توقف الزمن العربي !!!
بقلم: علي محمد فخرو*
لكأن اليوم كالأمس، وكأن الزمن توقف والنفوس توقفت عن ممارسة بناء الأمل والأحلام الكبرى. إني أعرض نتفاً من خطاب ألقيته في يناير/كانون الثاني عام 1993 في فندق الشام في ربوع دمشق العزيزة، كرئيس للهيئة العليا للمجلس العربي للاختصاصات الطبية، أثناء اجتماع ندوة عمداء كليات الطب العربية. قلت الآتي منذ أكثر من الثلاثين سنة العجاف وكأنني أقولها اليوم بدموع الأسى والحزن.
«أيها الأخوة، إني أذكركم بكارثة الخليج العربية القومية، نتيجة لهيمنة العقلية القطرية التي تعيش على الآنية. إني أذكركم بمآسي لبنان من جرّاء الخلاص الفردي الذي مورس عبر عقدين مأساويين من الزمن، وأذكركم بجوع وعري الصومال العربي أمام عيون وآذان أمّته، دون استجابة جدية منها. إني أذكركم بعربدة وصلف وأطماع الكيان الصهيوني في فلسطين العربية المأساة. إني أذكركم لتدركوا عظم المآسي ولتعلموا أن خلاصنا جميعاً يكمن في المؤسسات الوحدوية، كمؤسستكم هذه، التي تكونت بعقلية قومية وحدوية لخدمة أبناء الوطن العربي الواحد. أما اجتماعات العلاقات العامة، أمّا بيانات العواصم الموسمية، فإنها كالزبد الذي سيذهب جفاءَ».
اليوم، لا نعيش فقط جميع المآسي التي ذكرتها آنذاك في خطابي، وإنما أضفنا إليها فواجع كبرى، ودماراً هائلاً في أقطار أساسية كبرى كانت ملء العين والبصر، وفي الطليعة وقائدة الآمال الكبرى. فإن تجلس غالبية أنظمة الحكم العربية، وغالبية مؤسسات المجتمعات المدنية العربية، سنة كاملة وهي تشاهد أبشع صور الإبادة والاستباحات في غزة ومؤخراً في الجنوب اللبناني، من دون أن تفعل شيئاً، فإن تأوهات الماضي تصبح لفحة من جحيم الحاضر.
وقس على ذلك ما يشاهده الكل من دمار وتمزق وجوع في السودان وسوريا واليمن وغيرها من الأقطار بصور مقنّعة، ومن دون أن يرفّ جفن أو تنهمر دموع.
وليس في السياسة والأمن فقط. فمنذ بضعة أيام كنا في مؤتمر شعبي، نناقش خطط البحرين الاقتصادية لسنوات 2030 و2050 والخطط المماثلة لدول مجلس التعاون. في مداخلة لي ذكرّت الحاضرين بأن كل ما ننقده ونقترح حلولاً له، قُدّم في مذكرة تفصيلية من قبل مجموعة من وزراء دول مجلس التعاون منذ أربعين سنة، لأمانة المجلس ودوله. الفرق فقط هو في ازدياد حجم وشدة ما يحتاج لنقد وتصحيح.
كان أقصى همّ أصحاب المذكرة آنذاك هو، أن ينتقل اقتصاد دول مجلس التعاون من مرحلة الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي. أما اليوم فقد زدنا على مشاكل الاقتصاد الريعي القديمة جحيم الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي بكل مطالبه وأهدافه المجنونة من سوق حر منفلت، إلى ازدياد في غنى الأغنياء وفقر الفقراء، إلى فردانية استهلاكية نهمة، إلى تهميش كلي للقيم والأخلاق في عوالم المال والاقتصاد والتكنولوجيا والعلوم، إلى تدمير ممنهج لبيئة الإنسان الطبيعية والمعنوية.
منتهى أمنياتنا اليوم هو أن نعود إلى الدولة التي أردنا إصلاحها منذ أربعين سنة، دولة الرعاية الاجتماعية، التي لم تُبقِ فيها هجمة الخصخصة أنفاس أدنى مستويات الحياة. وهكذا يجري الزمن ونحن ندور في حلقة مناقشة الأمور نفسها.
منذ بضع عقود من الزمن فقط، كان الزّخم الوحدوي التحرري المستقل الناهض الندّي، المتمرّد على كل أنواع الاستعمار وعلى المشروع الصهيوني برمّته، المتوجه نحو الاعتماد الذاتي، هو المؤسّس والموجّه لكل خطاب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. أما اليوم فقد حلّ محله خطاب الخلاص القطري الأناني، حتى ولو كان مضراً بإخوة آخرين، وأصبح من يؤلف الخطاب ويقوله ويفرضه هو الوزير أو العسكري أو الاستخباراتي الأمريكي، المؤتمر هو بدوره بالتوجيه الصهيوني الدولي.
لقد وصفت في المقدمة بأنه توقف الزمن وضعف النفوس والإرادة في أرض العرب. لا، إنه تراجع مذهل وغياب للرجولة والمروءة تحتاج إلى روح جديدة تغييرية وإلى رأس غير منكّس كرؤوس الدجاج. قمّة الخيانة في هذه المرحلة تتمثل اليوم في جرأة البعض على نقد وتقريع المقاومة العربية، لأنها تجرأت وثارت ضدّ التركيع والتدمير الشيطاني الصهيوني. حتى محاولة رفع الرأس والدفاع عن النفس والعرض والوجود العربي من قبل قوى قليلة شجاعة مضحية لا يريدها هذا البعض. ومع ذلك فهذه الأمة لن تموت وسيرى الجهلة وفاقدو الإرادة والمروءة أيّ منقلب سينقلب شياطين الخارج والداخل.
*كاتب ومفكر بحريني