معيار الإنسانية عند حلول الأزمات

بقلم: د. نضير الخزرجي

الفاصلة ما بين أن نرى ونسمع هي بقدر أربعة أصابع، وهي الفاصلة ما بين النظر والسمع (العين والأذن)، ولكن الفاصلة عظيمة بعدها عرض السموات عن الأرض، لها أن تتلاشى إلى نقطة الصفر عندما تجتمع الرؤية والسماع في آن واحد على واقع أو حقيقة تلتقط العين خيوط أنوارها وتستلم الأذن ذبذبات أوتارها، وإذا اختلفتا زمانا ومكاناً تباعدتا فلا تعد الحقيقة كما هي عين الحقيقة، وليس لنا إلا العودة إلى القرائن والأمارات للوقوف على الحقيقة التي وصلت إلينا سماعاً أو عبر مصادر مكتوبة ولا ندري مدى مطابقتها مع الواقع.
وفي حياة كل أمة فواصل تاريخية تركت أثرها في مسيرتها، يتلقاها الخلف عن السلف ودونتها كتب التاريخ وتناقلتها الأجيال، ولأن من رأى ليس كمن سمع أو قرأ، اختلفت القراءات والنظرات حولها، لكنَّ كتاباً واحداً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فتح لنا صفحاته وكشف عن آياته وأبان لنا عن فواصل تاريخية في حياة البشرية منذ أبينا آدم عليه السلام حتى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبث بين سوره آيات ناطقة عن مستقبل عشنا بعض وقائعه وعايشتها الأجيال، وما زال المستقبل يضم بين جنبيه الكثير مما خفي علينا رسمه وبان لنا اسمه.
لقد حدَّثنا القرآن عما جرى لآل فرعون عندما كفروا بأنعم الله وبرسالة موسى عليه السلام: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) الأعراف: 133، وحدثنا عن قوم عاد الذي كفروا: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) فصلت: 16، وحدثنا عن قوم صالح وظلمهم: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) القمر: 31، وتتعدد المشاهد القرآنية التي تكشف لنا وقائع ما جرى على الأقوام السابقة وتحذرنا مما سيأتي على الأقوام اللاحقة إن هم حذوا حذوهم، وليس ببعيد عنا هذا الذي يحذرنا منه الوحي الذي لا ينطق عن الهوى.
وإلى جانب وقائع القرآن الصادقة، تنقل لنا كتب التاريخ حوادث مؤلمة عاشتها الأمم السالفة، ولعلَّ أكثر الوقائع هي الأمراض والأوبئة التي حصدت الأرواح مثل الطاعون الذي ابتليت به معظم أمم الأرض، حتى إنَّ كتب التاريخ حدثتنا أنَّ الشخص كان إذا خرج من داره يحمل معه كفنه، لا يدري أيعود ثانية أم لا، واذا مات مات في الطريق لفه الناس بكفنه وتركوه على قارعة الطريق أو دفنوه إنْ كان محظوظاً.
ومع تطور العلوم بخاصة في مجال الطب، صارت بعض الأمراض من الذكريات، وكلما أمسينا على فراش الأمان متلفعين بغطاء الطمأنينة من زمان بلا طاعون أو وباء، صحونا بسَحَرٍ على وباء جديد، ولكن هذه المرة أعظم من قبل وأوسع مساحة وزماناً ولا يقف عند حدود بلد معين، ولعلَّ أهم وباء ضرب الكرة الأرضية في الألفية الثالثة الميلادية هو وباء أو جائحة الكورونا الذي أصاب البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها نهاية العام 2019م واستمر لسنوات ومازالت آثاره باقية إلى يومنا هذا ضارباً جهازتي التنفس والمناعة بمقبل، وأخذ من بين أيدينا وعلى عجل الكثير ممن نحبهم أو نعرفهم.
ولما كانت الجائحة امتحاناً صعباً لكل أبناء الأرض، وعند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان، فإن الجائحة بحق كشفت عن كوامن النفوس وبخاصة عند أولئك الذين بيدهم معاش الناس من أرباب السياسة والتجارة والأسواق الكبيرة والصغيرة بخاصة ما يتعلق بالإنسان من غذاء ومستلزمات شخصية ومنزلية، ونتج عن هذا الإمتحان ظاهرتا الإحتكار والجشع، وما رشحا عنهما من ارتفاع في الأسعار جعلت الملايين الملايين من البشر ينامون بلا عشاء في بلدان غنية ناهيك عن البلدان الفقيرة، فالأسواق احتكرت حاجات الناس وارتفعت معها الأسعار، وكثير من الناس كالجراد المنتشر أفرغوا رفوف المحلات والأسواق وكدَّسوها في بيوتهم وتحت الأسرَّة، فانعدمت الحاجات وغلت، وما زلنا وبعد مرور سنوات على الجائحة نعاني من غلاء المواد جميعها، صعدت شاهقاً ولم تنزل وادياً، والمواطن على السفح تعاني جيوبه من داء الخواء والإفلاس تلتهمه نيران الوسواس الخنّاس!

ظاهرة سرطانية
ظاهرة الإحتكار الذي خلفتها جائحة كورونا تداعت أمام ناظري وأنا أتابع قراءة كتيب “شريعة الإحتكار” للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر في بيروت حديثا (2024م) عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة، والذي ضمَّ إلى جانب مقدمتي الناشر والمعلق وتمهيد المؤلف (81) مسألة فقهية و(20) تعليقة للفقيه الفقيد الشيخ حسن رضا الغديري.
فالإحتكار هو مرض خفي يظهر للسطح كلما لاحت مشكلة تلامس احتياجات الناس على مستوى توفير الغذاء بخاصة والحاجات الاخرى بعامة، وهو داء نفسي وأخلاقي عضال عما تفرزه النفس الأمّارة بالسوء التي تسعى الى الربح السريع على حساب معاناة الناس بالإستفادة من واقع جديد تفرضها ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وطبية مثلما هي جائحة كورونا التي عطلت الحياة فارتفع منسوب شجع المحتكرين وقلّت درجات قناعة المتسوقين.
وفي هذا الكتيب يضع الفقيه الكرباسي، كما هو دأبه في سلسلة “الشرائع”، اصبعه على موضع الخلل، مقدماً في سلسلة مسائل وأحكام فقهية الحلول، مع التأكيد في التمهيد أنَّ الإحتكار هو رشح خبيث: (يحصل من دناءة النفس البشرية حيث يريد المرء أن يستغل حاجة الناس لما يعتاشون عليه فيحبس عليهم السلع ليتفرَّد بتسعيرتها ويُجحف بها، وتُعد هذه العملية تعدِّياً على الحق العام)، ومن مظاهر هذا الرشح الدنيء: (أنَّ احتكار السلع التي الناس بحاجة إليها وبالأخص المواد الضرورية للعيش يخلع من القلب العطف ويتحول الإنسان حينئذ إلى جسدٍ بلا روح ولا عاطفة ولا مشاعر)، من هنا جاء في الحديث النبوي الشريف: “لا يحتكر إلا الخاطئ” بل ويؤكد عليه الصلاة والسلام: “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون”، وبتعبير الإمام علي عليه السلام: “المُحتكر آثمٌ عاصٍ”، ويضيف عليه السلام: “الإحتكار شيمة الفُجّار”.
ولا شك أن الإحتكار خلاف المروءة، فليس للتاجر أن يزعم أن البضاعة بضاعته له أن يتصرف بها كيف يشاء وأنى يشاء ومتى يشاء وبكم يشاء أن يبيع!، مثل هذا الكلام يمكن أن يقال إذا كان يعيش في صحراء أو غابة لوحده، لإن من مخرجات الإحتكار تمزيق النسيج المجتمعي، وبتعبير المعلِّق الفقيه الغديري في مقدمته: (الإحتكار من أقبح الأعمال عرفاً وعقلاً، وأفسدها شرعاً، فإنَّ فيه هتكَ حرمة الموازين الإنسانية، وتوهين الملاكات الأخلاقية، وسلب الحقوق الإجتماعية، فبما إنَّ الإسلام دين الإنسانية فلا يسمح لأحد أن يفعل بما يضاد حياة المجتمع البشري)، ولذلك فإن من أوضح خطوط خارطة الطريق التي وضعها الإمام علي عليه السلام عندما بعث الحواري مالك الأشتر النخعي والياً على مصر، قوله في كتاب التولية: (فامنع من الإحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكِّل به وعاقبه في غير إسراف).

مظاهر الإحتكار ومصاديقه
كما هو ديدنه في هذه السلسلة من الشرائع، فإن الفقيه الكرباسي يمهد لبيان الأحكام من حلال وحرام وكراهية ومحبوبية، توضيح مفردة الإحتكار من حيث اللغة والإصطلاح، وعليه فإن: (الإحتكار: في اللغة هو افتعال من الحَكْر، وهو ما احتبس مطلقاً، ويشمل ما احتبس انتظاراً وتسبباً للغلاء، والاحتكار عند الفقهاء هو حبس سلعة من السلع أو جمعها من الأسواق بغرض غلاء سعرها).
والعملية برمتها مرفوضة وتضع المحتكر تحت طائلة المحاسبة بخاصة إذا كانت السلعة المحتكرة تمس حياة الناس اليومية، وتدخل من الناحية الشرعية في خانة الحرمة إذ: (الإحتكار: إنما يُحرم إذا كان الناس بحاجة ماسة إلى البضاعة المحتكرة وانحصرت بصاحبها ويتضرر الناس بذلك)، وحجم الضرر ومساحته يخضع لحجم الأذى الذي يسببه، وبتعبير الفقيه الغديري معلقاً: (والضرر الملحوظ في الموضوع هو البالغ إلى حد غير متعارف بحث يخرج عن قدرة أعضاء المجتمع عموماً، ويجر إلى المفسدة العامة).
ولما كانت السلطة السياسية وقيادتها مسؤولة عن حياة المجتمع في إطار: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) كما يرشدنا نبي الرحمة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فإنها مسؤولة عن محاربة الإحتكار بإرشاد المحتكرين وتوعيتهم وبيان شناعته والضرب على يد المحتكر بما يخدم الصالح العام، وأن تضع الحلول لهذا السرطان الذي يظهر بين فترة وأخرى عند أصحاب هذه السلع وتلك، ويوقفنا الفقيه الكرباسي على الدور الذي ينبغي أن تضطلع به السلطات في إطار الشرعية، من ذلك: (أنْ يُجبر المُحتكر بعرض السلعة في السوق، وأن يرُاقب السعر بحيث لا يكون مُجحفاً)، كما للسلطة الشرعية وضع التسعيرة للسيطرة على غائلة الأسعار، ولذلك: (إذا كان الغلاء عالياً بحيث يضر بحال الناس أو يوجب الخلل، فإنَّ حاكم الشرع له الحق في تسعير السلعة)، وهو شكل من أشكال: (تنظيم التوزيع والتسعيرة ليتمكن الفقير من الحصول على لقمة العيش بسلام)، بل: (إذا امتنع المُحتَكر من تنفيذ الحكم، كان لحاكم الشرع أن يتولى هو بذلك ليخرج السلعة من عنده ويعرضها في السوق)، وزيادة على ذلك: (يجوز لحاكم الشرع تعزير المُحتكر إذا كان متعمداً ولم ينصعْ إلى أمر حاكم الشرع)، وللسلطة أن تفتح باب الإستيراد لكسر الإحتكار وإرجاع الأسعار إلى طبيعتها الأولى، ولها أن تفتح أسواقاً موازية ومنافسة لخلق التوازن في الأسعار وكسر حدة الإحتكار، ولكن في المقابل لا ينبغي لها أن تحتكر السلعة أو أن تضر بالتجار، لأنها انتُخبت واختيرت لخدمة المجتمع دون تفريق بين تاجر وعميل، تحفظ مصلحة التاجر وتراعي حاجة المتسوق.
وإذا كان السائد فقهياً أن الإحتكار مداره الطعام، فإن الفقيه الكرباسي يتوسع في المسألة ليشمل كل ما هو الناس بحاجة إليه من كهرباء وماء ووقود ودواء وكتاب وأجهزة طبية وأمثال ذلك، فكل احتكار لشيء فيه للناس منفعة وهم بمسيس الحاجة إليه ينطبق عليه مفهوم الإحتكار، من ذلك: (لو أنَّ مادة معينة نقصت في الأسواق كالمواد التي فيها الحديد أو الكالسيوم أو البروتين أو ما شابه ذلك وتسببت إلى ظهور بعض الأمراض أو الحالات المرضية وتوجد عند شخص أو مؤسسة، فالأقوى أنها من الاحتكار المحرَّم شرعاً)، ومن ذلك: (إذا أصبح مثل الكهرباء عنصراً حيوياً في البلد بحيث يتأثر الناس بقطعه وتختل الموازين ويتوقف عليه الموت والحياة كالمستشفيات أو المعامل أو المطاحن والسقاية وما إلى ذلك، فإن حكم الإحتكار يشملها على الأقوى، فيما إذا لم يكن هناك بديلُ لها)، كما: (قد يصدق الإحتكار في المعارف كالكتاب سواء كان في العقيدة أو الأحكام الشرعية أو احتكار القرآن الكريم فيما إذا توقف الأمر على ذلك).
وكما أنَّ المتوجه اليه بالإحتكار هو القطاع الخاص، فإن الحكومة التي بيدها مفاتيح القطاع العام يشملها حكم الإحتكار أيضاً، ولهذا: (لا يجوز للسلطة الحاكمة أن تحتكر الإمتيازات التجارية لنفسها أو لبعض الفئات التي على صلة بها)، كما: (لا يجوز للسلطة الحاكمة أن تُخصص الإمتيازات إلى الدول الأجنبية فيما إذا كانت هناك شركات وطنية قادرة على ذلك)، كما: (لا يجوز للدولة الغنية أن تحتكر أي معدن ضروري للشعب كالنفط على سبيل المثال)، ولكن في المقابل: (يجوز للسلطة الشرعية استخدام عدم تصدير النفط كسلاح في الضغط على الدول الظالمة) بل: (لا يجوز للدولة تزويد الدولة المعادية للإسلام بالنفط وأمثاله)، ولعمري لو أن الدول النفطية عملت بهذه الأحكام العقلائية وقطعت مصادر الطاقة عن الحكومات التي تزرع الفتن وتخلق الأزمات وتشعل الحروب لتحرِّك ماكنة الأسلحة في مصانعها بوقودنا حتى تحرق المنطقة على أهلها وتستنزف رؤوس أموالنا، لما شهدنا ونشهد اليوم نصب خيام لاجئين ونازحين داخل بلداننا المحتلة، وتدمير لمدن بكاملها على قاطنيها وتشريد أهلها.
في الواقع إنَّ الإحتكار، من المسائل الحساسة في حياة كل مجتمع، وهو في الوقت الذي يعكس واقعاً غير مرغوب فيه بتاتاً، فإنه عاكس لطبيعة المجتمع وأخلاقياته، ولهذا من التضامن الإجتماعي كما يفيدنا الفقيه الكرباسي أنه: (إذا أصاب البلدَ قحطٌ، استحبَّ لمن أمَّن قوت سنته أن يشارك الناس في ذلك بأن يبيع ما عنده ويشتري قوت يومه بيومه كسائر الناس)، أو أن يشارك الفقير مما أنعم الله عليه، عملاً بقول الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو يطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجه أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كتم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام).
وللوصول إلى هذه المرحلة من التشارك الإيجابي أو الدخول تحت مظلة قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9، فإن المرء بحاجة إلى مجاهدة كبيرة وطويلة، وهي أول الدرجات لارتقاء سلم الأمن المجتمعي والوصول الى سطح التكامل القيمي.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى