رجل أكتوبر المنسي!

بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة

على مدى نصف قرن كاد ذكره أن ينسى من فرط تجاهل أدواره في حرب أكتوبر (1973)، كأنه لم يكن القائد العام للجيش الذي انتصر.
لعقود طويلة تلخصت ملحمة أكتوبر في رجلين، الرئيس الأسبق أنور السادات «بطل الحرب والسلام» وخليفته حسني مبارك «صاحب الضربة الجوية الأولى».
كان ذلك إجحافاً بما جرى فعلاً في ميادين القتال وتجاوزاً بحق القادة العسكريين الآخرين والجندي المصري العادي نفسه، الذي اجترح معجزة العبور فوق الجسور بعد ست سنوات كاملة في الخنادق الأمامية.
لأسباب مختلفة ومتداخلة توارى اسم القائد العام المشير أحمد إسماعيل علي إلى الظلال. رحل في ديسمبر/ كانون الأول 1974، وهو في السابعة والخمسين من عمره، بعد عام واحد من النصر العسكري متأثراً بمرض عضال أمهله بعض الوقت ليحارب ويقود قبل أن ينال منه.
ودعته مصر بما يليق قبل أن تطوي صفحته تماماً، كأنه لم يكن على رأس الجيش المصري في لحظة تقرير مصائر.
لم يخلف وراءه شهادة مكتوبة متماسكة على ما جرى، مثل أقرانه من العسكريين الكبار، الذين خاضوا غمار الحرب تحت قيادته. ولا أفرج عن الوثائق المحجوبة لحربي «يونيو/ حزيران» (1967) و«أكتوبر/ تشرين الأول» (1973)، رغم أنه لم يعد هناك بمضي الزمن سر مخبوء.
أقيل لمرتين، أولاهما، بعد حرب يونيو/ حزيران، لكنه عاد ليتولى تالياً رئاسة أركان الحرب بعد استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض. وثانيتهما، بعد حادث الزعفرانة، الذي مثل صدمة لجيش يحاول بأقصى ما يستطيعه أن يتعافى قبل أن يعود رئيساً للمخابرات العامة بعد أحداث مايو/ أيار 1971 ثم قائداً عاماً للجيش قبل حرب أكتوبر مباشرة.
لماذا أقيل؟ وكيف عاد؟
هذه مسألة وثائق تحتاج اليها مصر لتحكم نظرتها إلى تاريخها الحديث. تساعد الوثائق الأجيال الجديدة على بناء صورة موضوعية لما جرى فعلاً من تحولات وانقلابات في الحياة المصرية وقد تنصف بعض أدوار الرجال.
بعد رحيله طلبت قرينته «سماح الشلقاني» من الأستاذ محمد حسنين هيكل أن ينظر في أوراق متناثرة تركها بمكتب منزله لعلها تمثل شهادة للتاريخ. أطل عليها وغادر دون أن يأخذ معه شيئاً.
كان تقدير هيكل أن تلك الأوراق لا توفر شهادة لها قيمة في تفسير الحوادث التي كان المشير الراحل طرفاً فيها، أو شاهداً عليها.
من مفارقات التاريخ والحياة رحيله قبل اختيار الفريق حسني مبارك قائد سلاح الطيران نائباً لرئيس الجمهورية منتصف سبعينيات القرن الماضي متخطياً قادة عسكريين آخرين لعبوا أدواراً جوهرية في حرب أكتوبر.
كان المشير أحمد إسماعيل قد توفي، والفريق سعد الدين الشاذلي قد أبعد، وتبقى محمد عبدالغني الجمسي، مدير العمليات أثناء الحرب ووزير الدفاع بعدها، ومحمد علي فهمي، قائد الدفاع الجوي، وفؤاد ذكري، قائد البحرية.
التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية، لكنه يحق سؤال: هل كان ممكناً تجاوز أحمد إسماعيل لو كان ما يزال على قيد الحياة؟ الإجابة شبه اليقينية: «لا».
هناك وشائج وعلاقات خاصة جمعته مع السادات. كلاهما ينتمي إلى جيل واحد ودفعة واحدة في الكلية الحربية، وقد مكنته معاهدة (1936)، التي وقعها زعيم الوفد مصطفى النحاس من دخولها.
رغم اقترابه من جمال عبدالناصر، ابن الدفعة نفسها، لم ينخرط في تنظيم «الضباط الأحرار».
ظل ضابطاً محترفاً طوال حياته، وقد عمل على تطوير قدراته العسكرية، ما أهله لتولي المناصب العليا قبل أن يصعد لتولي وزارة الحربية بعد الفريق محمد صادق قبل حرب أكتوبر مباشرة.
تداخل صعوده العسكري مع أسطورتين، عبدالمنعم رياض، التي أكدها استشهاده على خط النار الأمامي أثناء حرب الاستنزاف، وسعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب أكتوبر، الذي أكسبه التنكيل المفرط به مكانة استثنائية في المشاعر العامة.
في القصص المتواترة عن الصدام المتوارث مع الشاذلي من أيام حرب الكونغو مال الرأي العام إلى القائد المضطهد الذي اختلف مع السادات وأدخله مبارك السجن، من دون إدراك كاف لتكاملهما أثناء ملحمة الحرب.
تمكن أحمد إسماعيل بشخصيته الرحبة وتواضعه الإنساني مقترناً بعلم عسكري اكتسبه بدأب من فرض «هيبة الأب» على الضباط والجنود. بتكوينه الأساسي فهو واقعي يتحسب لخطواته قبل أن يقدم عليها، كما حدث بالضبط عند تكليفه بخوض الحرب.
طلب من السادات أن يكون التكليف محدداً بدقة ومكتوباً. عندما صاغ هيكل التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر، الذي تضمن: «تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي».. عاد ليطلب من السادات إضافة «في حدود الإمكانيات المتاحة».
تكامل معه سعد الدين الشاذلي، بشخصيته شديدة الاعتداد بقدرتها على التخطيط العسكري وإدارة عمليات القتال والعناية الفائقة بأدق التفاصيل في بث الثقة الضرورية في صفوف الضباط والجنود على كسب الحرب. على عكس الشاذلي لم يعهد عن أحمد إسماعيل أية خلافات مع «السادات».
وقد تحملت ذكراه مسؤولية ما جرى بعد رحيله من تحولات وانقلابات سياسية واجتماعية واستراتيجية نالت من أكتوبر، رجاله وبطولاته حين خذلت السياسة بطولة السلاح.
في العام التالي (1974) بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي وصفها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بـ «السداح مداح». انقلبت الموازين والسياسات وأهدرت المعاني الكبرى التي قاتل من أجلها المصريون.
كان هو العام نفسه الذي رحل فيه من دون أن يكون شريكاً، أو طرفاً، في الانقلابات التي جرت.
إقرار الحقائق ضروري لإنصاف رجل أكتوبر المنسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى