“أبو رغال”.. ما زال بين ظهرانينا
بقلم: حسن خليل*
يزخر تاريخ العرب بالحكايات والأساطير والسيّر. كما يزخر بالشعر والغزو والقتل والتهجير. ما وصلنا منه، سواء المكتوب أو المقروء، يتناقض في الرواية وفي مقاصدها، ومرّد ذلك إلى الراوي أو الناقل أو القائل.
تنقل ملاحم الشعر ومعلقاتها، على باب الكعبة أو بين الصدور أو في بواطن الكتب، حكايات الغزو والقتال والمدح والرثاء والفخر، بلغة مسبوكة ومتراصة كمشية الجند في استعراضاتهم؛ فتكاد لا تخلو قصيدة أو بيتاً من الشعر من ذكر القبيلة والاعتزاز بالحسب والنسب والعمل وضوء القمر والرمال الحارقة ولهيب الشمس وبرودة الليل. هي سردية بُنيت عليها أوهام متخيلة كثيرة. كُلُ مُتلقٍ ينتقي مما يسمعه صورة ينسجها على كيفه ووفق المشتهى. هو ذلك الإرث البعيد في التاريخ والموغل في التخيلات ينتقل من جيل إلى جيل فتُنسج من حوله سرديات، تخلط بين الحقيقة والخيال، لتُنتج مساراً مرتبكاً، فيه من كلّ شيء نصيب.
“أبو رغال” من ذلك التاريخ؛ شخصية عربية تُوصف بأنها رمز للخيانة، حتى كان يُنعتُ به كلُ خائن عربي. فإذا ما اقتبسنا التاريخ لإسقاطه على واقع معيش، في منطقة لم تهدأ أو تستقر منذ أن وجد التاريخ منقولاً أو مكتوباً، فكمّ من تلك “الكنية” مرّت على ذلك التاريخ المستمر فصولاً وقتلاً وتآمراً.. وكم من الدماء سقطت في غير موضعها ولأسباب لا تستحقها. هو ذلك التوارث المنقوص والمتوتر والمتخاذل، الذي اتبع مسار الكذب والدس والنميمة ليبني منظومة تربية تمشي مترافقة مع الأحداث الدائمة في منطقة، انتقلت من لهيب الرمال وشمسها الحارقة إلى ويلات الحرب الدامية وآلامها القاسية، منذ أن عُرف بأن خير تلك البلاد في باطنها وليس على سطحها، فأصبح الباطن هو الأهم والمطلوب والخارج هو الرمال والأرخص، حتى ولو كان إنساناً.
كم من الأجيال توارثت “أبي رغال”؟
تناسله كثرٌ على مرّ الزمن.. وبيننا الآن، وغالى الأولاد والأحفاد في مسيرة الجدود فزادوا عليها. كم من الدماء سقطت على تلك الدروب والمسالك والخيارات والدسائس؟ لقد تفوقت عقدة الجاهلية على التحضّر فضاعت الهوية. لقد نسوا قيم الصحراء وقوانينها وانتقوا منها فقط ما يفيد القتل والسبيّ والسيطرة.
لقد ضاعت المروءة والشجاعة وإغاثة الملهوف ونصرة الضعيف والضيافة والكرم والنخوة.. حتى أنّ هذه القيم اختفت من العقول قبل القلوب ليستقر محلها الدس والنفاق والنميمة وحب الذات والتواطؤ.. لقد سقطت الخنساء مع أولادها في القبر لتُدفن معهم كي لا ترى أطفال العرب يُنكّل بهم وهم أحياء، لقد طارت غبار حطين واليرموك وذي قار.. وانتصاراتها ودماؤها لتُباع مواقف لنصّاب أشقر قابع في البيت الأسود يسوس الناس جماعات ووحدانا.
لقد وقع “الاشاوس” في استعراضات الجيوش والنياشين التي تملأ الصدور، وسقطت القيم وانتفت المرؤة بين أيادي أطفال اشتهوا كسرات الخبز اليابس.
كم أورثت يا “أبا رغال” من صفات؛ ولقد نمتَ أبد الدهر بين ظهرانينا حتى أصبحت شكل حكم وسياسة.
أنت لم تمت. ما زلت تعيث فساداً في الفيافي وأرجاء المعمورة، مترافقاً مع عسس الليل والنهار المفضوحين وهم يدرون ويدرون ماذا يفعلون. لم ينقطع فيك المسار والمقام، بل أصبح لك في كل عاصمة عربية مزار يحجّ إليه كثيرون، ممن استلموا سلطة أو ورثوها.
لقد أصبح لك في كل قضية أو موقف أتباعاً ومريدين ومقلدين يزايدون عليك ويكثرون من ذكر أفعالك ويبالغون. لك ارتفعت الرايات وأقيمت الاحتفالات، تجول وتصول، تفتي وتمنع وتنهر.. عُلّقت لك النياشين فغطت الصدور، وقُرعت الأجراس وعُلّقت الزينة. نعم هي متوارثة تاريخية تُسلّم من جيل إلى آخر، تُدرّس في مناهج العمالة المتتابعة ودروس الدس والنميمة، هي ذلك السلوك المتتابع أبداً، يسرح في الميادين والأزمان ومسارح الحوادث.. يفتي وينهي ويقيم الحدّ ويحكم وينفذ ويردع ويلعن… والبلاد والعباد له صاغرين شاكرين يلهجون باسمه صبحاً وعشية ويقيمون المناسبات على ذكره ويرفعون البيارق.
هي جاهلية؛ بدأت ولم تنته بعد. يُترك فيها المظلوم ويُنصف الظالم. يُترك فيها القاتل ويُحاكم القتيل. تُجزل العطاءات لمن لا يستحقها فيراكم الثروات ويُحرم المحتاج من كسرة خبز أو قطرة ماء أو هواء نظيف.
هي سردية متواصلة تتصل من جيل إلى آخر، لها في كل زمان رجال نُقشت أسماءهم بصفاتهم. لا يتورعون ولا يشعرون ولا تُنكس لهم أعلاماً. ضاعت المرؤة من رؤوسهم فهاموا في الفراغ حتى ضاعوا. لم تهزهم الدماء ولا البكاء ولا الدموع ولا الجوع ولا العطش.
هي مسيرة بدأت مع داحس والغبراء وما شابها من خديعة وتواصلت مع البسوس لتستقر عند بايدن وما له وما عليه من مونة على أصحاب الأمر والنهي: فيأمرون بالمنكر وينهون عن الحق.
*كاتب، أكاديمي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني