الديموقراطية في عصر ما بعد الحقيقة
بقلم: صلاح سالم*
منذ السبعينيات الماضية، أخذ عصر الصورة يحلّ بديلًا لعصر الفكرة، ليدخل عالم السياسة قادة مراوغون، وعودهم أكبر من طاقتهم، للمحيطين بهم دورٌ أساسي في تشكيل صورتهم. وقد غذَّت نهاية الحرب الباردة هذا الاتجاه.
توارى الصراع الإيديولوجي وما يستثيره من مثاليّات أمام الحسابات الماديّة والمشكلات التقنيّة التي تدور في فلك إشباع الرّغبات المحمومة للمستهلكين في السوق المُعوْلم، خصوصًا بعد أن تحوّل اليسار السياسي الأوروبي عن أحلامه الكبيرة بتغيير المجتمع جذريًا، مكتفيًا بتحسين بعض شروطه، ومستسلمًا للرأسماليّة باسم الواقعيّة. وأخيرًا، ذبول اليسار الثقافي وانطواؤه على نفسه بعد أن توارت مدرسة فرانكفورت برحيل مؤسسيها الكبار “تيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” و”هيربرت ماركوزا” حتى بدا “يورغن هابرماس”، من الجيل الثاني لها، عصفورًا وحيدًا لا يصنع ربيعًا حقيقيًا.
مطلع القرن الحالي، برز دور وسائط التواصل الاجتماعي التي امتصّت الجدل الثقافي والسياسي في أقنية العالم الافتراضي بديلًا عن المنتديات الواقعيّة، وحل الفرد ككائنٍ تواصلي نشِط محلّ الحزب والمؤسّسة والصحيفة. ومن ثم، أصبح العالم ساحةً صاخبةً لمعارك وصراعات لا رابط بينها، وبات طلب السلطة والتنافس عليها يدور في فلك الإغواء والإيهام والتحايُل بديلًا عن الخطابات الإيديولوجيّة التي تنطوي على رؤيةٍ للعالم وتصوّراتٍ للمستقبل، فالنّاخب في جمهوريّة التواصل الاجتماعي لا يبحث عن جذور القضايا المُثارة ولا يرهق نفسه بالأسئلة الصعبة حول عدالتها وإنسانيّتها بل يطلب حلولًا بسيطة لها، تتوافق مع وعيه الاختزالي، ومن ثم وُلد عصر ما بعد الحقيقة.
في هذا العصر، حيث الظلّ يسبق الجسد، والألفاظ تُغني عن المعنى، بات ممكنًا أن تُدار المعارك ويُغتال الأشخاص معنويًا على مذبح الوسائط التكنولوجيّة، تحت أقدام طوفان المعلومات والصور التي يجري تبادلها كل لحظة في تيارٍ فيّاض يكاد يُغرق الجميع من دون تدقيقٍ أو حذر، بل ربما بتعمّد ترويج الكذب، فطبيعة تلك الوسائط تفترض من المرسِل والمستقبِل سرعةً في ردّ الفعل، وإيجازًا في التعبير عن الانفعالات والمشاعر والأفكار، فما يقبل التبادل هو الأخفّ وزنًا والأصغر حجمًا والأكثر مباشرةً، وهنا يتراجع كل ما هو عميق من أفكار ويتقدّم كل ما هو بسيط من معلومات؛ فالمعلومة كي تصبح فكرةً ذات معنى ودلالةً عن شيء إنما تحتاج إلى مساحةٍ من الخيال تتحرّك فيها، لا تكاد تتوافر في ظلّ صخب الوسائط الشبكيّة، والانفعال المسيطر على مستخدميها.
فقد يختلف المفكّرون فيما بينهم على عمق التحليل، كما يختلف الأدباء في مساحات الخيال، ولكن يبقى لكليهما حق الادّعاء بأنّه مهموم بمصير الإنسان، أو معني بمفهوم الحقيقة، حسب أيّ تصور، ناهيك عما هو مؤكّد من جدّ واجتهاد وعكوف تفرضه كتابة أيّ نص ولو كان سيّئًا، فالسوء على هذا المستوى يعكُس تراكمًا يتطلب عَرَقًا ووقتًا وحدًّا أدنى من موهبة. وفي المقابل، لا يملك مدوّن “التويت” ولا كاتب “البوست” شيئًا من ذلك على الأرجح. ربما كان هذا الشخص أو ذاك مهمومًا بقضيّة ما، ولكن اهتمامه بها يأتي على طريقته الخاصّة جدًا.
ومنذ صارت “التويت” و”البوست” تتسيّدان الموقف الإنساني، بات العالم أسيرًا لقادة دون مستوى تحدّياته، لا تجذب الأفكار الكبرى أغلبهم ولا تمثل الحقيقة غايتهم. لقد مات مؤلف النص السياسي/الإيديولوجي إكلينيكيًا، ليصعد القارئ/الناخب على جسده، وهو الواقع الذي أجاد دونالد ترامب اغتنامه قبل ثماني سنوات ليصبح أقوى رجل في العالم بصياغة مواقف شعبوية عبّر عنها بطريقة مستفزّة ودراميّة، تخيّلنا أنّ استفزازيّتها سوف تهزمه منذ البداية، فإذا بدراميّتها تنتصر له في النهاية.
وفي ممارسته الفعليّة للسلطة كان الرجل وفيًّا لكل وعوده، صاغ معظمها انطلاقًا من وعيٍ غريزيٍ يقوم بأفعالٍ شرطية تنتمي إلى عالم الذهن بأكثر مما تنتمي إلى عالم العقل، ويدوس كل ما هو رمزي وأخلاقي، طالما كان ذلك ممكنًا لا تحول دونه قوّة صلبة.
وبعد هزيمة مدويّة نالها قبل أربع سنوات، قضاها في محاكمات لا تنتهي على قضايا مختلفة من قبيل التحريض على اقتحام الكونغرس، والتهرّب الضريبي، والتحرّش الجنسي، وبدلًا من المصير المستحقّ الذي توقّعه له كثيرون داخل السجن، إذا بالرجل يفاجئ العالم بالعودة إلى سدّة الرئاسة في البيت الأبيض، ليصبح تجسيدًا مثاليًّا لذلك النوع الخطير من الناس القادرين على إخضاع التاريخ للغريزة، والفكرة للصورة، والحقيقة لظلالها.
*كاتب صحفي مصري