عندما تجرعت السم بصورة بطيئة دون أن أدرى – الوحدة .. الاستقلال .. النهضة

بقلم: مجدى أحمد حسين*

انتهيت فى حوارى الافتراضى إلى اننى اقترح عدم التركيز على انتقاد شخص الحاكم والدعوة لإسقاطه همسا أو من خلال الاعلام الخارجى ، بل إلى التركيز على إسقاط التبعية للولايات المتحدة ممثلة فى إلغاء كامب ديفيد وإسقاط الاتفاق الأخير مع صندوق النقد ، وهذه ليست دعوة للسلامة .. بل لسلامة الطريق ! وفى اللحظة الراهنة يكون التركيز على مناصرة غزة ولبنان بالعمل لا بالكلام وإلغاء الاتفاق مع الصندوق وسأشرح فيما بعد كيف يمكن معالجة ذلك اقتصاديا . الحاكم بنفسه قال إنه يفكر بمراجعة الاتفاق مع الصندوق . فالصندوق يقتل الشعب المصرى بالغلاء والتجويع ، كما يقتل أصحاب الصندوق أهل غزة بالقنابل والتجويع . وبالتالى فالحديث يجرى على أمور حالة وملحة وقاتلة لانسانيتنا كمصريين ، ولا تحتمل التأجيل ، ولست أمارس ترفا فكريا فى الحديث عن الخلاص من التبعية فى صالون ثقافى .

وقد يقبل هذا الكلام من غيرى ولكن الناس تنتظر منى المواقف الثورية المعهودة . وعندما لا تراها تقول : لقد غيره السجن أو السن . فليعتقد من شاء ما يشاء ، ولكن واجبى أن أعرض ما أراه صحيحا من وجهة نظرى فى هذه اللحظة الفارقة التى تضيع فيها مصر بالمعنى الحرفى للكلمة .

لم يثبت ان أينشتاين قال : إن الحماقة أن تكرر نفس الفعل وتنتظر نتائج مختلفة . ولكنها حكمة صحيحة يمكن أن نضيف إليها : “ أن تكرر نفس الفعل فى ظروف مماثلة ” وهذه قاعدة علمية تقول أثناء التجارب ووضع المعادلات : مع ثبات الظروف الأخرى .

حكمة أخرى غير معروف قائلها : لكل داء دواء يستطاب به إلا الحماقة أعيت من يداويها . والانسان العاقل لابد أن يتجنب السقوط فى الحماقة ، ويظل يكرر تجربته الفاشلة عدة مرات حتى نهاية حياته . من عام 2002 إلى عام 2011 كرست حياتى لنشر دعوة إسقاط نظام حسنى مبارك . ولست نادما على ذلك ولا أعتبر ذلك من الحماقة ولو عادت بى الأيام لكررت ما فعلته لأنه لم يكن بإمكانى إفادة الوطن بأسلوب آخر . ساهمت فى تشجيع الناس على التجرؤ على الحاكم ، وعندما رأوا أن رأسى لم تقطع بل حتى لم أدخل السجن من 2002 حتى 2009 حيث سجنت بتهمة زيارة غزة بحكم عسكرى لمدة عامين . تشجعت الناس وظهرت حركة كفاية وقامت الثورة وأنا بالسجن ، وأصبحت كل الناس من رموز الثورة ما عدا العبد لله ، ولكننى كنت سعيدا بالثورة .. ومنذ الافراج عنى يوم جمعة الغضب 28 يناير .. كنت أبكى كثيرا من شدة التأثر والفرح .

لاحظت بعد ذلك ان المحتشدين فى ميدان التحرير يركزون الحديث على إسقاط مبارك وعدم الحديث فى أى موضوع آخر . وكنت أرى ضرورة الربط بين ذلك وبين مسألة التبعية للولايات المتحدة ولتحالف كامب ديفيد . واستمر ذلك فى التوك شو بالفضائيات والتى كانت حرة تماما . كان الجميع : الاسلاميون وعلى رأسهم الاخوان وكل التيارات المدنية مجمعون على استبعاد مسألة الخلاص من الهيمنة الأمريكية الصهيونية وكنت أتصور أنا وجماعتى الصغيرة أنها هى جوهر القضية . بل هذا ما خشى منه الأعداء فأغلقت السفارة الأمريكية أبوابها ورحلت معظم الدبلوماسيين وقامت السفارة الاسرائيلية بإجراءات مماثلة . وعبر الاعلام الاسرائيلى عن مخاوفه من أن هذه الثورة ستلغى كامب ديفيد من كل بد . ولكن ظهر أن الأعداء يحسنون الظن بنا ، أكثر مما نحسن الظن فى أنفسنا . وتصورت أن سقوط مبارك سيؤدى إلى أن تكر السبحة ويفتح ملف التحرر من الهيمنة الأمريكية على يد المجلس العسكرى والاخوان والحركة المدنية . ولكنى اكتشفت بالتدريج أن كل الأطراف متمترسة على رفض هذا التوجه ، وتركز الخلاف على السلطة ومواقعها بين الأطراف الثلاثة . ورحل مبارك ورحل معه الطاقم الضيق المحيط به بأموالهم وكل متعلقاتهم وثرواتهم المالية والعقارية ، وبقيت أركان نظام مبارك شامخة كالطود تحمى مبادئه الأساسية : المجلس العسكرى هو نفسه مجلس مبارك ، الشرطة كما هى بدون حبيب العادلى والاعلام كماهو والقضاء وعلى رأسه المحكمة الدستورية كما هو وكان أمرا لافتا فالمجلس العسكرى جمد الدستور ولم يجمد المحكمة الدستورية والاخوان وغيرهم لم يطالبوا بتجميد وحل المحكمة الدستورية لأنها مرتبطة بالدستور . وهى المحكمة التى حلت مجلسى الشعب والشورى للاخوان !!

وهنا لا يهمنى من يحكم ، وكنت مستبعدا من حضور أى لقاء مع الأطراف الثلاثة منفردين أو مجتمعين : المجلس العسكرى – الاخوان – الحركة المدنية أو ما سمى فيما بعد جبهة الانقاذ . كانت تحدونى الآمال بل وصلت بى السذاجة أن تخيلت فى لحظة من اللحظات ان الاخوان والعسكر لابد أنهم يتفاهمون على الخلاص من الأمريكان بالتدريج ، وان تسليم السلطة للاخوان عبر انتخابات حرة من المتوقع أن ينجح فيها الاخوان هو الطريق للخلاص من التبعية . وساعد على ذلك الوهم اختيار المستشار طارق البشرى ود . عاطف البنا فى لجنة صياغة الوثيقة الدستورية وكنت وثيق الصلة بهما وأعرف كيف يفكران . ولكن عجزت عن الاتصال بالأستاذ البشرى عبر الهاتف فى تلك الفترة .

أدركت بصورة تدريجية حجم الكارثة ، أدركت بطريقة مميتة بطيئة على طريقة سريان السم فى الجسد بصورة زاحفة ، فتظل تقنع نفسك أنك تعانى من صداع أو غثيان حتى تدرك فجأة انه السم . وعلى سبيل المثال أشير إلى واقعتين : أحد قيادات الاخوان رفض مجرد الحديث معى عن التحرر من أمريكا ، واعتبر هذا مضيعة للوقت وقام واقفا رغم انه انسان مهذب جدا معلنا إنتهاء اللقاء وكنا فى مقر مكتب الارشاد بالروضة ، وعلمت فيما بعد أنه قال لأحد قيادات حزب العمل : إن مواقفكم من أمريكا كلام عفى عليه الزمن . وكان هذا الموقف قبل سقوط مبارك بأيام . أما الواقعة الثانية : فهى قول الفريق سامى عنان وهو فى موقع رئيس الأركان لأحد المعارضين فى أحد اللقاءت : لا تتحدث عن أى تصعيد للخلاف مع أمريكا فلابد أن تعلم أنه من رباط حذائى العسكرى حتى الطائرة المقاتلة يأتى من أمريكا ولا يمكن الاستغناء عنها .

تجرعت السم كله وأدركت بدقة وبالتفاصيل والمعلومات الدقيقة وبعضها منشور ومعلوم : ان الأطراف الثلاثة : المجلس العسكرى – الاخوان – جبهة الانقاذ يتصارعون لكسب أمريكا إلى صفهم . وكانت باترسون السفيرة الأمريكية بالقاهرة لعيبة وأقنعت كل طرف أنه هو الأقرب إلى قلبها .

ويمكن القول ان أسس نظام التبعية استمرت بلا انقطاع من 1974 حتى 2024 : كامب ديفيد وكافة الاتفاقات الدولية المتفرعة عنه وهى بالآلاف – العلاقات الدبلوماسية والتطبيع مع الكيان – الابتعاد عن ايران كمركز ثقل معاد لأمريكا واسرائيل – المناورات العسكرية مع الجيش الأمريكى وكل اتفاقات السلاح والمعونة – العلاقات المستمرة مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى بشروطهما ، بما تتضمنه من خصخصة أى تدمير القلاع الصناعية وقد بدأ هذا فى عهد عاطف عبيد حتى وصلنا لبيع الأصول والحدائق والشواطىء والفنادق بعد الفراغ من معظم المصانع . سياسة اقتصادية تعتمد على القروض والمنح والمعونات وعلى الاستيراد لا الانتاج والتصدير اللهم إلا تصدير البترول والغاز والمواد الأولية والزراعية . باختصار : السياسة الاقتصادية والسياسة الخارجية هى بالضبط كما كانت فى عهدى مبارك السادات والعام الذى حكم فيه الاخوان والعهد الحالى .

وهكذا يتضح ان تغيير شخص الحاكم والتركيز على ذلك ليس من الرشد فى شىء والمسألة ليست مسألة مخاطر وخوف وسجون . الهدف من العمل السياسى الوطنى هو الاصلاح . وإذا لم نقنع جموع الأمة ان القضية هى التحرر من نير الاستعمار الجديد الأمريكى الصهيونى ، وعنوان ذلك هو إلغاء كامب ديفيد الذى يعنى الآن الوقوف بلا تحفظ مع غزة ولبنان ووقف اتفاقية الصندوق . إذا لم ننجح فى ذلك فما فائدة التغيير إذا كان ممكنا ؟

إن مصطفى كامل لم يخض معركة مع الخديوي عباس حلمى الثانى ولكن كانت معركته مع الانجليز ، وإن كان عباس حلمى كان يدعمه سرا وبقلبه ،

إن ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول لم تخض معركة مع الملك فؤاد ، وأحمد حسين كان يضع شعارا لحركة مصر الفتاة : الله – الوطن – الملك . ولم يسقط الملك من الشعار إلا بعد تدهور مواقفه فى 1950 وما بعدها . وكانت معركته الأصلية ضد الانجليز حتى ورد فى الوثائق البريطانية المفرج عنها أن الانجليز كانوا يرون أن أحمد حسين هو العدو الأول لهم فى مصر . وفى حركتنا الطلابية عام 1968 لم نطالب بإسقاط جمال لعبد الناصر ولكن طالبنا بالسلاح لتحرير سيناء . وفى حركة 1972 و1973 طالبنا بحرب التحرير الشعبية بالتعاون مع الجيش لتحرير سيناء ولم نطالب بإسقاط السادات . الحركة الشعبية التى سبقت ثورة يناير اختصرت نفسها فى المطالب الليبرالية تحت زعامة البرادعى أمريكى الهوى وكل مطالبها كانت حرية انتخابات رئاسة الجمهورية .. وقد كان لهم ما طلبوا وحصلوا على انتخابات حرة ، ولكن لم يحرروا مصر من التبعية . ولا يزالوا حتى الآن يطالبون همسا أو همهمة وقلة قليلة تجاهر بالتغيير السياسى الديموقراطى وتتجاهل أو تؤخر مسألة الجلاء .. إنهم يريدون الدستور دون الجلاء بينما أعلى سعد زغلول من شأن الجلاء قبل الدستور ولذلك تم نفيه ، ولكن الثورة انتصرت نصف انتصار : استقلال منقوص .. وديموقراطية منقوصة . أما نحن فقد خسرنا كل شىء حتى حدائق الحيوان والأسماك والأورمان .

المطلوب أن نشرح للأمة :للحكام والشعب ، مسألة تحرير الوطن وننشر ثقافة الاستقلال ، وعندما يمتلك الشعب هذه الثقافة فهو سيحرر نفسه بنفسه وكل من فى الحكم يريد أن ينضم إلى المسيرة فسيكون مرحبا به وسيسهل على الأمة عملية التحرر , ولكن ليس بطريقة الخداع التى حصلت يوم 11 فبراير 2011 . ولكننى لا أحمل العسكر المسئولية وحدهم بل أحمل اللاعبين الثلاث المسئولية الجماعية : العسكر – الاخوان – والحركة المدنية .

والمشكلة أن الثلاثة أطراف لا يريدون أن يبرأوا من هذه الحالة فكلهم لا يزالون يراهنون على بايدن أو ترامب أو على الأقل يفكرون ويتصارعون تحت المظلة الأمريكية .

*باحث إسلامي وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى