الهند ترفع الحظر عن رواية “آيات شيطانية”.. لماذا الآن ؟
بقلم: عبده حقي/ المغرب
في تطور مفاجئ يعكس مشاغبات ومشاكسات كتابات سلمان رشدي المثيرة للجدل، رفعت الهند حظراً دام 36 عاماً على استيراد وتداول روايته ” آيات شيطانية” بسبب عجز الحكومة عن تحديد النظام القانوني الأصلي في هذا الصدد . ويمثل هذا القرار فيما يبدو انتصاراً رمزياً للكاتب سلمان رشدي، الذي كان صريحاً في انتقاده للحظر منذ أن فرض على روايته في أكتوبر1988.
وكانت الرواية، التي تستغور ثيمات الهوية والهجرة وحدود العقيدة الدينية، قد فجرت عاصفة عالمية من الاحتجاجات غداة صدورها، وأدت إلى إصدار فتوى من الزعيم الإيراني آنذاك آية الله الخميني.
واليوم يثير رفع الحظر تساؤلات حول دور الرقابة الحكومية في المجتمعات الديمقراطية ويعيد فتح النقاش حول حرية التعبير والتدين والضغوط السياسية داخل الديمقراطية الهندية.
لقد قوبل صدور رواية “آيات شيطانية” في عام 1988 بردود فعل عنيفة في العديد من البلدان المسلمة، بما في ذلك الاحتجاجات في الهند، التي تضم ثاني أكبر عدد من المسلمين في العالم. ورغم أن رواية سلمان رشدي لا تشير إلى اسم النبي محمد “ص” مباشرة ولا تعيد تمثل شخصيات إسلامية تاريخية بعينها، فإن بعض المتطرفين اعتبروا الصور والمواقف الخيالية التي وردت فيها أسلوبا تجديفيا .
وقد أدى هذا التصور إلى موجة من السخط في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، حيث أبدت السلطات الهندية قلقها إزاء العواقب السياسية والاجتماعية الوخيمة المترتبة على ذلك. وقد حظرت إدارة رئيس الوزراء آنذاك راجيف غاندي استيراد الرواية على نحو استباقي لمنع الاضطرابات الطائفية بين المواطنين المسلمين وأعضاء البرلمان. ولكن سلمان رشدي من جانبه عارض بشدة هذه الخطوة، ووصفها بأنها قمع لحرية التعبير، وخاصة في دولة ديمقراطية متنوعة مثل الهند. وقد عكست رسالته إلى رئيس الوزراء غاندي، والتي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، خيبة أمله إزاء ما اعتبره استسلاماً من جانب دولة الهند لضغوط وترهيب الجماعات الإسلامية التي وصفها بـ”المتطرفة”.
في عام 2019، بدأت حدة الحظر التي فرضتها السلطات الهندية على رواية “آيات شيطانية” في التراجع عندما سلطت دعوى قضائية رفعها مواطن هندي يدعى سانديبان خان، الضوء على هذه القضية البالغة الأهمية: لم تتمكن الحكومة من تحديد الأمر الأصلي الذي أصدر ذلك الحظر. وطعنت دعوى خان في دستورية تقييد استيراد الرواية وتداولها دون توثيق رسمي، مما أثار تساؤلات حول شرعية هذا التقييد. وقد قوبلت محاولته شراء الكتاب من إحدى المكتبات برد مفاده أنه “غير قانوني”، على الرغم من عدم وجود قوانين يمكن الحصول عليها تثبت الحظر. وكان هذا بمثابة بداية صراع قانوني استمر لسنوات، حيث طلبت الحكومة مرارًا وتكرارًا تمديدًا لإنتاج الوثائق المراوغة لهذه القضية. ووصلت الإجراءات القانونية إلى منعطف في نوفمبر 2023، عندما تلقت محكمة دلهي العليا اعتراف الحكومة بأن الأمر الأصلي “غير قابل للتتبع” مما رفع الحظر فعليًا بشكل تجاوزي.
إن هذا الانتصار القانوني، وإن كان غير مباشر، سوف تكون له آثار عميقة على الروائي سلمان رشدي، الذي أصبح الآن في السبعينيات من عمره وشخصية أدبية معترف بها عالميًا.
ومنذ سنوات عديدة ، دافع رشدي عن عمله باعتباره رواية خيالية بحتة، ورفض اتهامات التجديف وقال بأن قصدية الرواية كانت استكشاف ثيمات وجودية واجتماعية دون ازدراء أي دين من الديانات السماوية المقدسة. وبعد سنوات من الانكفاء في الظل بسبب التهديدات ومحاولة اغتياله مؤخرًا في عام 2022، يرمز رفع الحظر في وطنه إلى تأكيد متأخر ولكنه مهم لحقه القانوني والطبيعي في حرية التعبير. المفارقة إذن لا لبس فيها: رواية سلمان رشدي، التي كانت ذات يوم موضوعًا للرقابة الحكومية في الهند، يمكنها الآن دخول البلاد بشكل قانوني ليس بسبب تحول أيديولوجي جديد، ولكن بسبب رفع الرقابة البيروقراطية.
ومما لاشك فيه أن هذه القضية ستلقي الضوء على حوار واسع النطاق حول طبيعة ثنائية الحكم الديمقراطي والرقابة. فقد اعتبر كثيرون قرار الهند بفرض حظر على استيراد الرواية في عام 1988 بمثابة استجابة لضغوط سياسية وليس انعكاساً للإجماع العام. وكان اهتمام الحكومة باسترضاء الطوائف الدينية المختلفة، وخاصة في ضوء الاضطرابات المحتملة، يعكس التوتر بين الحفاظ على الحريات الديمقراطية من جهة والنظام الاجتماعي من جهة أخرى . وعلى مدى عقود من الزمان، كانت الديمقراطية الهندية تكافح مع التحدي المتمثل في تحقيق التوازن بين الحساسيات الثقافية والالتزام بالحقوق الفردية، وهي الدينامية التي أبرزها سلمان رشدي في مراسلاته إلى إدارة الرئيس غاندي.
إن هذه القضية تذكرنا بالقوة التي تتمتع بها الحكومات عندما تتحكم في المعلومات والأهمية التي غالباً ما يتم تجاهلها للشفافية والإجراءات القانونية الواجبة في قرارات الرقابة. لقد تم منع رواية رشدي من التداول على أساس الخلاف الاجتماعي المحتمل، لكن القضية في العمق توضح كيف يمكن لممارسات الحكومة المتجذرة في البراجماتية السياسية بدلاً من القيم الديمقراطية أن تعيق حرية التعبير وتحد من اطلاع الجماهير على وجهات النظر المتنوعة والمتباينة.
إن رفع الحظر عن رواية “آيات شيطانية” يشير إلى تحول في منهجية الهند تجاه الرقابة الأدبية والفنية، وإن كان من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى إعادة تقييم أوسع لموقف البلاد من الأعمال المثيرة للجدل والنقاش الاستشكالي. إن فشل الحكومة الهندية في تحديد الجهة المسؤولة عن توقيع الأمر الأولي يسلط الضوء على أوجه القصور في المساءلة ويثير تساؤلات حول شفافية عمليات صنع القرار فيما يتعلق بالرقابة. إن رسالة رشدي في عام 1988، التي أدان فيها الحظر باعتباره رضوخًا لمطالب “المتطرفين”، مازال يتردد صداها بشكل أعمق اليوم في مناخ عالمي يولي اهتمامًا متزايدًا بحقوق الفنانين والكتاب في التعامل مع الموضوعات المثيرة للجدال دون خوف من انتقام السلطات الحكومية.
إن هذا التطور الأخير يؤكد على أهمية حماية سلامة الديمقراطية من خلال التطبيق المتسق للقانون، وخاصة في القضايا التي تتعلق بحرية التعبير. وبالنسبة لرشدي، الذي طالما دافع عن نزع الطابع السياسي عن الأعمال الأدبية والحق في انتقاد الأديان دون عقاب، فإن هذا التحول القانوني يمثل انتصاراً شخصياً وشهادة على مرونة القيم الديمقراطية، مهما تأخرت.
إن فك الحظر الذي فرضته الهند على رواية “آيات شيطانية” لا يمثل نهاية لتقييد دام عقوداً من الزمان فحسب؛ بل إنه انعكاس للخطاب المتطور المحيط بحرية التعبير والمساءلة ودور المؤسسات الديمقراطية. لقد تحول غياب الأمر الأصلي إلى تأكيد رمزي لحق رشدي في إتاحة عمله في وطنه. وهذه اللحظة تدعو الهند إلى التأمل في القيود التي يفرضها التدخل الحكومي في التعبير الفني وتعزز أهمية الإجراءات القانونية الواجبة في الحفاظ على القيم الديمقراطية. ومع استعادة الهند لإمكانية الوصول إلى رواية رشدي الاستفزازية “آيات شيطانية”، فإنها تتخذ خطوة نحو التعامل بشكل أكثر انفتاحاً مع الأعمال السردية المتنوعة، مما يؤكد أن الأدب، حتى وإن كان مثيراً للجدال، يستحق مكاناً في المشهد الديمقراطي.