عبد الناصر.. رفيق الفقراء الذين كانت أحلامهم تنبض في قلبه، وهمومهم تسكن في وجدانه
بقلم : فهــد الريمــاوي
تحضر اللوعة وأخواتها من مفردات الأحزان والحسرات، وتعزف أوتار الفجيعة لحن “الرجوع الأخير”، حين تطل علينا ذكرى رحيل أغلى الرجال، وأشجع الفرسان، القائد الخالد، جمال عبد الناصر الذي اختطفته يد الردى بغتة على حين غرة، وحين خلسة من وراء ظهر الشعب العربي، قبل أربعة وخمسين عاماً، سرعان ما تحولت الى أربعة وخمسين جحيماً اكتوت بنارها الأمة العربية بأكملها، وما زال اللظى للآن ساري المفعول، والى مدى مستقبلي مبني للمجهول.
ففي مساء يوم ١٩٧٠/٩/٢٨ حُمّ القضاء، وصعدت روح هذا الزعيم العظيم الى بارئها.. نعاه الناعي رسمياً من القاهرة، ولكن الشعوب العربية فيما بين المحيط والخليج رفضت تصديق ما سمعت، ودخلت من هول النبأ في حالة شلل دماغي صعبة ودوامة من الإنكار والإستنكار، حتى اذا ما انمحى الشك باليقين، وثبتت المصيبة بالوجه القطعي، انطلق لسان الحال العربي يردد أبيات الشاعر المتنبي..
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَـرٌ فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَـــــــــذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
وهكذا شَرِقت الأمة العربية بالدمع حتى كاد يشرق بها، فقد اشتد حزنها وانفطر قلبها واتشحت بالسواد روحها، وخرجت جماهيرها الشعبية تملأ الساحات والميادين على غير هدى، فتهتف “بحياة” عبد الناصر تارة، وتتفجع على “موته” تارة أخرى.. وذلك في مشهد درامي وانفعالي مُلتهب ومُضطرب لم يشهد له القرن العشرين مثيلاً.. شأنه في ذلك شأن الجنازة الأسطورية التي شيعت جثمانه الطاهر فيما بعد.
آه ما أبلغ الحزن الوطني الجمعي.. آه ما أصدق أحزان الرجال على الرجال، والشعوب على الأبطال، والأحرار على الأحرار، والثوار على الثوار.. فهي تسابيح صلاةٍ في محراب الإجلال والوفاء، وهي تباريح شوقٍ مُخضّلة بدموع الكبرياء، وهي آهات فقدٍ وخسرانٍ تطلقها القلوب المجروحة لتبلغ عنان السماء، وهي لواعج عمومية تتفوق وتتقدم بمراحل على الأحزان الفردية والشخصية مهما بلغت.
في الدارج من الأقوال، ان كل الأشياء تبدأ صغيرة ثم تكبر الا الحزن، فهو يبدأ كبيراً ثم يصغر.. ولكن الأمر مختلف في حالة جمال عبد الناصر، لان الحزن عليه بدأ كبيراً – في وجدان أحرار العرب – وما زال يكبر كل يوم، تبعاً لما لحق العالم العربي من عار ودمار بعد رحيله، وما آل اليه مستوى الحكام العرب من هبوط وانحطاط حالا دون ملء أقلّ حيزٍ من الفراغ القيادي الذي خلّفه من بعده.
كثيرة هي الخيبات والإخفاقات والأزمات العربية الراهنة، غير أن الأزمة القيادية التي تُسربل الأمة العربية هي الأكبر والأخطر، فقد أقفر واقعنا الحاضر من القيادات السياسية الوازنة والمؤهلة لأن تشكّل “مركز قرار” يقوى على تحمّل تبعات المسؤولية القومية.. بل ليس بين حكامنا مَن يتطلع – مجرد تطلع – للزعامة والريادة والارتقاء الى مستوى “الضرورات الاستراتيجية” في احياء التضامن العربي، وتفعيل التكامل الاقتصادي، وصون الاستقلال الوطني، ودعم
النضال الفلسطيني، واستنهاض الجماهير الشعبية وتلبية احتياجاتها، واستئناف الممكن من حلقات المشروع القومي العربي، الذي جرى الافتئات عليه في السنين الأخيرة.
صدقوني أن هذه الأزمة القيادية هي “أم الأزمات” وجذرها التربيعي، وان هناك حاجة ماسّة تتطلب استجابة عاجلة لحل هذه العقدة، أملاً في الخروج من حالة السقوط والتشظي والهوان التي تجتاح الديار العربية، وفي الحيلولة دون تفاقم مركبات اليأس والإحباط وانسداد الأفق وفقدان الثقة بالنفس وبالغد، حد توهم الشعوب العربية أنه “مفيش فايدة”، وانه لو أصبح التفاؤل العربي بشراً لما تردد في قتل نفسه، ولو صار الأمل قمراً لما توانى عن حجب ضيائه، ولو أمسى التيمن او الاستبشار غيماً لما سمح بهطول مطره وانهمار غيثه.
انظروا الفارق بين الوضع المصري والعربي الغابر في زمن عبد الناصر، وبين الحال الحاضر والقائم في عهد السيسي.. قارنوا بين مصر الناصرية ذات الإستراتيجية القومية، والمشروع الثوري النهضوي التحرري الكبير الذي شمل الوطن العربي بأسره والقارة الإفريقية من بعده، وبين مصر “الخلفاء غير الراشدين” من السادات ومبارك ومرسي حتى السيسي، ذات الأجندات القُطرية الضيقة، والسياسات الصفرية المتهافتة، والحسابات الخاسرة والخائبة، بحكم تذيّلها المزمن لأمريكا، واستخذائها المُخجل أمام العدو الصهيوني.
مصر الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ هي ذاتها، سواء في عهد عبد الناصر، او الملك فاروق، او السيسي، فهي ما زالت على حالها واحدة موحدة، راسخة في المكان، وطاعنة في الزمان، ومكتظة بملايين المواطنين.. غير ان المُختلِف هو مكانة مصر وليس مكانها وسكانها، وهو بالضبط هوية وسوية وكيمياء القيادة التي تتولى زمام أمرها، فشتان بين حاكم مثل كافور الاخشيدي وبطل مثل صلاح الدين الأيوبي، او بين قائد كاريزمي مُلهم مثل “أبي خالد”، وبين خلفائه من الحكام الفاشلين الذين لم تؤهلهم مواهبهم القاحلة، ومنطلقاتهم الخاطئة، وممارساتهم الفاسدة، لتلبية شروط ومُتطلبات الحكم الرشيد لدولة مركزية رائدة من وزن مصر العظيمة والعريقة.
وبعد.. نختم هذه المرثاة البُكائية بصنو ما بدأنا من التأسي على غياب هذا “القوي الأمين”، الذي ما زال أحرار العرب يستذكرونه “في الليلة الظلماء”، ويترحمون على روحه الطاهرة وأيامه المجيدة، ويثمّنون عالياً زهده وتقشفه وحدبه على توطيد “مجتمع الكفاية والعدل”، ومواظبته على رعاية وإنصاف ملايين الغلابى والكادحين وأبناء الطبقة العاملة، الذين كانت آمالهم تنبت في صدره، وأصواتهم تصدر من حنجرته، وأشواقهم تنبض في قلبه، وهمومهم تعشش في ذهنه، ودموعهم تسحّ من عينيه، ومكتسباتهم تطلع من جهده، وكرامتهم مكفولة ومحفوظة على امتداد عهده.. الفاتحة لروحه.