السلطات الأردنية تتخوف من أن تشكل “عملية المعبر” نموذجاً مُحفّزاً لعمليات فدائية أخرى

لاقت العملية التي نفذها العسكري الأردني المتقاعد ماهر الجازي في معبر الكرامة احتفاء وتفاعلا كبيرا داخل الأردن وخارجها، فيما يشبه الإجماع على شرعية هذا النوع من العمليات وجدواها، في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة.

ويخلق هذا الاحتفاء أزمة للموقف الرسمي في الأردن الذي يحرص -بفعل سياسته في الحفاظ على السلام مع إسرائيل– على ألا تتجاوز ردود الفعل الشعبية حدود التعاطف مع المعاناة الإنسانية في غزة، ودون المساس بالالتزامات الأمنية والسياسية والاقتصادية المترتبة على معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، وبمقتضيات التحالف مع الولايات المتحدة.

وهو ما يفسر حالة الهدوء التي تشهدها الحدود الأردنية الإسرائيلية على مدار سنوات بعد توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994، ولم يعكر صفوها إلا عملية الجندي أحمد الدقامسة 1997.

مخاوف حكومية أردنية
وتبرز أهم المخاوف لدى السلطات الأردنية في أن تشكل هذه العملية نموذجا محفزا لتوسيع هذه المحاولات، وخصوصا أن هذه العملية جمعت عناصر تُضعف فاعلية السرديات المناوئة للمقاومة في الأردن، أولها أن المنفذ ينتمي إلى عشيرة أردنية كبيرة، وقد خدم في الجيش لمدة 20 عاما.

كما لا يعرف عن المنفذ انتسابه إلى أي جهة سياسية، مما يجعل التشكيك في انتمائه الوطني أمرا بالغ الصعوبة، ضمن السياق الثقافي السائد أردنيا، ومع تمكنه من إيقاع 3 قتلى من رجال الأمن الإسرائيليين، فإن التشكيك في جدوى أي أفعال منفردة مشابهة أمر صعب.

احتضان شعبي
في صبيحة يوم العملية طغى التفاعل الشعبي الواسع معها على كافة مظاهر الاهتمام بالانتخابات النيابية، وكادت الوسوم العشرة الأكثر تداولا على منصة “إكس” مثلا تنحصر في الحديث عن العملية، وكان انتشار إشاعة بشأن هوية المنفذ كفيلا بجعل اسم صاحبها الأكثر تداولا لساعات، إلى حين اتضاح هويته الحقيقية، ولم يكن الحال مختلفا في منصة فيسبوك.

وعلى صعيد المواقف الشعبية الأخرى، برزت مظاهر الفرح المتمثلة في توزيع الحلوى في مناطق متعددة في المملكة، وإطلاق الألعاب النارية في مسيرة تأييد شهدها وسط العاصمة عمان مساء يوم العملية، فيما قطعت أعداد كبيرة من الأردنيين مئات الكيلومترات للمشاركة في بيت العزاء الذي أقامته عائلة الشهيد في بلدة الحسينية بجنوب الأردن.

وفي السياق ذاته، أصدرت عشيرة الحويطات -التي يعود نسب الشهيد إليها- بيانا يرى في فعل ابنها “ردة فعل طبيعية لإنسان غيور على دينه ووطنه وعروبته تجاه الجرائم المتواصلة التي يقوم بها المحتل الغاصب ضد أبناء الشعب الفلسطيني وخاصة ما يجري في غزة من قتل وتشريد وإبادة”، مؤكدة أن دم ابنها الشهيد “ليس أغلى من دماء أبناء شعبنا الفلسطيني”، وأنه “لن يكون آخر الشهداء”.

قوة النموذج الناجح
على الرغم من الغضب الشعبي العارم في الأردن ضد الجرائم الإسرائيلية، والذي تمثل في المظاهرات الواسعة، والإضراب الشامل، والمقاطعة الاقتصادية للشركات الداعمة لدولة الاحتلال، والدعوات الشعبية إلى إلغاء معاهدة وادي عربة، فإن الشعور الشعبي بالعجز عن ممارسة ضغوط توقف العدوان على غزة كان سائدا.

واعتبر الخبير العسكري العقيد المتقاعد الدكتور محمد المقابلة -في حديث للجزيرة نت- أن هذا الهجوم “يعكس حقيقة النبض الشعبي الأردني، وأن الشارع يغلي إزاء المجازر بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة”.

في حين لم يبرز نموذج العمليات الفردية ضد الاحتلال لأسباب منها الانتشار العسكري المكثف على طول الحدود، والذي أظهرته مقاطع فيديو وتقارير إعلامية خلال الحرب الجارية، وسياسة التعتيم على أي عمليات تسلل، والتي برزت في الخطاب الرسمي للطرفين الأردني والإسرائيلي، بما يهدف إلى تفادي إثارة الاهتمام الشعبي بأعمال كهذه.

وبين الفينة والأخرى تتسرب أنباء عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية عن عمليات لم تكتمل، كما نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عقب عملية المعبر من أن “المخابرات الأردنية ألقت القبض قبل نحو شهرين على 4 أردنيين من مدينة السلط قاموا بصناعة متفجرات وتجهيز شاحنة لتفجيرها في معبر الكرامة”.

وفي السياق ذاته، ينتشر خطاب إعلامي يسعى إلى ربط أي أعمال لتهريب السلاح إلى الضفة الغربية عبر الأردن بأعمال الفصائل الموالية لإيران في سوريا والعراق، وبعمليات تهريب المخدرات، واتهام من يقوم بتهريب السلاح بأنه يقصد استخدامه ضد الأردن وليس ضد الاحتلال، بالتوازي مع إثارة النعرات والانقسام الشعبي.

وقد ظهر ذلك فيما نسبته وكالة رويترز إلى مصدرين أمنيين أردنيين بتاريخ 15 مايو/أيار الماضي من “أن الأردن أحبط مخططا يشتبه بأن طهران تقف خلفه لتهريب أسلحة إلى المملكة من أجل مساعدة معارضين للحكم الملكي على تنفيذ أعمال تخريبية”.

وقال المصدران “إن الأسلحة أرسلتها فصائل مدعومة من إيران في سوريا إلى خلية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن لها صلات بالجناح العسكري لحركة حماس. وتم ضبط الأسلحة عندما ألقي القبض على أعضاء في الخلية، وهم أردنيون من أصول فلسطينية، في أواخر مارس/آذار”.

وبالمقابل، مما يزيد الضغط على إسرائيل هو تمكّن الشهيد ماهر الجازي في اختراق اليقظة الأمنية على جانبي الحدود وإيقاع فاتورة باهظة بجنود الاحتلال، ومن شأن ذلك زيادة القلق الدولي من تداعيات استمرار جرائم إسرائيل على أمنها واستقرار السلام الذي يعد متطلبا جوهريا لبقائها في المنطقة على المدى البعيد.

أزمة الموقف الرسمي
ولذا، يواجه الموقف الرسمي للحكومة الأردنية أزمة في ظل عجز وسائل الدبلوماسية عن وقف مجازر الاحتلال، مما يتسبب في تآكل شرعية الحفاظ على التعاون الأمني والاقتصادي مع الاحتلال وارتفاع الكلفة السياسية لوجود القوات الأميركية -الداعمة لإسرائيل- على الأراضي الأردنية.

وقد يشكل ارتفاع حصة المعارضة في المجلس النيابي القادم مؤشرا سلبيا بشأن الرضا الشعبي عن السياسات الحكومة، خصوصا فيما يتعلق بالموقف من الحرب على غزة.

ومما يلقي بظلاله على الأمر أيضا، أن السلوك الإسرائيلي في محطات سابقة شهدت قتل مواطنين أردنيين كان مستفزا للأردن؛ إذ احتفى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بحارس أمن للسفارة الإسرائيلية في عمان بعد قتله المواطنين الأردنيين “محمد الجواودة” و”بشار حمارنة” في عام 2017.

واحتاج الأمر قرابة 4 سنوات لكي تعبر الحكومة الإسرائيلية عن “أسفها وندمها” على قتل القاضي زعيتر عام 2014، وعن اغتيال المواطنين الأردنيين، فيما لم تعلن لجنة التحقيق المشتركة بمقتل زعيتر نتائج التحقيق إلى الآن، وبقي اسم الجندي الذي قتله مجهولا.

وفي ضوء هذه المعطيات، كان التعامل الرسمي مع عملية الشهيد الجازي حذرا، إذ اكتفت وزارة الداخلية الأردنية بإصدار بيان مقتضب يؤكد هوية المنفذ التي أعلنتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، وأن النتائج الأولية للتحقيق تشير إلى أن الحادث عمل فردي.

وأكد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية سفيان القضاة “موقف الأردن الثابت في رفض وإدانة العنف واستهداف المدنيين لأي سبب كان، والداعي إلى معالجة كل الأسباب والخطوات التصعيدية التي تولده”.

وبينما يتنصل هذا الموقف من العملية، فإنه يتفادى مهاجمة المنفذ بشكل صريح ويشير إلى مسؤولية الاحتلال عن إثارة التوتر وتوفير البيئة المشجعة لها.

وبالتوازي حرصت وسائل إعلام أردنية على تحميل حكومة نتنياهو المسؤولية عن التصعيد وتجاهل ارتباط المشكلة بأصل وجود الاحتلال وسلوكه العدواني المستمر منذ نشأته إلى عدم المساس بالإستراتيجية الرسمية القائمة على الحفاظ على معاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية، وتجنب الإضرار بالعلاقة مع الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية التي ترى في دولة الاحتلال امتدادا إقليميا لها.

وعلى الرغم من ذلك فإن نجاح عملية الجازي في خرق جدار الصمت، بحسب محللين، قد يشجع العديدين على الأغلب على استلهام نموذجه، ومحاولة الخروج من حالة العجز أمام المجازر غير المسبوقة التي تشهدها غزة ومواجهة مساعي تصفية القضية الفلسطينية المستمرة منذ سنوات طويلة.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى