خيانة القلم.. سلاح أشد وأخطر من الرصاص

بقلم: د. زيد احمد المحيسن

في عالم تعصف به أمواج الاضطراب والتغيير، يبدو أن أقوى الأسلحة قد تكون أقلامًا لا سيوفًا، وصورًا لا صواريخ. في هذه الأزمنة، حينما يتقاطع مصير الشعوب مع مصائر الأقلام، يتجلى لنا مشهد أليم: خيانة القلم. هي خيانة لا تُغتفر، خيانة تُنذِر بدمار أعمق من الجروح التي تخلفها الرصاصات. فالرصاصة الغادرة قد تقتل فردًا، لكنها أحيانًا تأخذ بيدها روح أمة كاملة عندما يختلط حبر القلم بالسمّ، وتصبح الكلمة خنجرًا مسمومًا يُدمي القلوب ويُشوّه العقول.

إن خيانة القلم ليست مجرد فعل من أفعال الغدر، بل هي تعبير عن تواطؤ مدمر يُقدّم خدمةً للأنظمة الشمولية وأدواتها القمعية. فالأنظمة التي تعشق الظلام والجهل تجد في القلم المأجور ضالتها، إذ إنه أداة لتشويه الحقائق، وتمويه الجرائم، وصناعة أساطير زائفة تروي رواياتها المضللة. في خيانة القلم يكون للحقائق وجهان: وجه مُتجمّل يحاكي الحقيقة، وآخر مُشوّه يُخفيها في طيات الأباطيل.

يستسلم بعض الصحفيين والكتّاب والأدباء للمغريات التي تُعرض عليهم من قبل الأنظمة الشمولية، ويصبحون أدوات طيعة في يدها، يروّجون لخطابها ويشوهون الحقائق. هذا التسليم ليس فقط استسلاماً للأموال والامتيازات، بل هو استسلامٌ للضمير وللأخلاق وللكلمة الطيبة التي تُحسن توجيه المجتمع نحو النور والحقيقة.

كم من قلوب أصبحت محصنة ضد نور الحقيقة، وكم من عقول أصبحت أسرى للأكاذيب، كم من أسطورة سُبغت بصبغة من الشرعية المزيفة، وكم من قضايا عُرضت بصورة تثير الشفقة والتساؤل؟ خيانة القلم تمنح للسلطة مطلق الحرية في تشكيل الواقع كما تريد، دون اعتبار للأخلاقيات أو للمسؤوليات الأدبية. في هذه البيئة، يصبح القلم أداة للفتنة والتضليل بدلاً من أن يكون منارة للعلم والحقيقة.

حينما يرتدي القلم ثوب الخيانة، يصبح دوره أخطر من أي سلاح آخر. فالتضليل والتشويه لا يقتصر أثرهما على اللحظة التي يخرج فيها النص من بين أنامل خائن القلم، بل يمتد أثره إلى أجيال قادمة. إن أسوأ ما في الأمر هو أن الخيانة لا تكون واضحة دائماً؛ فهي تتسلل ببطء، وتتدثر بثياب النوايا الطيبة، ويصبح القارئ ضحية في صراع هو في الأساس صراع للسلطة والنفوذ.
بالتالي، تصبح المهمة الأساسية للمثقفين الحقيقيين هي الحفاظ على نزاهة القلم، والعمل على استعادته من أيدي الغادرين. يجب أن يُبذل كل جهد ممكن لتدعيم القيم الأدبية والكتابية الصافية، واستعادة القلم كأداة للحقيقة والنور، لا كأداة للغدر والتضليل. فالقلم الذي يخون ليس مجرد قلم، بل هو خنجر يطعن في خاصرة الإنسانية ويؤسس لعصر من الجهل والظلام.

في النهاية، يجب أن نفهم أن القلم الذي يستعيره الجبناء ليخدم أهدافهم ليس له قيمة، وأن الكلمات التي تُستخدم لخدمة الباطل هي أسوأ من أي سلاح يمكن أن يُوجّه ضدنا. ومن هنا، فإن واجب كل فرد هو أن يكون حارساً أميناً على كلمة الحق، وأن يسعى للحفاظ على القلم كرمز للأمل والتنوير، لا كرمز للخيانة والتدمير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى