ناصر .. شهيد المسئولية

بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن

رحل جمال عبد الناصر عن عالمنا مباشرة بعد انتهاء جلسات مؤتمر القمة الطارىء الذي دعا هو إلى انعقاده لبحث سبل وقف الاقتتال بين الأخوة في الأردن. و كان عبد الناصر هو الذي سَنَّ سُنَّة مؤتمرات القمة منذ دعا لعقد المؤتمر ألأول في القاهرة سنة ١٩٦٣. عُقد ذلك المؤتمر الطارىء و الأخير في أيام كَدِرَة عصيبة و خيم عليه جو متأزم و ساد جلساته التوتر و العصبية. بذل عبدالناصر جهداً خارقاً للتقريب بين وجهات النظر و اقتضى ذلك أن يعيش آخر أيامه و لياليه في مقر المؤتمر بعيداً عن أسرته و هو يجتمع مع هذا و ذاك من الملوك و الرؤساء حتى توصل إلى الإتفاق المنشود. ذكر المراقبون فيما بعد أن عبد الناصر أظهر في ذلك المؤتمر أعلى المستويات من الصبر و الحنكة السياسية و القدرات الدبلوماسية التي أغفلتها التقارير في وقتها بسبب وفاته المفاجئة. داهم المرض الزعيم العربي في مطار القاهرة و هو يؤدي واجبه الرسمي في توديع أمير الكويت و مع ذلك أصر على إتمام المراسيم رغم ما كان يعتصره من ألم. و ما أن صعد الأمير إلى طائرته حتى طلب الرئيس أن تأتيه السيارة إلى حيث كان يقف و استقلها مسرعاً إلى بيته حيث وافاه الأجل.

كانت وفاته المبكرة مفاجئة للعالم و صاعقة للأمة العربية و غير مفهومة للكثيرين، باعتبار أنه كان زعيماً عالمياً و رئيساً لأكبر دولة عربية و أكثرها تقدماً في ذلك الوقت و كان يُفترض بأنه محاط بعناية طبية فائقة. لكن لا يُغني حَذَرٌ من قَدَر ولا راد لقضاء الله. توفي الزعيم ”بالنوبة القلبية“ و هو مرض ملازم لشدة ضغوط العمل و هموم الحياة.

رحيل الزعيم في ذلك السن و في ذلك الوقت و بسبب ذلك المرض و في تلك الظروف، كل ذلك ترابط بعضه ببعض ليشكل رسالة قدرية فهمتها الشعوب العربية في حينها و أدركت مغزاها و استنبطت بلاغة ما فيها من كلام غير مكتوب. فبغض النظر عن ما كُتِبَ في شهادة الوفاة فقد كان واضحاً للأمة العربية أن زعيمها توفي و هو على رأس عمله و أثناء تأديته لواجبه و بسبب كثرة مسئولياته و تحمله لهموم وطنه و أمته. كانت الرسالة واضحة لا تحريف فيها و كأنها كُتِبَت بالبنط العريض تعلن أن عبد الناصر مات شهيد المسئولية و الواجب. عندما أُعلن خبر وفاة الرئيس أيقن كل مواطن في مصر و العالم العربي أن الزعيم مات من أجله شخصياً و من أجل وطنه و أمته، ذلك اليقين كان هو مصدر تلك الطاقة الهائلة التي كانت وراء تلك القوة التي دفعت الملايين للخروج في وداع زعيمها فيما أصبح أكبر جنازة في التاريخ.

أضفت وفاة الزعيم جواً من الحزن و الحرقة و ساد الأسى و الشجون و رغم ذلك بدأت تبزغ من ثنايا الكآبة و الكدر شهادةٌ أخرى للزعيم، لا شهادة بالوفاة، بل شهادة بحياة حافلة بالانجازات الضخمة التي يعجز عن تحقيقها ذوي العزم من الرجال في مئات السنين. كانت شهادة بالاستقامة و صفاء السريرة و نقاء المعدن و طهارة الذمه و التفاني في أداء الواجب.

في الأشهر الأخيرة من حياة الرئيس تزايد ما أُنيط به من مسئوليات و ما أَخذ على عاتقه من واجبات. فعندما هلَّ عام ١٩٧٠ كانت حرب الاستنزاف في ذروتها و كانت الجبهة مشتعلة على طول خط المواجهة و كان الجيش المصري يثبت يوماً بعد يوم قدراته القتالية العالية و كانت القوات الخاصة تقوم بعمليات نوعية شملت اختراق صفوف العدو و الوصول إلى العمق و تدمير قواعده البرية و البحرية. لم يكن في طاقة إسرائيل الانتقام عن طريق مقابلة الجند بالجند و السلاح بالسلاح فلجأت إلى ضرب المدنيين في العمق المصري مما شكل تصعيداً خطيراً في الموقف. في فبراير ١٩٧٠ اقترفت اسرائيل جريمة بشعة عندما قام طيرانها بقصف مصنع أبو زعبل للأسمدة و تسبب في قتل و جرح ١٢٠ من العمال المدنيين، ثم بعد ذلك بأسابيع تمادت في الإجرام و عاد طيرانها ليقترف مذبحة تقشعر لها الأبدان في مدرسة بحر البقر راح ضحيتها العشرات من الأطفال الأبرياء. كان لتلك الجرائم البشعة تأثير على معنويات الشعب المصري و كان لها تأثير أكبر على نفسية جمال عبد الناصر، خاصة و أن الغرب كله، بحكوماته و شعوبه، كان يدعم إسرائيل.

كان الطيران الإسرائيلي لا يزال يملك اليد الطولى في الجو، و كان على الرئيس أن يفعل شيئاً. قام عبد الناصر بزيارة سرية إلى موسكو و اجتمع مع قادة الإتحاد السوفياتي و طالبهم بإصرار شديد بتزويد مصر بأحدث منظومة للدفاع الجوي. رُفِضَ طلب مصر بدايةً و لكن كان عبد الناصر عنيداً في إصراره حتى كان له ما أراد. و هكذا حصلت مصر على منظومة دفاع جوي (سام) متقدمة لم تحصل عليها أي دولة أخرى خارج حلف وارسو. في الأسبوع الأول من شهر يوليو من ذلك العام قامت الطائرات الإسرائيلية مرة أخرى بالإغارة على مصر لكن هذه المرة وقعت فريسة لصواريخ سام. يقال أن إسرائيل فقدت سبعة طائرات فانتوم و يقال أنها فقدت تسعة أو أكثر وأُلقي القبض على بعض الطيارين.

و هكذا انكسرت شوكة إسرائيل و أصبح ممكناً للرئيس أن يرتاح و ينال قسطاً من النوم. كانت منظومة الدفاع الجوي أهم سلاح حصلت عليه مصر و أهم تطور في معادلة التوازن العسكري و الركيزة الإستراتيجية الأساسية التي بُنيت عليها حرب أكتوبر و التي من غيرها لما تمكن الجيش المصري من عبور القناة. و كما نعرف الآن فإن إسرائيل لم تستعد سيطرتها على الجبهة سنة ١٩٧٣ إلا بعد أن تمكن شارون من التسلل بدباباته و تدمير منظومة الدفاع الجوي. ليس سراً الآن أنه لم يكن ممكناً لمصر الحصول على ذلك النوع المتقدم من صواريخ سام لو لم تكن مصر تحت قيادة عبد الناصر.

عُرِفَ عن عبد الناصر بحرصه على العمل و إهتمامه بأداء دوائر الحكومة و متابعة مشروعاتها و إشرافه على التفاصيل السياسية. و تلك خِصلة لوحظت فيه منذ وصوله إلى السلطة و لازمته طيلة حياته و كانت تعني أنه كان يعمل نحو بضعة عشر ساعة يومياً. لم يكن يرتاح ضميره و لا يغمض له جفن إلا بعد أن يقتنع أنه أتم عمله على أكمل وجه. و للمفارقة فقط نذكر أن خَلَفه السادات كان لا يعمل سوى بضعة ساعات في الأسبوع و لا يهتم بزيارة الجبهة و لا الأقاليم و لا حتى قراءة التقارير. لم يكن غريباً على رجل بصفات عبد الناصر أن يتوفى شهيداً لتحمل المسئولية و التفاني في أداء الواجب و تلك مكرمة لا يحظى بها إلا القليلون.

من الطبيعي أن يقوم الإنسان بواجبه عندما يتعلق الأمر برزقه شخصياً أو بأسرته أو تجارته الخاصة، لكن الأمر يختلف عندما يكون موظفاً يأتيه رزقه بغض النظر عن أدائه، و يختلف أكثر إذا كان في قمة السلم الوظيفي. عبر التاريخ و الناس تغبط أهل الإمرة و المٌلْك لما يَتْرَفون به من نعيم و ما ينغمسون به من ملذات الدنيا و ما يتمتعون به من سلطة مطلقة و حصانة منيعة تحميهم من المؤاخذة و المحاسبة و تغطي على ما يقعوا فيه من إفراط و تجاوزات. مع مرور الزمان لم يتغير إلا الأساليب و لا يزال الوصول إلى القمة و الجلوس على كرسي الحكم بُغْيَة يتطلع إليها الناس و مطلباً يطمع به رؤساء الأحزاب. مسئولية القيادة كبيرة و أعباؤها ثقيلة لكن الذين يسعون إليها و يقبضون على مقاليدها لا يفعلون ذلك شغفاً بأعبائها و لا حباً بهمومها و لا رغبة بما يترتب عليها من عمل مضني، بل طمعاً بما يقترن بها من سطوة و نفوذ.

لم يكن عبد الناصر من محترفي السياسة الحزبية بل كان وطنياً خالصاً، و شتان بين هذا و ذاك. خطط للثورة بهدوء و نَفَسٍ طويل و عندما حان الوقت المناسب نَفَّذها و استكملها من أجل وطنه لا طمعاً بمال و لا سلطان و بعد نجاحها قام طواعية بتسليم القيادة لغيرة ممن توسم فيهم الخير و الوطنية. وصف روبرت سان جون ذلك الموقف النبيل في كتابه [الرئيس] ”لم يعرف التاريخ رجلاً بذل ما بذله عبد الناصر من جهد لتغيير الحكم ثم بعد نجاحه يبذل مزيداً من الجهد للبقاء بعيداً عن الأضواء”. كان عبد الناصر صادقاً في رغبته بتعيين نجيب قائداً للثورة و علي ماهر رئيساً للحكومة، و كان كلاهما غرباء عن الثورة، طالما أنهما يسيران على مبادئها التي قام من أجلها.

لم يطمع قائد الثورة بمناصب الحكم و لم يسعى إليها و لم يُحَضِّرُ نفسه لتوليها لكن مسئوليتها هبطت عليه من السماء و هو لا يدري. وصف ذلك الموقف لمندوب من الإدارة الأمريكية زار مصر بعد صفقة الأسلحة التشيكية، قال الزعيم بالحرف ”قلت له أنا مش رئيس وزارة محترف .. أنا رئيس وزارة جاي بثورة .. و عمري في حياتي ما فكرت أبقى رئيس وزارة .. يعني ده عملية جت بهذا الشكل…“. و مع ذلك كان أقدر الناس على تحمل المسئولية عندما فرضتها الأقدار عليه. بمجرد رئاسته للوزارة بدأت مصر تخطو خطوات جبارة للأمام و أصبحت دولة يُحسب لها حساب. فمن مفاوضات الجلاء، إلى تمثيل مصر في مؤتمر باندونج و جَعْلِها دولة مؤسِّسة لمجموعة عدم الانحياز، إلى صفقة الأسلحة التشيكية ثم ثورة التصنيع و بناء السد العالي.

لم يتخلى عبد الناصر عن تحمل المسئولية حتى عندما كانت تنوء بحملها الجبال كما حصل في تلك الأيام العصيبة الحالكة من يونيو ١٩٦٧. كان الزعيم مهموماً لما أصاب الجيش من هزيمة و إخفاق و ما أصاب الشعب من خيبة و إحباط. تضافرت عليه الخطوب و الهموم من كل حدب و لو كان زعيماً غيره لتوارى عن الأنظار و ترك للإذاعة مسئولية إعلان الاستقالة. لكن عبدالناصر لم يكن من النوع الذي يهرب من المسئولية، و نسي كل ما تميزت به شخصيته من عِزَّة و أنفة و كرامة و أصر أن يفاتح الشعب و يواجهه شخصياً رغم جراحه الغائرة، فلا أنَفَةَ للحرِّ و لا عِزَّة له و لا كرامة إلا بعزة شعبه و وطنه.

تمسك به الشعب و رفض أستقالته و عادت المسئولية لتستقر على كتفيه لإعادة بناء القوات المسلحة و تحَمَّلها لأنه كما قال لا يستطيع أن يرفض إرادة الشعب. تلك السنين الثلاث التي عاشها بعد ١٩٦٧ أظهرت قدرات الزعيم في عبد الناصر كما لم تظهر من قبل. فإعادة بناء القوات المسلحة كادت تكون مسئولية مستحيلة في ظل القصف الاسرائيلي المستمر و ما يسببه من خسائر بين العسكريين و المدنيين. كان الرئيس يتابع أخبار الجبهة يوماً بيوم و ساعة بساعة و كان يتفقدها بانتظام و يشحذ همم رجالها. و بعد ثلاثة سنوات تمت المعجزة و تحقق المستحيل و عاد الجيش المصري أقوى مما كان و اكتمل حائط صواريخ الدفاع الجوي و عادت مصر آمن و أحصن و أقوى مما كانت. و مع نهاية صيف .١٩٧ وضعت الخطة و اكتملت التجهيزات و لم يبقى سوى وضع النقاط على الحروف و انتظار ساعة الصفر. مع دخول سبتمبر ١٩٧٠ لم يكن هناك من كان في أمَسِّ الحاجة لإجازة مثل جمال عبد الناصر الذي ذهب ينشدها في مرسى مطروح. و ما كادت الإجازة تبدأ حتى انفجر الوضع في الأردن و لم يعد ممكناً للرئيس الراحة و لا الاستجمام بينما الدم العربي ينزف بغزارة. إنها المسئولية مرةً أخرى، و قد عاهد الله عليها، تُطِّلُ من جديد و تُلِحُّ عليه أن يقطع إجازته و يعود إلى القاهرة لحضور مؤتمر القمة العربي الطارىء الذي دعا هو إلى انعقاده.

نجح مؤتمر القمة و توقف نزيف الدم العربي و أسلم عبد الناصر روحه لخالقها و رحل شهيداً للمسئولية. يزعم بعض الفلاسفة من اللبراليين و الناقدين لسياسة عبد الناصر أن إهتمامه بالعمل كان هاجساً مبالغاً فيه و مجهوداً لا داعي له و أن رؤساء هذ الزمان يفوضون غيرهم للقيام بمهام الدولة. لكننا نقول لهم ان عبد الناصر لم يكن من رؤساء هذا الزمان الأشعث الأغبر و أن إحساسه بالمسئولية كان أقرب لإحساس سيدنا عمر عندما قال ”و الله لو عَثَرَتْ عنزةٌ في العراق لخِفْتُ أن يحاسبني الله عليها“.

لكن ليس كل الناس عمر و ليس كل الناس جمال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى