خطاب غير مباشر الى الرئيس أردوغان.. فرصة تاريخية في انتظارك، فهل تَغتنمها أم تُفوّتها ؟؟

بقلم: فهـــد الريمــــاوي

بين الرغبة في تصديقه والخشية من تلفيقه، وبين الأمل في حُسن نيته والتحسب من سوء طويته، استقبلنا دعوات الرئيس التركي رجب أردوغان المتكررة للقاء الرئيس السوري بشار الأسد، وتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.. ذلك لان هذا الرئيس المخضرم كثير الأقوال التي تتناقض كلياً مع الأفعال، وسريع العطب والتقلّب والتذبذب والانتقال المفاجئ من حال الى حال مختلف تماماً.

ولكن رغم كل الجراح والشكوك والمرارات الكثيرة، يجوز لنا، من قبيل اختبار النوايا، وملاحقة العيار الى باب الدار، ان نرحب بهذه الدعوات والمبادرات الأردوغانية، ونأخذها على محمل الجدية والمصداقية، ونتعامل معها بقدر كبير من التفاؤل – المشوب بالحذر – لعلها تكون صادرة فعلاً عن صحوة ضمير متأخرة، او مراجعة للمواقف العدائية السابقة، او انتباهة للمستجدات الاقليمية والدولية الخطيرة، او رغبة مخلصة في “تصفير المشاكل” مع سوريا، أسوة بما جرى مؤخراً من تصفير تركي للمشاكل مع مصر والسعودية والامارات والعراق.

ثم نقول،، لقد ثبت بالواقع الملموس والماثل للعيان، ان الأمن التركي مُرتبط بدرجة كبيرة بالأمن السوري الذي عمد أردوغان لضربه والاخلال به، كما ثبت ان الإضرار التركي بسوريا قد انعكس بالتوازي – وان لم يكن بالتساوي – على تركيا ايضاً.. فقد انفجر لغم مؤلف من ثلاثة ملايين نازح سوري في الأحضان التركية، وخلق أزمة عِرقية واقتصادية في الداخل التركي الذي بات شديد الضيق والتبرم من هذا الوجود السوري المهاجر.

هناك ايضاً المعضلة الكردية التي تفاقمت في شمال سوريا، بعد تقويض استقرارها، واشغال جيشها بمحاربة عصابات داعش وأخواتها من مجاميع الارهابيين، وما لبثت هذه المعضلة ان تمددت فيما بعد لتهدد أمن تركيا، وتشكّل خطراً عليها لا يقلّ عن الخطر المحدق بسوريا ذاتها.. خصوصاً وان ما يُسمّى بالتحالف الدولي الذي تقوده أمريكا بزعم محاربة تنظيم داعش الارهابي، قد استغل هذه الفرصة لدعم التمرد الكردي، وحماية “مسمار جحا” الذي أقامه على التراب السوري وبمحاذاة الخاصرة التركية.

لا حلَ حاسماً وجذرياً لهاتين الورطتين، الا بفتح صفحة سياسية جديدة عاجلة بين أنقرة ودمشق لا تقتصر على المصالحة والتطبيع فحسب، بل تتخطى ذلك الى تفاهمات ثنائية استراتيجية، ودعم “أخوي” تركي مادي ومعنوي لسوريا، ليس من قبيل تعويضها عما لحقها من خسائر وأضرار بفعل الطعنة التركية فقط، ولكن للتعجيل بتشافيها والسيطرة على كامل أراضيها، والعودة الى دورها المعهود في الدفاع عن نفسها بمواجهة الاعتداءات والتهديدات الصهيونية المتمادية والمتكررة.. وذلك كي لا يستيقظ أردوغان ذات صباح ليجد قوة صهيونية تعسكر الى جانب أخرى كردية على حدود بلاده الجنوبية.

لن يجمح بنا الخيال لنتصور ان أردوغان قد هبط فجأة في مطار دمشق، شأن ما فعل في القاهرة والرياض وأبو ظبي، وانه قام بمبادرة وفاقية مُذهلة لا يتخذها الا الزعماء الكبار، للقاء نديده الأسد، وبما يعني قطع ثلاثة أرباع مساحة الخلاف بين البلدين حتى قبل بدء المحادثات.. خصوصاً اذا ما اصطحب الرئيس التركي عقيلته السيدة أمينة لزيارة – بالأحرى عيادة – صديقتها المريضة السيدة أسماء الأسد، حيث سبق ارتباطهما بعلاقة مودة دافئة كانت مثار اهتمام اعلامي كبير.

في حال تحققت هذه المرحلة التأسيسية الهامة من مراحل الفرصة التاريخية التي تنتظر أردوغان، يمكن الانتقال الى المرحلة الثانية التي تقوم على التصدي لتبجحات نتنياهو وتوعداته بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفقاً لخرائط ورسومات وتقسيمات مطابقة للمصالح والأطماع والشهوات الصهيونية، المدعومة – كلياً – من الولايات المتحدة، والهادفة الى تسييد اليهود على كامل هذه المنطقة البالغة الأهمية، وإخضاع كل من وما فيها من بشر وحجر وشجر لسيطرة الكيان الإسرائيلي اليهودي، “صاحب اليد الطويلة التي تشمل عموم الشرق الأوسط”، كما يزعمون ليلاً ونهاراً.

يستطيع الرئيس التركي الذي يرتبط الآن بعلاقات جيدة ومعقولة – وربما موثوقة – مع ايران ومعظم الأقطار العربية، ان يلعب دور القاسم المشترك الأعلى، وينهض بمهمة مركزية بالغة الأهمية، من خلال التجسير بين هذه الدول التي يتكون منها أصلاً الشرق الأوسط بمضمونه الجغرافيّ والتاريخي والحضاري الاسلامي – المسيحي، وبالتالي بناء تحالف ردعي استراتيجي لإرغام نتنياهو على ابتلاع صلفه وغروره وعنطزاته، ومحاصرته داخل كيانه المسروق من تراب فلسطين ، تمهيداً لملاقاة مصيره المحتوم ذات يومٍ ندعو الله ان يكون قريباً.

لعل من حُسن حظ أردوغان، غياب القيادات العربية الوازنة والكاريزمية التي من شأنها منافسته على سدة الزعامة الإقليمية، وبالتالي مزاحمته في قيادة مهمات التصدي لمشروع العدو الصهيوني في الهيمنة والتسلط على المنطقة، واحباط المخطط الأمريكي الرامي الى تسليمه مقاليد الأمور الشرق أوسطية، بدعم وموافقة بعض الأنظمة العربية المُطبّعة والمتصهينة التي لن تكون، في الغالب، جزءاً من تركيبة تحالف التصدي والتحدي، بل ستبقى ذليلة مُتذيلة للمعسكر الأمريكي الإسرائيلي الى حين صحوة شعوبها وثورتها عليها.

معروف طبعاً وقطعاً ان ايران قد سبقت الكلّ في التصدي، حضورياً وعبر محور المقاومة، للعدو الصهيوني منذ اندلاع الثورة الخمينية قبل قرابة نصف قرن، وهو ما عوّض القضية الفلسطينية عن غياب مصر السادات، وخروجها من حلبة الصراع بفعل معاهدة كامب ديفيد المشؤومة.. وقد بقيت ايران على قيد المثابرة الجهادية ضد المعسكر اليهودي والمتهوّد حتى وقتنا هذا، وها هي تخوض اليوم صولات حربية ضارية ومباشرة مع الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن مساندتها المستمرة لقوى المقاومة الباسلة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق.. ولعلها سوف ترحب – من هذا المُنطلق – بمساعي أردوغان لتدشين “تحالف مواجهة” عربي تركي إيراني قادر على كبح جماح نتنياهو، واسالة الدم الفاسد من دماغه التوراتي الملعون الذي يُزيّن له التوهم بقدرته على إعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد.

وفي حال انجاز المرحلة الثانية، وانطلاق تحالف الردع والتصدي الإقليمي، يمكن لقيادة هذا التحالف العتيد، وتحديداً في تركيا وايران وسوريا والعراق، التنادي لاجتراح حل سياسي إبداعي/ رباعي للمسألة الكردية المزمنة، بعدما كانت قد مُنيت كل المشاريع القُطرية والجزئية في تلك البلدان بالفشل في تقديم الحلول والترتيبات المناسبة لها.. بينما يمكن لمشروع الحل الجماعي، المبني على أسس الموادعة والتراضي، ان يجد طريقه الى النجاح باذن الله.

يتعيّن علينا ان نتذكر دوماً ان الكرد ليسوا أعداءً للعرب والترك والفرس، حتى ولو راهن بعضهم على القوى والمراكز الأجنبية، وانما هم اخوة لنا في الدين، وشركاء في التاريخ، وقوم راسخون ومُتجذرون في الشرق، وسبق لهم ان أنجبوا صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس من رجس الغزاة الصليبيين.. وليس في صالحنا ان تبقى قضيتهم بمثابة “مخلب قط” توظفه الدوائر الأمريكية والصهيونية لزعزعة أمن بلادنا وخلخلة سَكينتها وسلامها الداخلي.. وفي حال حَسُنت النوايا وصحّت العزائم وتوفرت “قوة التفاهم” بين الجانبين الكردي والتحالف، سوف يرتفع سقف آمالنا في التوصل الى مخارج واستخلاصات وسيناريوهات توافقية مناسبة للجميع.

مؤكد ان وضع حد نهائي وحل ناجع للمسألة الكردية يتطلب الكثير من البحث والحوار والاجتهاد، غير ان بمقدورنا التأشير الى ركنين أساسيين ينبغي ان يقوم عليهما اي مشروع للحل.. أولهما : بلورة وتظهير الشخصية القومية الكردية المتمتعة بكامل حقوقها السياسية والثقافية، والمتساوية مع باقي المواطنين في الدول التي نبتت فيها وتنتمي اليها.. وثانيهما : الحفاظ على وحدة وسلامة وتماسك هذه الدول/ الأم، واعتبارها أوطاناً نهائية للأقليات الكردية.. فهناك في العالم كثير من الشعوب القومية التي تتوزع في عدة دول وكيانات سياسية، ابرزها الشعب العربي الموزع على عشرين دولة ودويلة ومشيخة اصطنعها الاستعمار الأوروبي، وكرّستها – منذ مؤامرة سايكس بيكو – أنظمة الجهالة والعمالة الأعرابية !!

وعليه،، قبل نحو ربع قرن استطاع أكراد العراق، بعد اسقاط نظام الرئيس صدام حسين، انتزاع إقليم كردستان من قوام الدولة العراقية، وتأسيس “حكومة إقليم كردستان الإتحادية”.. غير اننا لم نلحظ تغييراً نوعياً في حال هذا الإقليم عما كان عليه سابقاً، ولا رأينا شآبيب اللبن والعسل والمال الوفير تتدفق عليه، ولا شاهدنا شعارات الحرية والديموقراطية والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي تتحقق لديه، بل رأينا – وما نزال نرى – كيف تفاقمت الأزمات السياسية والاقتصادية بوتيرة عالية ومتكررة.. وكيف احتدمت الصراعات الحزبية والاحترابات العشائرية كأعنف ما تكون بين جماعتي الطالباني والبارزاني.. وكيف تحول هذا الإقليم الى ملعب للنفوذ الإقليمي والدولي، واصبح وكراً لكل من هبّ ودبّ من مخابرات العالم، يتقدمها جهاز الموساد الصهيوني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى