جمال عبد الناصر.. غائب عن الواقع ولكنه حاضر في الذهن والذاكرة
بقلم: عبد الهادي الراجح
يقول الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله في إحدى حواراته الطويلة، تحت عنوان “تجربة حياة” على قناة الجزيرة القطرية: ذات يوم التقيت بالقائد الفلسطيني الشهيد صلاح خلف أبو إياد رحمه الله ، ودار بيننا حديث طويل عن قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية ، وفجأة توقف أبو إياد ليقول لي ( كل مصيبة مع مرور الزمن تنسى وتتلاشى ؛ إلا مصيبتنا في فقدان جمال عبد الناصر، فهي كل يوم تزادا مأساة ويزداد حضورا) .
لقد رأيت في حديث الشهيد أبو إياد مدخلا الى واقع أمتنا العربية اليوم ، وذلك بعد أربعة وخمسين عاما على الرحيل المفجع للزعيم جمال عبد الناصر، وهو في قمة عطائه السياسي والفكري والإنساني، عن عمر ناهز اثنين وخمسين عاما وثلاثة أشهر وعشرة أيام ، عمل خلالها ما عجزت عنه الأساطير ، بدءا من طرد الاستعمار البريطاني عن أرض مصر الطاهرة ، بعد أكثر من اثنين وسبعين عاما من الاحتلال ونهب الخيرات والثروات الوطنية، والفصل بين الشقيقتين مصر والسودان بموجب اتفاقية السودان التي وقعها الخائن بطرس غالي الجد عام 1888م ، وكان رئيسا لوزراء مصر معينا من الاحتلال البريطاني ، حيث كانت مصر تدار من السفارة البريطانية ،وكانت ثرواتها الوطنية تذهب للاستعمار ومن يدور في فلكه .
فيما بعد ذلك أقدم الزعيم جمال عبد الناصر على تمصير مصر ، وجعل جميع ثرواتها في أيدي أبنائها ، وعمل كقائد لديه بعد نظر وإستراتيجية شاملة على مطاردة الاستعمار في محيطه العربي، ودعم كل حركات التحرر في الوطن العربي في القارات الثلاثة آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وأقام أفضل العلاقات الدولية مع قادة التحرر الوطني في القارات الثلاثة في ذلك الوقت ، وأصبح من أهم وأبرز زعماء العالم المتحرر .
مصر في عهده الذهبي كانت القلعة التي يلجأ إليها كل أحرار العالم ؛ طلبا للأمان والمساعدة بكفاحها من أجل الاستقلال ؛ الأمر الذي دعا نائب الرئيس الأمريكي بذلك الوقت والرئيس فيما بعد، ريتشارد نيكسون ليقول بكل حقد وكراهية ، أن في العالم اليوم ثلاثة قوى عظمى أمريكا والاتحاد السوفيتي وجمال عبد الناصر ، وهكذا فقد ارتفع اسم مصر وأمتها العربية كما لم يحدث من قبل .
لذلك تكاثر حبك المؤامرات والدسائس، وشن الحرب الباردة تارة والساخنة، والحصار الاقتصادي ضد الثورة المصرية وقيادتها حد، محاولات الاغتيال الشخصي لجمال عبد الناصر، ولكن كل ذلك فشل، وهو الامر الذي تدفع الاستعمار وذيله الكيان الصهيوني وأعوانه من إعراب اللسان لتدبير عدوان حزيران / يونيو عام 1967م ، بقصد تأليب الشعب المصري على نظام عبد الناصر، وتكفير الشعوب العربية به وبمشروعه القومي النهضوي.
ولكن خاب فأل الاستعمار واعوانه، حين اندلعت انتفاضة التاسع والعاشر من حزيران ، وخروج الملايين ليس في مصر وحدها ولكن في كل الوطن العربي والعالم النامي تؤيد عبد الناصر وتناشده العدول عن استقالته ، فقد كان الشعب واعيا ومدركا لأبعاد المؤامرة ومتيقظا لها ، ولم تنطل عليه الأبواق المأجورة من النفط العربي وغيره ، وخلال ثلاثة أعوام بعد النكسة وحتى فاجعة الرحيل ، عمل جمال عبد الناصر فوق طاقة البشر لإعادة بناء القوات المسلحة من الصفر ، وأشعل حرب الاستنزاف وتطعيم الجيش بالنار والمواجهة مع العدو استعداد ليوم العبور العظيم الذي لم يمكّنه القدر من مشاهدة ذلك اليوم العظيم الذي لم ينته كما أراد له جمال عبد الناصر، وهو العبور لأجل التحرير وليس لأجل التمرير، كما فعل للأسف سلفه أنور الساداتي .
تمر علينا اليوم الذكرى الرابعة والخمسون لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر الذي لم تتوحد الأمة العربية بعد رحيله على كلمة واحدة ؛ إلا يوم العبور العظيم وهو آخر أمجاد جمال عبد الناصر ، ولكن للأسف جعله خليفته الطريق المظلم الذي قاد مصر الى كامب ديفيد ومنها إلى عصر السقوط العربي المدوي اليوم، بعدما سار على دربه عرب الاعتلال ومن كانت علاقتهم مع الكيان الصهيوني من خلف الكواليس، لتصل الأمة لأسوأ مراحلها التاريخية بعد خروج مصر من الصف العربي التي أصبحت غير ما يحب كل عربي وإنسان حر في هذا العالم .
و هكذا رأينا مصر تنحدر الى مستوى مشيخات الخليج ؛ ورغم ان مصر دولة مركزية وليس وظيفية الا انها عندما تخلت عن دورها حلت مكانها دول أخرى ليس لها وزن أو ثقل سياسي أو جغرافي غير موارد الطبيعة التي حباها الله بها ، وهذا لا يعطيها دورا مؤثرا وقياديا.
بعد رحيل عبد الناصر جرى احتلال العراق ولحقت به ليبيا ، وضرب الإرهاب القادم من كل مزابل العالم سوريا التي كافحت حتى تعافت وان كان الثمن غاليا جدا ، عسكريا ، اقتصاديا ، وسياسيا ..وهنا نتساءل لو أمهل القدر جمال عبد الناصر عشرة أعوام أخرى أو أقل هل سيكون حال أمتنا كما هو اليوم ؟؟
لقد سبق لجمال عبد الناصران حرك الجيش المصري العظيم في عام 1956م ، لنجدة سوريا عندما كادت تتعرض لعدوان تركي طامع بالتوسع ، وحينها ابتلع الأتراك أطماعهم وكان ذلك المقدمة الأولى التي جعلت القادة السوريين يذهبون إلى مصر لطلب الوحدة الاندماجية فورا ، التي اعترض عليها جمال عبد الناصر ، ولكن الأخوة السوريين أصروا على تلك الوحدة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في دول الاستعمار وأعوانه ، وكانت المؤامرات والدسائس والرشاوى من كازيات الغرب النفطية الناطقة باللغة العربية ، حتى تم الانفصال لتلك الوحدة بعد ثلاثة أعوام ونصف من قيامها ، وشاءت الأقدار أن يكون نفس التاريخ الذي رحل به جمال عبد الناصر لجوار ربه بعد تسعة أعوام .
تمر علينا اليوم الذكرى الرابعة والخمسون لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر ونقف أمامها متأملين كيف كنا كأمة عربية مفعمة بالحرية والاستقلال وطلب الاشتراكية ، ذات البعد الإنساني ، وكيف أصبحنا اليوم على قارعة الطريق من مصر لأصغر دولة عربية .
لقد رحل جمال عبد الناصر القائد والزعيم والإنسان ، ولكن ما هو مؤسف وملفت للانتباه هذا العداء السافر من الأنظمة التي تعاقبت على مصر بعد رحيله والتحريض عليه من أبواقها لأجل تشويه أعظم التجارب الإنسانية للأمة العربية،.باستثناء التيار الإسلام السياسي.
ابرز المتحاملين على جمال عبد الناصر هم المطبعون مع الصهاينة، وبعضهم مثل الهالك أنيس منصور كانت تربطه علاقات وثيقة بكل قادة العدو ، ولم ينكرها وكان يفاخر بها ، ويزعم أنه رسول يهوذا الساداتي للصهاينة ، ولا غرابة من هجومه المتواصل وأمثاله على جمال عبد الناصر، حتى لا يشكّل قدوة للاجيال المصرية والعربية الطالعة .. ألم يقل السيناتور الأمريكي جون ماكين: “لا نريد أن يظهر في مصر ناصر آخر” ، فيما قال موشيه ديان في 28/9/1970 م ، عندما علم بخبر رحيل جمال عبد الناصر (( ان هذا اليوم عيد قومي لكل يهودي في العالم )).
نعم لقد رحل جمال عبد الناصر الزعيم ، القائد والإنسان ، لكن القيم والمبادئ ستبقى خالدة لن تموت ، وهي لم يخترعها جمال عبد الناصر ، بل كانت موجودة قبله وسوف تستمر بعده لأنها إرادة الحياة لكل أمة تحترم ذاتها .
رحم الله الشاعر العربي السوري الكبير نزار قباني حين قال في إحدى قصائده عن الزعيم الخالد:
( تضيق قبور الميتين بمن بها وفى كل يوم أنت في القبر تكبرُ).
وسلام على روحك الطاهرة يا أبا خالد يوم ولدت ويوم كافحت من أجل وطنك وأمتك ويوم استشهدت وتلك مشيئة الله ويوم تبعث حيا .