تعجز الأقلام والكلمات عن رثاء الفدائي الكربلائي القائد الشهيد حسن نصر الله

بقلم : فهــد الريمــاوي

تتقطّع أنفاسنا.. تحترق أعصابنا.. تتمزق أرواحنا.. يغلي الدم في عروقنا، وتكاد قلوبنا ان تقفز من صدورنا، تحت وطأة زوبعة من مشاعر الغضب والغيظ والسخط على تمادي العدو الصهيوني في سُعاره وعربدته، حد التجرؤ على اغتيال القائد الهمام السيد حسن نصر الله، أحد أولياء الله المجاهدين، وخلفاء جمال عبد الناصر الطاعنين في الاباء والفداء والجود بالنفس في ميادين القتال وساحات الوغى.

أعترف ان شدة الاحتدام والاضطرام تشل عقلي، وتسدّ منافذ فكري، وتحول بيني وبين عادتي الدائمة في الكتابة على مدار نيف وخمسين عاماً، وتضطرني للوقوف – لعدة أيام- عاجزاً عن التعبير عما يعتمل في فؤادي من شحنات حزن غامرة على غياب “أبي هادي” الذي ما تخيلته يوماً يلتحق بضمير الغائب، ويغادر هذه الدنيا وأنا على قيد الحياة، تاركاً لي ان اتجرع لوعة رحيله المباغت، كما لو انه أخي الذي لم تلده أمي، شأني في ذلك شأن ملايين أحرار العرب والعالم، الذين يُبجّلون الأبطال والثوار من رواد الحرية والتحرير.. رغم أنني ما التقيته يوماً ولا عرفني عن قرب.

ليس من الهين واليسير أن تنعي بطلاً – او جبلاً – من وزن هذا السيد الشهيد، لانك لن تجد قلماً يطاوعك.. وان تبكي هذا الفدائي الكربلائي، لانك لن تجد عيناً تذرف دمعك.. وان ترثي هذا الضرغام المُعمّم، لانك لن تجد حروفاً تنقاد لك.. نظراً لان المصيبة أكبر من قدرة الأقلام على استيعابها، وطاقة الحروف على تحمّلها، واستطاعة العيون على سكب شلال من الدموع يليق بالتعبير عنها.

كيف يمكن لكاتب ان ينعي البطولة في حد ذاتها، ويرثي الأسطورة بكامل صفاتها، ويؤبن المعجزة في أعلى حالاتها، ويندب الفضيلة في اطهر تجلياتها، ويُشيّع الكاريزما المُحّدقة باشجع رجالاتها، ويُعزّي في أحد رموز الأخلاق الملائكية، الذي أنجبته الأرض وأشتاقت له جنان الخلد في رحاب السماء ؟؟

على مدى ثلاثين عاماً لم نكن نرى هذا القائد المُتقد عزماً ونضالاً بأبصارنا بل ببصائرنا، ولم نكن نحبه بقلوبنا بل بضمائرنا، ولم نكن نسمعه بآذاننا بل بآمالنا وخواطرنا، ولم يكن يملك علينا عقولنا فقط، بل ايضاً كامل حواسنا وعواطفنا، ولم تكن بلاغة خطابه تُشكّل قناعاتنا وتصوغ مواقفنا فحسب، بل ايضاً تثير حماسنا وحميتنا و..تسحرنا.

من قلب دياجير هذا الواقع العربي الحالك السواد.. واقع القيادات الذليلة والمواقف الهزيلة والخيانات المكشوفة.. واقع صكوك الاستسلام المُهين في كامب ديفد وأسلو ووادي عربة وهرطقات الزمرة الابراهيمية.. سطع نجم حسن نصر الله، وطلع من لبنان فجر أول انتصارٍ عربيٍ على العدو الصهيوني في القرن الحادي والعشرين، حيث اقترن هذا الانتصار المطلق بأسم “نصر الله” الذي حرر – بتضحيات الفئة الحسينية المؤمنة – تراب الجنوب اللبناني من الرجس اليهودي دون قيد او شرط.

يكفي هذا القوي الأمين فخراً انه قد رعى وقاد حزباً باسلاً غطّى مساحة واسعة من الفراغ الذي تركته جيوش العرب المُستكينة، ونادد في الميدان جيشاً صهيونياً مدججاً بأحدث الأسلحة الأمريكية والأحقاد التلمودية، وتغلّب على معظم المكائد والدسائس والمؤامرات التي حاكها القريب قبل الغريب.. وقد احتاج جيش العدو لاغتياله والنيل منه الى عشرات الأطنان من المتفجرات التي تكفي لنسف سلسلة جبال شاهقة.

حتى لو لم يكن “أبو هادي” عربياً نقياً ومسلماً تقياً، ولو لم يكن زاهداً عابداً مُقتدياً بمسالك وأخلاق الأنبياء، لما وجد فينا الا كامل التأييد والتمجيد والتثمين العالي.. فلطالما نال تقديرنا واحترامنا امثاله من الأبطال الأجانب الذين رفعوا بنادقهم في وجه الاستعمار، وألقوا بأنفسهم في لُجة الأخطار، سواء حرروا بلدانهم او قضوا دون ذلك، شأن جيفارا ولومومبا وكاسترو وماو وهوشي منه ومانديلا وشافيز.. الخ

نعرف جيداً ان حزب الله صرح مؤسسي مكين، وتنظيم اسبرطي غني بالكفاءات والخبرات والاقتدار، وفيلق عقائدي استطاع ترجمة مظلوميته المذهبية الى إستراتيجية ثورية، وإنتاج قيادات نوعية تسبق عموم المقاتلين في مضامير الجهاد والاستشهاد، وتحرص على التناسل القيادي المتواصل والمتدرج، منعاً لأي خلل او فراغ في التراتبية القيادية.. غير ان غياب قامة وعمامة الشهيد نصر الله صدعٌ كبيرٌ يصعب سده، وخسران فادح يتعذر تعويضه، ليس على صعيد حزبه فحسب، بل على المستوى العربي بأسره.. ذلك لأنه شخصية عبقرية جامعة ومتعددة الأبعاد والأعماق والآفاق.

لقد كان “أبو هادي” مشعلاً منيراً يهدي الى سواء السبيل، وقطباً مُقاومِاً يحالفه الفوز والانتصارات، ولاعباً سياسياً حاذقاً ومتعدد المهارات، ولساناً فصيحاً ساحر المعاني وباهر العبارات، ورافعة استنهاض وتحشيد وتعبئة روحية ومعنوية، وبوصلة إتجاه تؤشر بدقة الى أنصار الحق وإتباع الباطل، وتُمايِز ببراعة بين مواقع الشرفاء ومواضع الخونة والعملاء.. وليس من شك ان أحرار العرب “فقط” سيشعرون بالوحشة والغربة في غيابه.. اما الشامتون من حلف الشيطان والأمريكان، فليس أمامهم الا ان يحتقروا أنفسهم المُفعمة بالحقد والجبن والشذوذ السياسي.. وصدق الأمام علي يوم قال: “حين يبكي الشجاع يضحك الجبان” !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى