة ثمينة من صديقتي الأثيرة القاصة والناقدة الأردنية الكبيرة “إنصاف قلعجي”، هي كتابها الجديد “باب الحنين” الصادر هذه السنة 2024عن مؤسسة “هبة، ناشرون وموزعون”.

وفور وصولي إلى مكتبي شرعت في قراءته، وعلى الرغم من أنني قارئ بطيء، فرغتُ من قراءته في بضع ساعات وهو الذي يقع في 310صفحات من القطع الكبير 17/24سم. وبين دفتيه 107من النصوص والمقالات. لماذا؟ بعبارة موجزة: لأنّ تلك النصوص والمقالات كُتبت بأسلوب صحفي رشيق وشيّق وبليغ في آن بسرده وتقريره النقدي وتضميناته.

معظم مقالات “باب الحنين” انطلقت من كتب فرغت “إنصاف” من قراءتها وأبدت بشأنها ملاحظاتها النبيهة. فكاتبتنا توظف ما تقرأه في سياق تدعيم مواقفها ازاء ما تمر به أمتنا والبشرية قاطبة، ولذا قد يحيلها ما قرأته في الكتاب الذي يكون موضع الملاحظة إلى ما كان قد ورد في كتاب آخر يطفو على الذاكرة ويؤكد ملاحظاتها. إنّ ذاكرة المبدعة الكبيرة عامرة بالكتب، فكلّ مبدع كبير قارئ كبير بالضرورة.

وقارئ نص أو مقال “إنصاف قلعجي” في هذا الكتاب، لا يلفته فقط حرصها على تقديم المعلومات الأولية عن الكتاب الذي تقرأه وعن كاتبه، بل يلفته خاصة الذائقة الرفيعة في قطْف نموذج من الكتاب لإغراء قارئها بقراءة كلّ ما قرأته. وهذا يجعلني أدعو المعنيين هذه الأيام بتحرير الصفحات أو الفضاءات الثقافية بالعودة إلى “باب الحنين” كي يتعلموا ويتعلّمْن كيفية تقديم كتاب جديد للقارئ (بعد أن يكون هؤلاء المحررون قد قرأوه كلمة كلمة من غير أن يكتفوا بما ورد على الغلاف مع تصفُّح سريع في “أحسن” حال).

فضلاً عن ذلك كله، بقدر ما ينبهر القارئ بذكاء ملاحظات الكاتبة “إنصاف قلعجي” وبذاكرتها الخصبة وبنبْل مواقفها التي لم تحد عنها يوما (في زمن التفاهة)، بقدر ما يشعر قارئ “باب الحنين” بأنّ نصوص هذا الكتاب ومقالاته كُتِبَتْ بمحبّة على إيقاع دقّات قلب كبير يحرسها وعْيٌ عقلاني واضح البوصلة فيفوزُ قارئها بعدوى حميدة، عدوى محبة الكتب التي تقدمها كاتبتنا وقارئتنا الكبيرة واحترام المرجعية الفكرية التي لا تغادر ظلالُها “بابَ الحنين”.

“نصوص ومقالات” هكذا صنفت المؤلفة أو دار النشر كتاب “باب الحنين” أجناسياً، والمتابع للمبدعة “إنصاف قلعجي” يدرك أنّها نشرت هذه “النصوص والمقالات” دوريّاً في صحيفة “المجد” الأردنية، وربما كان الحافز المباشر لنشأة مادة “باب الحنين” هو الالتزام بكتابة نص أو مقال يليق بسمعة قلمها في هذه الصحيفة الجادّة، ولذلك عندما بلغها قرار توقف “المجد” عن الصدور اعتراها شُعورٌ غريب بأنها فقدت حافزا على إكمال مقالات كانت بصدد إنجازها فلم تتمكن من إكمالها لاحقاً. (مقال “أيّ غربة هذه.. و”المجد” ترحل..” ص301-303)، وهنا للمرء أن يتساءل عن حوافز الإبداع التي غابت وتغيب بتغييب منصات الإبداع وجسوره مع المتلقي كالمجلات والصحف الورقية ودور السينما وصالات العرض المسرحي التي أرادوا من تعويضها بالأنترنت وتفريخاته الأرنبية مسخاً متعمداً لبعضٍ مهمّ من حوافز الإبداع الإنساني.

ثمّة ما أردت أن أضيفه هنا، سبقني إليه وإلى أكثر منه شاعرُ العراق الكبير الأستاذ “حميد سعيد” صديقنا المشترك الذي نعتزّ به.

كتب “حميد سعيد” على الغلاف الأخير لكتاب “باب الحنين”:

“في هذا الكتاب، تفتح الكاتبة إنصاف قلعجي، باب الحنين، فتُطلُّ منه ونُطلّ معها، على عالم معرفيّ متعدد الرؤى والمصادر.

ونكون معها في ما قرأت وما سمعت وما رأت، وما تشكّلَ من كلّ هذا، من وعي يظهر في الفكر وجماليات الكتابة، في آن.

فقدّمتْ للمتلقي موسوعة تناولت فيها مجموعة من الإنجازات الثقافية، أدبية وفنيّة، ومواقف اجتماعيّة وموضوعات سياسية وقضايا وطنية وقومية وإنسانية، إلّا أنّها فيها جميعاً، لم تتجاوز فضاء العقلانية ولم تدخل مُدخل العواطف المنفلتة، حتى في عناوين سياسية مازالت ساخنة، وما زال الخلاف بشأنها حاضرا، لأنّ مصدر الخلاف هذا، هو النظر إليها من منظور العواطف المنفلتة، لا من منظور عقلاني.

إنّ باب الحنين، بكلّ ما انفتحَ عليه من عناوين وقضايا وموضوعات، شهادة موضوعية ذكيّة، عن العصر، بتعدده من جهة وانفتاحه وتواصله معرفياً، من جهة أخرى، وهو موقف في الضدّ من التعصُّب والانغلاق، ومشاركة مهمّة في التجديد.

وهو موقف نقديّ من سلبيات المرحلة، فكريّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، في المجالين الداخلي والخارجي.

وأقول من دون تردُّد، إنّ مَن ينتهي من قراءة باب الحنين، سيكون أكثر معرفة، مما كان عليه قبل قراءته.”

ولمن فاته أن يعلم مَن هي “إنصاف قلعجي”، نشير إلى أنّ هذه المبدعة الأردنية (من أصل سوري) سبق أن أصدرت في عمّان وبيروت عدّة مجموعات قصصية نذكر منها “رعش المدينة”1990، “النسر في الليلة الأخيرة”1999، “ساحة الحناطير” 2009، “يا خائط الخلاثق خطْني” 2014، إضافة إلى صدور مجموعتها القصصية “ثرثرة في مدار السرطان” في تونس سنة2015، عن دار بيرم للنشر بصفاقس. هذا إضافة إلى كتب نقدية نذكر منها كتاب “تطواف في حدائق الموريسكي: عن الشاعر حميد سعيد” الذي صدر في عمّان سنة 2021عن مؤسسة “هبة: ناشرون وموزعون” أيضا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى