أمريكا بين الدعاية وقول الحقيقة

بقلم علي محمد فخرو*

عبر التاريخ كله احتاجت قوى اتخاذ القرارات السياسية أن تقنع الجماهير بصواب وجهة نظرها، طمعاً في أن تسند الجماهير موقفها بالقول أو بالفعل أو حتى التعاطف. من بين أشدّ الأساليب التي استعملتها قوى سلطة اتخاذ القرار لممارسة عملية الإقناع تلك أسلوب الدعاية. ولذلك ظلّت الدعاية ملازمة للسياسة وإن بأشكال مختلفة وجرعات متباينة، من أجل أن تتناغم مع النظام السياسي الذي تخدمه.
وجرياً وراء ما قاله قبل الحرب العالمية الثانية الوزير الألماني المسؤول عن الدعاية النازية، غوبلز الشهير، من أن الناس سيصدقون أية كذبة دعائية إذا ما كرّرت المرة تلو المرة، اعتقدت قوى السلطات السياسية دوماً بأن ممارسة الدعاية هي من أفضل وسائل إقناع الجماهير ومن أكثرها قدرة على البقاء في أذهان الناس لمدد طويلة.

اليوم، في وطننا العربي يمتلئ الفضاء السياسي إلى حد الاختناق بممارسة الأقوال الدعائية بدلاً من قول الحقيقة. ويعيش الناس في دوامةٍ من التّيهان في ما يسمعون ويقرأون. ولعلّ أكثر المواضيع تعرضاً لهذه اللعبة واستعمالاً بصور شيطانية الموضوع الفلسطيني.
ومن أكثر الدول استعمالاً لهذا الأسلوب هي الولايات المتحدة الأميركية. يومياً تصدر التصريحات من نظام حكمها، بشتّى شخصياته ومسمّياته، فلا يجد الإنسان في هذه الأقوال إلا التناقضات التي هي من أهم مكونات أنظمة الدعاية.
يومياً يعيد الناطقون الأميركيون ويكررون أنهم يسعون لإيقاف حملة الإبادة المهولة في غزة، وأنهم ضد قتل المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ غزة، ولكن، وهنا التناقض السافر، لن يتخلو عن دعمهم التام المالي والعسكري والسياسي للكيان الصهيوني، وبالتالي سيستمرون في إرسال الأموال والمعدات العسكرية الهجومية المدمرة، بل سيضيفون إلى القائمة الأشد فتكا من السلاح والأكثر قدرة على تدمير كل ما يعترضها.

هذه حملة دعائية بامتياز: فهي تحتوي على مشاعر إنسانية كاذبة تجاه شعب فلسطين، دون أن تقول كلمة واحدة عن اتخاذ خطوات لإيقاف المذابح ما عدا الجملة الدعائية الكاذبة الأخرى من أن السلطات الأميركية على اتصال مستمر بالقيادة الصهيونية.
وهكذا تبرر أميركا سكوتاً عن أفعال إجرامية صهيونية ودعماً لكل ما يجعلها أكثر فاعلية ودماراً بكلمات دعائية تظهر أميركا وكأنها مهتمة بالجوانب الإنسانية وحقوق المظلومين.
وحتى بالنسبة لممرّ فيلادلفيا (صلاح الدين) فالولايات المتحدة تجعل الناس يعتقدون بأنها متوازنة. بالنسبة لهذا الموضوع تقترح أن يتصدق الكيان الصهيوني بإعطاء ثلاث كيلومترات للجهة الفلسطينية، دون ذكر حتى الجهة تلك، ويبقى المحتل مستولياً على الباقي. هنا أيضاً تظهر الدعاية، وليست الحقيقة، أميركا وكأنها تتعامل مع جهتي الصراع بنفس المقياس، وبالتالي فهي دولة الحقوق والعدل والإنسانية.

ولو تمعّن الإنسان في كل ما تصدره أميركا من تصريحات بشأن دورها في النزاعات في السودان وسوريا والعراق واليمن والمغرب العربي وغيرها فانه سيجد الحيلة نفسها. إنه تصريح لا يقف مع أي حق كان، ولا يقترح حلولاً دائمة، وإنما هو عبارة عن جمل عامة تبقي الأوضاع في مكانها، وتبقي الأزمات في استمرارها، وتدمّر الحياة في الأرض العربية، تماماً كما تريد وتبطن أميركا ومعاونيها من دول الغرب الاستعماري، وتماماً كما يريد الكيان الصهيوني: إبقاء العرب مجزّئين وضعاف ومتصارعين ويخضعون لأميركا، التي لا تأمرهم إلا بفعل ما هو في مصلحة الكيان الصهيوني، الذي قالها المرة تلو المرة، على لسان العشرات من مسؤوليه، بأن حكم هذه المنطقة سيبقى دوماً ملائماً للمصالح الصهيونية وهيمنتها.

يسأل الإنسان نفسه: متى سيقتنع رؤساء البلدان العربية بأن كل ما تقوله لهم أميركا، بشأن أي موضوع كان، لن يتعدّى منطق وسلوك وممارسة الدعاية الكاذبة، التي لا تفعل أكثر من تأجيل الحلول وإبقاء النار مشتعلة تحت الرّماد، واستمرار التراجع العربي في كل حقول الحياة والحضارة؟ وإلا فما تفسير أن يسند لأميركا دورا في محاولة حلّ كل نزاع أو صراع أو خلاف مع أنها دولة لا تمارس إلا الدعاية، التي تخدمها وتخدم أحبّاءها؟
لنسألهم: هل بقي شيء أسمه مؤتمر قمة رؤساء الدول العربية أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي أو مجلس التعاون؟ وهل بقيت ورقة معاهدة أو اتفاق أو مشروع في ما بين الدول العربية لم تعد ممزّقة وملقاة في تراب النسيان والتجاهل؟ ونسال أخيراً وماذا بقي من تكليف الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تحمل رسالته القيمية الأخلاقية الكبرى المشعّة للبشرية كلها؟
نعلم أننا نعيد ونكرر نفس الأسئلة، ولكننا نأمل أن تصبح مثل ممارسة الدعاية قادرة على الدخول في نفوس وعقول وأرواح مسؤولينا، إذا ما كررناها المرة تلو المرة.

*كاتب ومفكر بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى