7 أكتوبر.. مقاومةٌ بقامة ملْحمَة
بقلم: محمد بنيس*
فلسطين المُشْمسَة، من القدْس إلى حيْفا، ومن الخليل إلى غزّة، تتوسط الأرضَ من جديد. لم يكن ذلك في الحُسبان قبل يوم 7 أكتوبر 2023، الذي جعل العالم ينْـتبه إلى وجود فلسطين، أرضاً وشعباً، لا ينفصلان. تلك هي فضيلةُ المقاومة، التي أعادت فلسطين إلى مكانتها، بعد أنْ وصل الجبروت الإسرائيلي حدّ مسح اسم فلسطين من خريطته التي بشّر، من خلالها، بشرق أوسط جديد، يدّعي الإقبال على إنشائه.
عامٌ من المقاومة. حتّى المنجّمون أخفقوا في التنبؤ بالبطولة المعْجزة للمقاومة الفلسطينية، على أرض غزة. هي معجزةُ هذه البطولة التي محتْ معجم الاستسلام، التطبيع، التفوّق الإسرائيلي، التكنولوجيا القاهرة، الشرق الأوسط الجديد، وأبْدلـتْه بمعجم العلَم الفلسطيني ذي الألوان الأربعة، الكوفية، كتائب المقاومة، عبقرية الأنفاق، حرب العصابات، وحْدة فصائل المقاومة، الاستشهاد، الحاضنة الشعبية، جبهة الإسناد، تضامن الشعوب والأحرار.
باكتساح المعجزة المقاومة وسائلَ الأخبار والدعاية الكاذبة، تعرّف العالم على علم فلسطين والكوفية في ساحات العواصم والمدن والجامعات، من أوروبا إلى الولايات المتحدة، وفي بلاد عربية وإسلامية ارتفع العلم بخفقانه وسط الأعلام الوطنية، تأكيداً على الوحدة.
عامٌ كاملٌ من مقاومة لا خضوع فيها للعدوان الإسرائيلي ـ الأمريكي، متواصلاً بليالي ونهارات الدمار والقتل. مشاهد الإفناء، هي وحدها التي يتباهى بها الاحتلال الإسرائيلي. وطيلة النهار والليل يبحث شعب غزة عن مكان آمن فلا يقابله سوى الجوع والعطش والقتل. والمقاومة تصرّ على الذي وحده يجب أن يكون، البقاء الحر على الأرض.
كنا، في المغرب، تعلمنا كلمة «المقاومة» من حركة التحرير الوطني ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني. شعارها الاستقلال وتحرير الأراضي المغربية، التي أخضعتها الحماية لسلطة الدولتيْن الاستعماريتيْن. كان ذلك في بداية الخمسينيات. عندما كان المغاربة يسمعون، آنذاك، عن عمليات المقاومة كانوا يشعُرون بقرب حريّتهم، ومن أعماقهم كانوا يهْتفون. كذلك السابقون، الذين كانوا يتبادلون أخبار محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف، مبدع حرب العصابات، التي قاوم بها الاستعمار الإسباني في الشمال وحقّق بها انتصاره التاريخي في معركة أَنْوال، صيف 1921، فيما الفلسطينيون، الذين كانوا في بداية مقاومة الاستيطان اليهودي، كانوا يتابعون بشغَف أخباره، كما تعلّم منه الفيتناميون في الفترة اللاحقة.
7 أكتوبر. يوم بمفرده يؤرخ لزمن البطولة الخاص، في العصر الحديث. يوم حرية فلسطين. ومن 7 أكتوبر 2023 حتى 7 أكتوبر 2024. عام لا يُعدّ بشهوره أو أسابيعه، بل بساعاته ودقائقه. طيلة العام، ظلت المقاومة الفلسطينية واقفةً في مكانها. لا تراجع ولا تهاون. من الشّدائد العليا واصلت فعْلها الذي لخّصته في كلمة واحدة هي «الحرية». كلمة تختصر ما لا بد منه في تحقيق العدالة، أي استرجاع الأرض المحتلة، منذ 1948. كلمة «الحرية»، لدى حركة المقاومة الفلسطينية، ذات كثافة تاريخية ونفسية بعيدة الغور، حتى أصبحت طريقة حياة، بذائقة الخلود على الأرض الفلسطينية. بذلك أعطت المقاومة، خلال هذا العام، حالةً كاد العالم ينساها، في زمن الليبرالية الجديدة، التي عبّرت عن وحشيتها في إخضاع البشرية لما تريد أن يكون عليه العالم، سوقاً للعبودية والنخاسة، من غرب الأرض إلى شرقها.
ما أعطته المقاومة الفلسطينية بكلمة «الحرية» هو الفجْر الصّادق، لكل من لا يزال يعتقد أن الحرية جذرُ القيم الإنسانية ومنبعُها. لهذا ارتفعت أصوات شعوب وشبيبة مناديةً بالعودة إلى قيمة العدالة ورفض العنف والدمار والقتل. نداءٌ من أعالي أسوار المقاومة، يرحل ليفتتح الآفاق. شعوبٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ أعلنت النداء إلى جانب شعوب وشبيبة غربية. جاء 7 أكتوبر بـ«طوفان الأقصى»، وجاءت المقاومة. هو الرد على العدوان الإسرائيلي، الممتد منذ سبعين سنة، بما يحمل من احتلال الأراضي، مصادرة الأملاك، محاصرة ومراقبة المدن والقرى، وفي مقدمتها قطاع غزة، وانتهاك حرمة الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، بعنوان المسجد الأقصى، العلامة الكبرى لهذه الانتهاكات. وتجاوبت الأصواتُ ضد سلوك الغرب المنتصر لسياسة العدوان الإسرائيلي فيما هو يدوسُ القيم الإنسانيةَ، التي كان ذات يوم أعلنها، وجعل منها علامة على تحضُّره وتمسُّكه بالحرية والعدالة والديموقراطية. لا شيء من ذلك، في التصريحات والأفعال. الغرب، اليوم، هو غربُ الاستعمار وغزو البلاد واستغلال الشعوب. غربُ اليمين الفاشي، الذي يناصر إسرائيل ليناصر نفسه، بالعدوان على الشعب الفلسطيني.
لم تُعد المقاومة كلمةَ فلسطين إلى مكانتها فحسب، بل فتحت أبوابَ كلمة «الحرية» على عهد جديد من أخوة النضال المشترك عبر جبهة المساندة، التي عملت بدورها على التذكير بأن المقاومة الفلسطينية ليست يتيمة، وبأن المساندة تتعاظم بأخوّة النضال المشترك. أقربُ معاني الأخوّة ما بادرتْ إليه المقاومة الإسلامية اللبنانية في التنبيه على واجب السيْر، يداً في يد، مع المقاومة في صد العدوان على غزة. وهو ما أقدمت عليه اليمن والعراق. عهدٌ جديد، لا شك، في زمن الاستسلام والتواطؤ من طرف الأنظمة العربية التي تُوجَد بغيْرها، الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ الأوروبي، لا بنفْسها، بعُبوديتها لا بحريّتها، التي ندمتْ عليها، أو ربما التي كانت دوماً عبئاً يضاعف الأعباء.
هذا الباب الذي فتحته المقاومةُ الفلسطينية يقود إلى التذكير المفصّل، المعْرفي، الموثّق، بتاريخ وما قبل تاريخ إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي. إذنْ، لتبقَ الذاكرة يقظة. لأن الحركة الصهيونية تأسست ضد تاريخ مشحون بكراهية الغرب المسيحي لليهود. كما أنها حلّتْ بالأرض الفلسطينية في شروط الهيمنة الاستعمارية الفرنسية ـ الإنجليزية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. نعم، التذكير، بكل ذلك، ضرورةٌ، في عنفوان الحرب والعدوان وما وُوجه به من تضحيات لا تُقاس إلا بعظمة الحرية. إسرائيل والغرب والعرب المتواطئون يُدركون أن إخْضاعهم للفلسطينيين، وللشعوب العربية ولجميع المناصرين للمقاومة الفلسطينية، يبدأ بمسْح الذاكرة التاريخية للمأساة الفلسطينية وتبديل معاني القيم الإنسانية. هذه وظيفةُ مؤسسات الدعاية الضخمة. ومساندة المقاومة تتوسّع باستحضارها. هنا، في فلسطين، ذاكرةُ الأرض والشعب الفلسطيني تؤبّدها المؤلفات والأعمال الأدبية والفنية والآثار، مثلما تُحْييها الثقافة الشعبية، في الغناء والقصص والسّيَر الشعبية والرقص واللباس والطرز والطبخ والخزَف والعمارة وآداب السلوك.
عامٌ من وقاحة الغرب في الدفاع عن العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة ثم أخيراً على الشعب اللبناني. للغرب مراتب. هناك الغربُ الأمريكي الذي يُبرّر، برتبته الأولى، المشاركةَ المباشرة، كلاماً وموقفاً وسلاحاً، في العدوان بتبديل معاني القيم، بعدم إزعاج الاحتلال، بالرواية الإنجيلية، وبمنطق «المصالح القومية» السيّدة، المكشوفة، من غير زخرفة بلاغية. بدوره، الغرب الأوروبي، طيلة العام، يُضاعف من احتضان إسرائيل بأذرعه العسكرية وحواجزه القانونية وإعلامه المسعور. الوقاحة، هنا، تدل على الوجه العلَني في الفعل العدواني، والجرأة على تعمّد اختراع الأكاذيب وعلى تجْييش مشاعر الكراهية والحقد، ونكران واقع الحصار على غزة وإقامة المزيد من المستوطنات واستباحة الأماكن المقدسة، في وصف «طوفان الأقصى» يوم 7 أكتوبر. لغة الوقاحة يُتقنها سادةُ الاستعلاء، الهيمنة، التفوق العسكري والإعلامي والتكنولوجي. هي اللغة التي يُشْهرونها في المحافل الدولية كما في مناسبات المُباهاة والتفاخر بدعم العدوان على شعب فلسطين.
لكنه أيضاً عامٌ من مواقف وكتابات وندوات رائدة لدول وكتّاب ومثقفين وفنانين غربيين. ما ساهم به أوروبيون وأمريكيون، من أصحاب النفوس الحرّة، أصبح ذخيرةً لإعادة قراءة زمننا وزمن العدوان الإسرائيلي. هكذا، جاءت الدعوى التي رفعتها جنوبُ إفريقيا ضد إسرائيل أمام «محكمة العدل الدولية» بمثابة استعادةً لذاكرة المقاومة، التي اغتنت بها حركاتُ التحرر في القرن العشرين.
7 أكتوبر. دليلٌ على عام من المقاومة والاستشهاد. هذا التلازم بين الفعليْن يبني واقعاً حياً ومتفرداً، في حروب التحرير التي خاضتها الشعوب، بغية الوصول إلى الفرح بالاستقلال. وهو يبني، في غزة، قامة الملحمة التي يكتبها الشعب الفلسطيني في قلوب ونفوس المساندين والمتضامنين، بدم الشهادة والألوية المرفوعة في سماء الحرية. وهو، أيضاً، عامٌ من المقاومة الإسلامية في لبنان التي مدّت اليد إلى اليد الفلسطينية في غزة، وفاءً نبيلاً لتحقيق قيمة الحرية على أرض غزة ومقاومةً لأيِّ مساس باستقلال لبنان وتمجيداً لحرية اللبنانيين.
يدّعي الاحتلال الإسرائيلي، منذ إنشائه حتى اليوم، أنه يختار السلام. ادّعاءٌ ماكرٌ. كذبٌ يتوارى لينكشف باختيار سياسة الميْز العنصري ضد الشعب الفلسطيني وإتقان إبادته. لكنه لا يريد أن يفهم، ولا شركاؤه الغربيون ولا المتواطئون العرب، أن الشعب الفلسطيني يسعى، بثبات المقاومة، إلى تحقيق الحرية.
هي مقاومة بقامة ملحمة، يتوقف عندها الفلسطينيون واللبنانيون، ويتوقف مؤيدوهم من الأحرار في العالم. نصبٌ مرفوعٌ في فلسطين. نشيدٌ بعد نشيد.
*محمد بنيس شاعر وكاتب مغربي