قراءة في القصة القصيرة.. “سر في صورة” للقاص الفلسطيني محمود سيف الدين الإيراني

بقلم: فراس حج محمد| فلسطين


في المجموعة القصصية للقاص محمود سيف الدين الإيراني[1] “متى ينتهي الليل”[2] وردت قصة بعنوان “سر في صورة”. تختزن هذه القصة العديد من الصور، ولا يقتصر الأمر على حديثها عن لوحة فنية. إن هذا أمر مهمّ في القصة لكنه ليس الوحيد، إذ يلتفت القاص أيضا من طرف خفي إلى كيفية التعامل مع الصور أو قراءتها، وتقدم القصة طريقتين لقراءة اللوحة الفنية، واحدة ظاهرة وأخرى معمّقة، قام بهما صاحبها الفنان التركي البائس، ضياء الدين بيك، تبدأ القراءة بالخطوة الأولى وهي “يجب أن تعرف كيف تنظر إليها أولاً… […] قم… تعال نبتعد قليلا عن الصورة… مسافة مترين، انظر الآن”. وأخذ يعدد صفاتها الخارجية. وبعد أن ينهي الوصف الخارجي يرشده إلى القراءة المعمّقة، وتقوم هذه القراءة على التأمل “ولكن تأمل قليلاً، وحاول أن ترى أكثر من هذه الألوان… وراء هذه الألوان”. هذان أمران بالغا الأهمية في هذه القصة القصيرة، ومنهما تنطلق الأحداث جميعها، كما سأبين في ما يأتي من تحليل.
تقوم القصة على أسلوب السرد التقليدي بضمير الغائب (الضمير الثالث). للوهلة الأولى وبالقراءة العابرة سيجد القارئ أن السر في اللوحة التي تعطيها القصة وصف “الصورة” أمر ثانوي جاء من أجل العنونة اللافتة للنص، إنما في حقيقة الأمر- كما رأيت- إنها بؤرة معنوية تسيطر على الخلفية المعرفية للنص بكامله، وتنبع هذه السيطرة من أنها شكلت أساسا عميقا لفهم القصة وأحداثها، ولعلها أيضا كانت هي السبب في تركيز القاص على الوصف الخارجي لعناصر القصة، وخاصة المكان والشخصيات.
وشكلت اللوحة بمنطقها المغلف بالسر والملفع بنوع شفيف من السخرية طباقية – حسب المصطلح الإدواردي[3] مع المكان الذي حلت فيه، فجاءت غريبة عنه، فكل شيء متآلف فيه “إلا هذه الصورة ما شأنها هناك”. فكيف جاءت هذه اللوحة لتكون في محل بيع مواد تموينية وعند رجل لا تناسبه، ولا يتناغم معها، ولم يستطع فهمهما ما سببت له قلقا، وسعى إلى فك رمزيتها وسرها، لكنها بقيت مستعصية عليه.
وما يعمّق طباقيتها في القصة هو أنها جاءت سداد دين، وربما هنا تبرز ثنائية مهمة؛ وهي أن عصر التطور المالي والاقتصادي الناشئ جعل الفن هامشيا وتابعا لرأس المال، بحيث يتحول إلى مجرد سلعة عديمة القيمة بيد رجل كالسيد حمدان الذي تطور ماديا لكنه بقي- كما تبدو صورته- يعيش بمزاج الماضي ومعايير ذلك الماضي.
وارتبطت اللوحة بمبدعها الذي يفهمها، لكنه بدا باهتا مدينا منكسرا بائساً، لم ينفعه الفنّ والإبداع في ظل سلطة المال وتسلّطه الذي بدا واضحا في حيازة حمدان للوحة بسبب الدين، وتبدو مرة أخرى صورة الفنان الفقير البائس الغني روحياً، يقابل الرجل الغني ماديا والفقير روحياً، لم ينتفع السيد حمدان بشرح الفنان وتوضيح للعناصر الجمالية للوحة، وبقيت بالنسبة له ذات سر غامض، فقد انتبه السرد القصصي إلى أن عطش حمدان للمرأة عطش خارجي شهواني جسدي، وهذا النوع من العطش لا يعمر طويلا مع النساء، فإذا ما ارتوى الشخص لم تعد لهذه المرأة حاجة؛ لذلك ظلت “عيشة” زوجته الأولى هي التي تلبي رغبات روحه وتتناغم معه على الرغم من نكدها وزعيقها الدائم وصورتها المنفرة وشعرها المنفوش.
من زاوية أخرى، فإن هذه اللوحة تتناظر في دلالتها وفي أوصافها إلى حد التطابق مع الزوجة الثانية للسيد حمدان الذي اغتنى وتبدلت حاله من فقر إلى غنى، فشعر أنه لا بد له من زوجة ثانية، فيحصل عليها ولتعميق الربط بين الصورة أو اللوحة الفنية وهذه المرأة فقد وصلتاه معا في اليوم ذاته، وتعبّر القصة بدلالة خاصة مرتبطة بالمرأة أنه “سينتقم لنفسه، ولحرمانه الطويل، لظمأ قلبه وجوع روحه”.
تتعامل القصة مع هذه الزوجة المسمّاة هناء على أنها “بضاعة”، وبالتالي فهي لم تكن روحا ولا إنسانا كاملا، كاللوحة تماما التي نزلت من مستوى الفن الرفيع لتكون مادة باهتة فقط، قبلها على مضض. إذاً المرأة كاللوحة تلبيان حاجة مادية وليست حاجة روحية، فهذه العروس جاءت “كما اشتهاها في حرقة أحلامه وجنون اشتياقه إلى البدن الشهيّ”. ولذلك عندما قضى وطره منها، لم يعد يرغب فيها، فقد مات الشغف، “لقد انطفأت وقدة الغرام، وحرقة الاشتياق إلى البدن الشهي التي كانت تلهب أحشاءه قد بردت.”
لقد أعطى السرد الأوصاف ذاتها لكل من المرأة هناء واللوحة الصورة فقال في وصف هناء في الصورة المتخيلة في ذهنه بداية التفكير بزوجة ثانية: “حورية من الجنة، بيضاء، شقراء، ذات عيون زرق، فيها رقة وحلاوة ودلال”. ثم عززها بالصورة الواقعية فجاءت كما تمنى بهذه المواصفات: “بياض، وشقرة، وورد على الخدين، وزرقة في العينين”. أيضا كانت هذه الصفات الخارجية للوحة: “البشرة المخملية، وهذا الورد على الخدين، وزرقة البحر في عينيها، وتلك الابتسامة الخفيفة على شفتيها، والذهب الذي يتألق في شعرها”. كما التقتا في الاعتبار نفسه عند السيد حمدان فالصورة هي “ليست أكثر  من شبه صورة لامرأة”. وهنا لم تكن في النهاية سوى “إنها ألوان هي الأخرى”. كما أنه وصف اللوحة ذاتها بالوصف ذاته عندما قال: “إنها مجرد ألوان تراكم بعضها فوق بعض”.
إن الربط حاضر بقوة بين الصورة وبين المرأة، ولم يتمكن السيد حمدان من فهمهما أو التعايش معهما أو التصالح مع وجودهما؛ فكلتاهما سببتا له قلقا واضحا، اللوحة والمرأة، وكلتاهما تشتمل على سر، فهناء “تنطوي على سرّها” فتشعره، وإن امتلك جسدها، كما امتلك اللوحة وحازها في محله، إلا أنهما لا يبوحان له بسرهما، ولذلك يشعر بأن هناء أقوى منه، وأرفع منه، وتشعره بأنه ضئيل، وصغير وتافه. ما دفعه ليسأل نفسه “أي شيء وراء كل هذا؟”.
يبين القاص إجابته على هذا السؤال من خلال قراءته المعمقة للصورة باعتبار أن الصورة تناظر المرأة هناء، وهو يشرح دلالات العناصر الفنية الخارجية السطحية، فالجفون فيها انكسار، ونظرتهما مصوبة إلى داخل النفس، والابتسامة ابتسامة مسكينة، استسلام حزين صامت. والنتيجة التي تلخص هذا التناظر بين اللوحة وهناء قول الفنان معقبا على المرأة اللوحة، وأغلب الظن يحيل القارئ على المرأة، الزوجة الثانية (هناء)، فيقول: “هذه المرأة خيبت لها الأيام آمالاً”.
إذاً، يستطيع الدارس أن يقرر أن المرأة الثانية هناء في حياة السيد حمدان ما هي إلا صورة، نظر إليها من الخارج، ولم تتجاوز معرفته هذا المستوى، لتكون المرأة الثانية أيضا نقيضا، صانعة طباقية مركبة مع المرأة الأولى عيشة ذات الصفات المناقضة لصفات هناء، فهي نكدة، وتصرخ كثيرا، وشعرها منقوش، ووجهها مربدّ وأسارير متجهمة، وعينان مدورتان تبحثان عن الشر، ولسان سليط يدور دائما في حلقها. كل صفة في عيشة لها ما يناقضها في “هناء”، وفي المرأة اللوحة، وبذلك يكون القاص قد ربط خيوط النسيج القصصي بتآلف لتكتمل اللوحة الكلية بتمامها في هذا الجانب أولا؛ ألا وهو الجانب الخاص باللوحة والمرأتين.
على الجانب الآخر، ترسم القصة للسيد حمدان صورتين متناقضتين، واحدة ما قبل الحرب العالمية الثانية حيث كان فقيرا، وذا لباس متواضع، وهيأة تتمثل في أنه رجل بسيط ضائع في زحمة القطيع البشري، يشتري في العيدين قمبازا من الكتان الملون الرخيص، قذر وحائل، وحذاء غليظا، وسترة نصف عمر من بائع الملابس القديمة، أما شارباه فمتهدلان منكسران ولحيته مهملة شائكة وعيناه ذابلتان وجسمه متعب مكدود. تبدلت هذه الصورة بعد أن أصبح ذا مال، فأصبح هو التاجر الكبير، ويلبس حلته الإفرنجية الثمينة، وقميصه حريري مهفهف، وربطة عنق مشجرة نفيسة، وحذاء إنجليزي فاخر، وطربوش أنيق ممتاز، ويضع في أصابع يديه الخواتم من الذهب والألماس، ويزين معصمه بساعد يد ذهبية. أما هو شخصيا فصار رجلا آخر له صفات مختلفة تماما عن الصفات الأولى التي كانت تصفه في حالة ذلته وانكساره، فقد انقلبت هذه الصورة إلى النقيض؛ فالوجه الممصوص أصبح ممتلئا بالبشر والنضارة، والعينان الذابلتان الخابيتان تألقتا، والقامة الهزيلة قويت واشتدت، والشاربان المسترخيان نهضا واستويا مبرومين بعد ذلة وانكسار.
حاول السيد حمدان أن يجد له امرأة جديدة تناسب وضعه، ولو كان التناسب شكليا خارجيا، فكانت هناء، لكنه لم يجد معها ما كان يريده ويطلبه، فشعر بالهزيمة معها، وانحاز إلى عيشة بكل تلك الصفات التي تناسبه في العمق، فما هو فيه من بهرجة شكلية ما هي إلا عرَض مادي لا يؤثر في الروح، لذلك تراه يتساءل أمام اللوحة والمرأة، ويضع مصيرهما على الهاوية وذلك بالتخلص منهما معاً.
بهذه الكيفية ترتبط اللوحة بكل مفاصل القصة وأحداثها لتكون هي المحرك الأساسي للفكرة، ومجسّدة لها أيضا بأطرافها الثلاث: السيد حمدان، وهناء، وعيشة. ولعلي لا أتعدى الصواب لو قلت إن امرأة اللوحة أو اللوحة بهذا المفهوم هي البطل الحقيقي للقصة وليس السيد حمدان، على اعتبار أن البطل هو من يجسد الفكرة ويوضح رسالة القاص.
هذا أمر والأمر الآخر الذي لاحظته في بناء القصة أن الكاتب قد عمد إلى اللغة الواصفة، والباحثة عن التفاصيل لرسم المشاهد كلها، فجاءت القصة مبنية من مشاهد متعددة متآلفة مع بعضها، فكأنها مجموعة صور مرسومة بالوصف، وقد تدرّج الإيراني في رسم المشاهد من العام إلى الخاص، فرسم الصورة العامة بمشهدها الكلي ثم أخذ الصورة تركز شيئا فشيئا، وتتقلص مساحتها وصولا إلى دكان السيد حمدان وشخصه. تشعر وأنت تقرأ أنك تشاهد عرضا متحركا للحي بكامله وناسه قبل أن يصل القاص إلى هدفه والتركيز على الشخصية الرئيسية فيها.
نتيجة لهذا العرض الذهني اللغوي للمشاهد، كان هناك ما يزيد عن عشرين صورة، متفرعة من تلك الصورة المحركة للأحداث، اللوحة، فهناك وصف لصورة حي الأشرفية وتطوره، وصورة الناس والتنوع البشري فيه، وصورة المعروضات في دكاكين الحيّ، وصور البنايات القديمة والجديدة وتوسع الحيّ، ودكان سيد حمدان القديم وما فيه من معروضات وبضائع، وصورة مستودعه الكبير، وصورة حمدان وهو نائم، وصورته وهو يراضي زوجته، وصورة بيته الجديد.
وثمة صور ناشئة عن الحوار بين الشخصيات، كحوار حمدان مع عيشه، وحواره مع الفنان التركي مرتين، وحواره مع الصحفي، فكلها مشاهد صورية متعددة العناصر تقدم صورة تؤطر تلك العناصر في إطار معين من اللحظة التاريخية والمكان الذين ضمهما، فقد توفرت في هذه المشاهد كل العناصر التي تؤهلها لأن تكون صورا مرسومة بعناية.
وبدا في بعض المشاهد صورتان متخيلتان، متوقعتان، وذلك في مشهدين، الأول في تلك الصفات المتوقعة للزوجة الثانية، وبينت ذلك في موقعه سابقاً، وأما الصورة الأخرى المتخيلة فتمثلت في توجّسه عندما “اندلعت نار الحرب العالمية الثانية، فهوى قلب السيد حمدان إلى حذائه، وكان يسمع عنها ولا يفهم إلا أنه سيعرى ويجوع ويشّرد كما حدث له في الحرب الأولى. إنه إذاً يسترجع صورته القديمة، ليبني عليها صورة جديدة متوقعة في المستقبل، لكن تأتي صورة الحاضرة صورة مختلفة تماماً، اهتمت القصّة برسم تفاصيلها بالكامل.
كما أن السرد استطاع تصوير مشاهد متحركة لنشاط الناس في الحي، وحركة التجارة في مستودع السيد حمدان. وبذلك تكون القصة قد عبّرت عن الفكرة، فكرة سر في صورة، لتنفتح دلالتها، فليست مقصورة على فك شيفرة لوحة الفنان التركي ولا معرفة سر هناء، إنما السر أصبح في هذه الصورة الكلية المتشكلة من مجموع هذه الصور، وكأنها مقطعيات نسجية من جدارية كبيرة ترسم الحي وناسه، وتطوره العمراني، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يتطور أهله روحيا، تطورا يوازي التطور المادي. وهذا ما تكشف عنه الصورة الكلية للعمل الأدبي، ولكن بتوظيف تقنية الصورة في رسم المشاهد، والاستعانة باللوحة الصورة التي جمعت كل الأحداث بفضائها، فهي بالتأكيد لم تكن “قطعة من الخيش المدهون”، وليست كذلك نوعاً من التفاهات.
الهوامش:

[1] كاتب فلسطيني، ولد في يافا عام 1914، وتوفي عام 1974، عمل في سلك التعليم، وصدر له عدة مجموعات قصصية. ينظر: موقع وزارة الثقافة الأردنية: https://2u.pw/1EQYElV4
[2] الأعمال الأدبية الكاملة، محمود سيف الدين الإيراني، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمّان، 1998، ج 1، وتقع القصة بين ص 335- 341.
[3] نسبة إلى إدوارد سعيد، مصطلح استعاره من الموسيقى، وصكّه ليطبقه على دراساته الثقافية والنقدية، ويهدف من خلاله إلى أمرين: تعدد القراءة، والكشف عن التقابلات بين الثقافات وخاصة بين المستعمِرين والمستعمَرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى