“الوحدة” ضرورة حياتية.. أيهما أنسب للعرب النموذج الأمريكي أم الأوروبي؟
بقلم: حسن القشاوي*
بينما يبدو للكثيرين أنّ الوحدة العربية باتت حلمًا بعيد المنال أو أنها أصلًا فكرة طوباوية غير قابلة للتحقق، ولكن الواقع أنّ الهزائم والأزمات الهائلة التي تضرب العالم العربي يجب أن تمثل حافزًا لتحقيق الوحدة، إذ تثبت هذه الأزمات أنّ أي دولة عربية بمفردها سواء غنية أو كبيرة لا تستطيع مواجهة هذه التحديات وحدها.
حتى الدول الأوروبية الأقوى والأغنى والأكثر تقدمًا من الدول العربية لجأت للوحدة لكي تحقق الازدهار الاقتصادي والأمن الإقليمي. والحالة المتردية التي عليها العالم العربي حاليًا يجب أن لا تكون سببًا لليأس بل على العكس، فلقد كان الإذلال الشديد الذي لحق بألمانيا وإيطاليا على يد نابليون بونابرت هو الذي حفر فكرة الدولة القومية الموحدة في البلدين.
ولكن ما هو شكل هذه الوحدة العربية المأمولة، وما هو النموذج المناسب للعالم العربي، هل النموذج الأمريكي الفيدرالي أم النموذج الأوروبي الذي يبدو هجينًا بين الفيدرالية والكونفدرالية.
وفي حين أنّ النموذج الأوروبي جذاب للكثيرين في العالم العربي، لكن الواقع إنه ملائم أكثر لبلدان القارة ذات الاختلافات الثقافية والعرقية الكبيرة والعداوات القديمة، بينما النموذج الأمريكي يمكن أن يوفر بعض الإلهام للدول العربية لأنّ الولايات المتحدة لديها أوجه تشابه كثيرة مع العالم العربي. فعلى عكس أوروبا، فإنّ العرب هم أمّة حقيقية، وقد يكون الشعور بالحسرة والهوان الحالي، ببساطة هو نتيجة الفجوة بين المشاعر القومية القوية التي لا تتواجد في أي كتلة إقليمية أخرى في العالم وبين الواقع العربي المرير.
فما يجمع البلدان العربية أكبر بكثير مما يجمع العديد من البلدان الموحّدة القائمة بالفعل، فالمغربي أقرب للعراقي في اللغة والعادات والعرق من قرب التاميلي من جنوب الهند للبنغالي الذي يعيش بشمالها الغربي، أو من تشابه شمال الصين بجنوبها، وفي الحالتين السابقتين ابن الشمال لا يستطيع البتة التعامل مع ابن الجنوب إلا إذا تحدثا اللغة القومية المشتركة، ولا يستطيع ابن كيرالا بجنوب الهند فهم أفلام بوليوود التي تنتج في بومباي إلا مترجمة أو مدبلجة للغته أو إذا تعلمها في المدرسة، في حين ان السوري ينسجم مع الجزائري أضعاف قدرته على التعايش مع التركي الذي يجاوره أو حتى مع الكردي ابن وطنه.
وفي الأغلب، فإن ارتباط العرب بقضية فلسطين أكبر من ارتباط الصينيين بعودة تايوان لحضن بلادهم الأم.
والعالم العربي عكس أوروبا لديه زعماء تاريخيين كان نفوذهم عابرًا للأقطار، وبعضهم ما زال لديهم شعبية خارج بلدانهم تضاهي ما كانت لديهم ببلدانهم.
كما أنّ الانتماء العربي ليس مرتبطًا بمصالح ظرفية أو عوامل حضارية فضفاضة مثل حال أوروبا، بل هو انتماء مرتبط بقضايا ومشاعر قومية وتاريخية عميقة لا تتواجد إلا لدى الأمم.
والاختلافات بين الشعوب العربية ليست حادة، ولذا تضم الدول العربية الحديثة أقاليم كانت تاريخيًا أجزاء من أقطار عربية أخرى مجاورة، ولم يؤد ذلك لاحتجاج سكان هذه الإقاليم ومطالبتهم بالعودة للوطن الأم، لأنه في الحقيقة ليس هناك فروق إثنية حادة تفصل بين الشعوب العربية تجعل هناك تعريفًا إثنيًا صارمًا لكل شعب عربي عكس الحال مع شعوب أوروبا وإثنيات الهند.
يعني كل ما سبق أنّ أيّ وحدة عربية تحتاج لنظام أكثر تماسكًا من النظام الأوروبي، وفي الوقت ذاته فإنّ التاريخ العريق للبلدان العربية ووجود هوية وطنية لا يمكن إنكارها، يعني أيضًا أنّ أيّ وحدة عربية تحتاج إلى أن تُؤسس عبر نظام لا يلغي الكيانات القُطرية، بل يؤكد هويتها ضمن الهوية العربية الجامعة ويعني ذلك في الأغلب نظام وسط بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. نظام يعزز الاستقلال الوطني للدول العربية عبر هذه الوحدة بحيث يكون فيه قدر ملائم من التعبير عن الهوية القُطرية وسلطات واسعة للحكومات القُطرية بما في ذلك بعض الصلاحيات بالمجال الدبلوماسي، وفي الوقت ذاته يكون للدولة المركزية سلطات حاسمة بالمجالات المهمة مثل النظام الأساسي للاقتصاد والأمن القومي والسياسة الخارجية.
هذا النظام المفترض يمكن أن يعالج بعض أبرز المخاوف المترتبة على الوحدة العربية، فيؤكد على قدسية حدود كل دولة ضمن الاتحاد الموسع، وكذلك يؤكد ملكية كل دولة لثرواتها الطبيعية مع منح السلطة المركزية دورًا في عملية تنظيم استثمار الفوائض المالية في بقية الدول العربية مع توزيع عوائدها لصالح الدول المالكة للثروة
إنه نظام يفترض أن يخلق كيانًا دوليًا جديدًا ولكن لا يلغي القديم بما في ذلك عضوية الأقطار العربية بالمنظمات الدولية على أن تكون هناك سياسة خارجية مشتركة مع إتاحة بعض التمايزات بين الأقطار.
إن مثل هذا النظام سيكون مفيدًا في المراحل الأولى في ضبط مسائل شائكة أخرى مثل حركة تنقل المواطنين بحيث يبدأ فتح الحدود تدريجيًا ضمانًا لعدم حدوث موجات هجرة واسعة من الدول الفقيرة إلى الثرية، فدولة مثل الصين تفرض قيودًا على الانتقال إلى بعض مناطقها مثل هونغ كونغ وماكاو.
هذا النظام سيتم فيه وضع الدستور والقوانين، من قبل البرلمان القومي، ولكن يجب أن يكون هناك كيان يضمن عدم افتئات السلطة المركزية على الحكومات القُطرية ويكون فيه ضمانات ميثاقية تمنع تحالف الفقراء ضد الأغنياء أو العكس، ويحدد مجالات تشريعية سيادية للأقطار.
ويمكن الاستفادة من النظام البرلماني الأمريكي بحيث يكون هناك مجلس نواب، التمثيل فيه بناءً على عدد سكان كل قُطر، ومجلس شيوخ يتساوى فيه تمثيل الأقطار الصغيرة والكبيرة، لتجنب هيمنة الدول الأكبر سكانًا على القرار.
اقتصاديًا، يفترض أن يعمل هذا النظام على مراعاة ومعالجة الفوارق الاقتصادية الهائلة بين الدول العربية، فيكون هناك اختلافات في أنظمة الضرائب والحدود الدنيا للأجور، وأسعار الوقود (أغلب الدول الفيدرالية تفعل ذلك) وحتى ساعات العمل، في المقابل، يفترض أن يطبق معايير موحدة تدريجيًا للسلع والخدمات والشهادات العلمية والمهنية، لضمان سلاسة التبادل التجاري والهجرة والعمل، على أن تكون الجمارك تحت سيطرة المركز، مع تقديم تعويضات للمتضررين من بعض آثار السياسات المركزية خاصة الاقتصادية.
في مثل هذا النظام يمكن أن تضع السلطة المركزية معايير وقوانين اتحادية وتطبق سياسات لدفع الأقطار لتلبيتها، بما في ذلك أحيانًا خيار فرض عقوبات عليها مثلما يفعل الاتحاد الأوروبي مع أعضائه، ولكن مع تجنب عنصرية الاتحاد الأوروبي والتي تجعله يعاقب أعضاءه الفقراء، بينما لا يفعل ذلك مع الأغنياء مثل ألمانيا وفرنسا، حسب وصف صحيفة the Guardian البريطانية.
هذا النظام الاتحادي العربي يجب أن يكون لديه عملة موحدة يمكن أن تبدأ بعملة اقتصادات دول الخليج القوية الموحدة ثم تتوسع لتضم بقية الدول بعض إصلاح اقتصادها ونظمها النقدية.
وعلى غرار الولايات المتحدة، فإنّ مثل هذا النظام يمكن أن يقبل أن تختلف القوانين ولا سيما الجنائية بين قُطر وآخر، بينما القوانين المرتبطة بالاقتصاد يفضل أن يكون أغلبها واحدة مع وجود مستوى مركزي قضائي للفصل في الخلافات.
وبينما يجب الاستفادة من التجارب الاتحادية في العالم، فإنّ الشكل الوحدوي في النهاية يجب أن يكون اختراعًا عربيًا ملائمًا للظروف العربية، ويلبي الطموحات العربية.
*باحث مصري في الشؤون الاقتصادية والأزمات